إن مخطط تفتيت الدول
العـربية قديم، وسبق أن كتبنا (نحن وغيرنا) عنه وعن آفاقه، وأشرنا إلى أنه مخطط
صهيوني أصبحت الولايات المتحدة تدعمه بشكل أو بآخر.
لكن هل هو قَدَر حتمي؟
طبعاً لا يمكن أن نعتبره
قدراً حتمياً، لكنه مجرد خطط إستراتيجية ترعاها إسرائيل وحلفاؤها في الغرب وقد
تنجح في حالات وتُخفِق في حالات أخرى؛ لكن الواقع المشاهَد يشير إلى نجاحها وسيرها
قُدُماً بخطى ثابتةٍ في كثير من الأحوال؛ وإن كانت بطيئة لحدٍّ مَّا .
وكحال أي واقع أو أحداث
جديدة نجد أن واقع التفتيت كما أن فيه ما فيه من مخاطر؛ فإنه يحمل في طياته أيضاً
كثيراً من الفرص.
لقد كانت وظيفة الدولة
الوطنية التي تسلَّمت الحكم في دول عالمنا الإسلامي من الاحتلال الغربي، هي
المحافظةُ على الإرث الغربي المتمثل في الواقع المتغرب للنخب (السياسية
والاجتماعية والثقافية والاقتصادية) في عالمنا الإسلامي، وذلك - طبعاً - جزء من
الإرث الذي كرسه الاحتلال الغربي في عالمنا الإسلامي، وكانت المحافظة عليه بل
تنميته هي المهمة الأولى للدولة الوطنية الحديثة في عالمنا الإسلامي، والجزء الآخر
من الإرث هو المحافظة على تخلُّفنا العلمي والتقني مع تبعيتنا الفكرية والعلمية
والتقنية للغرب، وقد حافظت دولتنا الوطنية على ذلك الإرث كله بامتياز.
أما وظيفة الدويلات
العرقية والوثنية والطائفية التي يريد الغرب أن يؤول إليها عالمنا الإسلامي
والعربي، فهي تكريس حالة من العجز والضعف على كل المستويات (السياسية،
والإستراتيجية، والعلمية، والتقنية، والثقافية، والدينية، والأخلاقية) عبر وسائل
متعددة، منها: التحلل الأخلاقي، والتفكيك الاجتماعي، والتغريب، و (الأوربة
والأمركة) الفكرية والثقافية والدينية. ولكن لا ننسى أن هذه الدويلات الطائفية
والعرقية لن تقوم إلا على أساس من الصراع والتناحر مع محيطها الإقليمي؛ ومن هنا
فإن الصراع والتناحر وسياسة المحاور الإقليمية والحرب الباردة الإقليمية؛ كل هذا
سيظل جوهر الموقف السياسي الإقليمي؛ فضلاً عن أن هذا التناحر الإقليمي لا شك أنه
هو الأداة الأبرز للحفاظ على ضعف الدويلات الناشئة.
إن الخطر الإقليمي
والدولي الأهم في هذه الحالة: هو أن المنطقة سوف تتحول إلى لُقْمة سائغة لإسرائيل
والغرب، بل لكل قوة دولية أو إقليمية بوسعها الانقضاض على القصعة الممتلئة
بالطعـام ألا وهي منطقتنا العربيـة؛ فالهند والصين وروسيا واليابان كلها قوى صاعدة
طامحة طامعة لا ينبغي أن تغيب عن حساباتنا الإستراتيجية.
وكما أن المشهد الجديد
المرتقب لعالمنا العربي هو مشهد قاتم بمخاطره وأدوائه، فإنه لا يخلو من شعاع ضوء
يلوح من ثنايا هذه الأدواء - أدواء الفرقـة والضعف - ينبهنـا لقدر من الفرص التي
لا يخلوا منها أي واقع مهما بلغت درجة قتامته؛ إذ إن الفُرقة والتناحر في هذه
الحالة بالذات سوف يدفعان لمزيد من تحقيق سُنة التدافع التي تعلَّمنا أهميتها من
القرآن الكريم عندما قال الله - عز وجل -: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وقال - تعالى - أيضاً: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وربما يبدو
هذا الأمر مبهماً؛ ولكننا نشير هنا لعدد من الأمثلة مما يقرب الفكرة للأذهان؛
فاستعلاء النصارى في مصر في الشهور الأخيرة واستقواؤهم بالغرب دفع الحكومة المصرية
(في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك) إلى إفساح هامش من الحرية لعدد من القوى
الإسلامية للقيام بمظاهرات، وعَقْد المؤتمرات، وشَنِّ هجوم إعلامي مركَّز على
النشاط السياسي المتزايد للكنيسة المصرية، كما أن المد الشيعي والتهديد بنشأة
دويلات طائفية في كلٍّ من اليمن والعراق وغيرها دفع عدداً من الحكومات العربية
لإفساح المجال للنشاط الدعوي السُّني بعد قَدْرٍ سابق من التضييق، وهكذا قد نرى
حكومات كثيرة تغض الطرف عن نشاط إسلامي مَّا هنا أو هناك لأغراض سياسية مُلحَّة.
صحيح أننا شاهدنا وما زلنا نشاهد في أغلب الأحوال أن الحركة الإسلامية في هذا
المجال مؤثَّرٌ فيها لا مؤثِّرة، لكن ليس من حقنا نحن الإسلاميين أن نطلب الربح
السياسي والإستراتيجي دون عناء التفكير والحساب السياسي والإستراتيجي الدقيق،
والعمل وَفْقَ ذلك؛ فيجب أن نطوِّر أنفسنا فكراً وأداءً كي نستطيع مواجهة متطلبات
المرحلة والارتفاع لمستوى التحديات المفروضة علينا كمّاً ونوعاً حتى نتحول لفاعل
سياسي وإستراتيجي في المنطقة، بل في العالم؛ بدل حالة التأثُّر التي نعيشها رغم
أننا الأجدر بالتطور ومن ثَمَّ يكون الفعل الإيجابي الفعَّال.
ومن التطوير المطلوب أن
يشمل التفكير والأداء الإسلامي المجالات والمستويات الإقليمية والدولية؛ فكما أن
المؤامرة ضد العمل الإسلامي مؤامرة دولية وإقليمية فلا بد من مواجهتها بالأسلوب
نفسه، وكما تتكاتف قوى دولية وإقليمية ضد المسلمين فإن المسلمين لا بد أن تشمل
حساباتهم السياسية والإستراتيجية كل هذه القوى بلا تهاون أو إهمال، كما ينبغي أن
تتكاتف جهود الإسلاميين الإقليمية والدولية، وأن يبحثوا عن صيغ للتعاون في الشؤون
المتفق عليها مع بذل جهود فكرية وفقهية ودعوية مضنية لتوسيع مساحات الاتفاق وتضييق
مساحات الاختلاف.
والتفكير الإستراتيجي من
أبرز سماته الشمول والعمومية؛ وبناءً على ذلك فليس من العقلانية أو الصدق مع النفس
أن نزعم أننا نعمل عملاً إستراتيجياً مَّا وهو لا يراعي المتغيرات الإقليمية
والدولية، هذا مع أن لكل ذلك أصول في فقه السياسة الشرعية الدقيقة الرصينة؛ فالنبي
صلى الله عليه وسلم اهتم منذ بداية الدعوة بالآفاق الإقليمية (قبائل الجزيرة
العربية) والدولية (كالحبشة مثلاً) على الرغم من أنه كان في حالة استضعاف مريرة،
وكان عدد أتباعه وأنصاره لم يصل بَعدُ ألف شخص.
وأيضاً تشير أحكام
السياسة الشرعية إلى الآفاق الواسعة التي غالباً ما يتيحها الاعتماد على المتغيرات
الإقليمية والدولية؛ إذ يقول - تعالى -: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}
[النساء: 100]. إن الآية وإن كانت تتكلم بشكل مباشر وصريح عن فعل محدد من أفعال
العمل السياسي الإسلامي وهو الهجرة في سبيل الله؛ إلا أنها تومئ وتشير إلى السعة
والخيارات الكثيرة التي تتيحها الدوائر الإقليمية والدولية.
وانطلاقاً من هذا كله فإن
عالم ما بعد التفتيت العربي قد يتيح فُرَصاً جديدة من منطلق أنه عالَم جديد له
متغيراته الجديدة بما فيها من فرص جديدة؛ لكن هذه المتغيـرات وما تحملـه من فرص لن
تعمـل بمفـردها؛ بـل لا بد أن نقوم باستغلالها، وقد كان العالم الإسلامي وقت
الهجمة الصليبية على الشام في العصور الوسطى مفتَّتاً وظل مفتَّتاً ومهزوماً حتى
قام قادة إسلاميون: كعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي،
وخلفاؤهم بالتعامل إستراتيجياً مع الواقع ووحَّدوا المسلمين وحرروا الشام من
الصليبيين.