مجزرة سريبرينيتسا دماء لم تزل سائلة
عَظْمتان فقط، عُثِر على كل واحدة منهما بناحية، هو كل ما استطاعت أمٌّ بوسنية جمعه من جسد ولدها المغدور؛ إذ مزقت جسده طعنات التعصب والكراهية والحقد الذي امتلأت بها صدور الصرب المتعصبين.أما عثمان ذو الستة عشر ربيعاً فقد وُجِد رفاته في ستة أماكن متفرقة. إحدى الأمهات تحكي بعد أكثر من عقدين لم أعثر بَعْدُ على والدي، لقد دفنت جدي، وأشقاء زوجي وأولاده وشقيقاته[1].
ارتكب الجنود الصرب فظائع لا يمكن لعقل بشري أن يتخيلها في حق المسلمين في مدينة سريبرينيتسا البوسنية؛ فقد كان الجنود يقطعون أصابع الأطفال فيبترون أصبعين ويتركون ثلاثة رمزاً للتثليث.
ولنا أن نتخيل أيَّ أَلَم يعتصر قلب أمٍّ فقدت ولدها ولم تستطع الحصول على جثته كي تضمَّها وتدفنها بشكل لائق، وأيَّ قهر وانكسار يخيِّم على أُسَرٍ فقدت أفرادها في تلك المجزرة المروعة وقد صارت أقصى أمانيهم بعد طول السنين أن يعثروا على جسد كاملٍ لأبنائهم، يتمنى هؤلاء الآباء والأمهات ألَّا يكون أولادهم أو أقاربهم قد تعرضوا لتعذيبٍ شديدٍ أو تقطيعٍ لأجسادهم وهم أحياء لتُلقى كل مِزقة من أحدهم في جهة، لكن هيهات هيهات! فلا تكاد تجد مقبرة لمن شهد تلك المجزرة من البوسنيين تحوي جثة كاملة.
هذه بعضٌ من مشاهد تلك المجزرة المروعة التي حدثت لمسلمي مدينة سريبرينيتسا البوسنية، إنها مجزرة كاشفة عن جذور الحقد والتعصب المتأصل في قلوب الغربيين كانت وما تزال، وليست مجزرة المسجدين في نيوزيلاندا منا ببعيدة.
بدأت مأساة تلك المدينة الصغيرة بتفكُّك جمهورية يوغسلافيا القديمة مع بداية تحلل الكيانات الاشتراكية القديمة؛ إذ مثَّل عام 1990م بداية انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي الذي أسسه الجنرال (جوزيف بروز تيتو) عام 1941م. في البداية أعلنت كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما ردّاً على أطماع الصرب في ضمِّ جميع أقاليم الدولة في كونفدرالية واحدة يكون لهم النصيب الأكبر من السلطة فيها، ثم تبعتهما جمهورية البوسنة والهرسك بإجراء استفتاء حول استقلالها.
هذا الاستفتاء الذي لم يَرُق لدولة صربيا الجارة فقررت التدخل لمنع هذا الاستقلال بالقوة، وكانت تُكأتُهم فـــــي هــذا الخشيـــــــةَ على الأقليــــــــــة الصربية في البوسنة.
تكونت ميليشيات عسكرية من صرب البوسنة بدعم وتدريب كامل من دولة صربيا وقادتها العسكريين، وفي أبريل 1992م شنت الميليشيات الصربية حملة عسكرية واسعة للسيطرة على البوسنة والهرسك، وركَّزت هجماتها على المناطق المتاخمة للحدود، وكان لمدينة سريبرينيتسا نصيب وافر منها نظراً لموقعها الإستراتيجي؛ فهي تُشكِّل جيباً داخل أراضي صربيا، ومن ثَمَّ يُمكن السيطرة عليها بعزل كل المناطق الواقعة منها إلى الشرق والشمال الشرقي عن باقي أراضي البوسنة. في مارس 1995م طوَّق صرب البوسنة المدينة تحت تعليمات (رادوفان كراديتش) زعيم صرب البوسنة وتم حصار المدينة وتجويعها للضغط على المقاتلين البوسنيين للخروج من المدينة، وعلى إثر ذلك نشبت اشتباكات بين قوات الصرب والبوسنيين وكل هذا على مرأى ومسمع قوات الأمم المتحدة الممثَّلة بالكتيبة الهولندية التي كان من المفروض أن تحمي البوسنيين! وفي يوليو 1995م نجحت قوات صرب البوسنة بدخول سريبرينيتسا والاستيلاء عليها.
في 8 من يوليو حذَّرت القيادة البوسنية في سراييفو الأمم المتحدة من أن عمليات تطهير عرقي قد تقع تجاه المسلمين في المدينة، بعدها خرج السفاح (راتكو ملاديتش) أمام وسائل الإعلام يتجول في المدينة يَعِد سكانها بالأمان والحماية والسماح لهم بالخروج من المدينة. لكن هذا لم يحدث بل كان الظهور أمام الإعلام إحدى وسائل الخداع؛ إذ بعد خروج وسائل الإعلام بدأت المجزرة المروعة، فتم جمع الرجال من سن 15 إلى 50 سنة ثم إبادتهم جميعاً بدم بارد، أما النساء فلم ينجون من الاغتصاب والقتل حتى عجزت وسائل الإحصاء الأممية أن تحصي أعدادهم في تلك المدينة الصغيرة.
تم التعرف على عدد 6557 من ضحايا الإبادة الجماعية من خلال تحليل الحمض النووي لأجزاء الجسم التي تم استخراجها من المقابر الجماعية، وتم دفن 4524 من الضحايا في نصب الإبادة الجماعية التذكاري في سريبرينيتسا.
ويقول أهالي الضحايا إنه ما يزال هناك أكثر من ألف شخص في عداد المفقودين بعد المذبحة التي وقعت في يوليو/ تموز 1995م، ويؤكدون في الوقت نفسه أن العديد من مرتكبي المذابح ضد مسلمي البوسنة ما زالوا طلقاء.
هكذا جرت أحداث تلك الجريمة البشعة في حق الإنسانية، هذه الجريمة ذات ثلاث شعب تكشف بشكل كامل عن زيف ما يدعونه وما يروِّجونه من شعارات خاوية.
الجريمة الأولى: الإبادة الجماعية:
في أبريل 1993م أعلنت الأمم المتحدة أن جيب سريبرينيتسا المحاصر في وادي درينا في شمال شرق البوسنة «منطقةً آمنةً» تحت حماية الأمم المتحدة. ولكن في يوليو 1995م قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام ممثلةً على أرض الواقع من قبل الوحدات الهولندية المكونة من 400 جندي من جنود حفظ السلام سلَّمت المدينة لجيش صرب البوسنة ومن ثَمَّ تم ارتكاب الإبادة الجماعية البوسنية من قبل الجيش الصربي في جمهورية صربيا (VRS) تحت قيادة الجنرال راتكو ملاديتش، الذي ذبح 8373 مسلماً م بوسنياً في يومي 11 - 13 يوليو 1995م. لم تسقط عليهم قنبلة تحصدهم بل سيقوا للذبح كالشياه ومزقت أوصالهم ثم بُعثرَت. أما النساء والفتيات فقد تعرضنَ لاغتصابٍ وحشيٍّ، لم تصمت فقط القوة الهولندية وتغضَّ الطرف عما يقوم به صرب البوسنة بحق المسلمين؛ بل قامت أيضاً بتسليم 350 مسلماً بوسنياً لجؤوا إلى مقر قوات الأمم المتحدة طالبين للحماية، وبكل دم بارد تم تسليم هؤلاء أيضاً للذبح[2].
الجريمة الثانية: سقوط القيم الأوروبية!
تقع جمهورية البوسنة والهرسك في القلب من أوروبا قارة الرجل الأبيض المتحضر الذي ينشر السلام والمحبة والعدل والإخاء بين البشر! وقفت أوروبا كلها تشهد تلك المأساة المروعة التي لم تشهد مثلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يصدر عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلا بيانات الاستنكار والشجب وقرارات هزيلة لم تسطع حماية مسلمي البوسنة من القتل والتشريد.
لقد كشفت مذبحة سريبرينيتسا الوجه الحقيقي الذي يروج له الغرب؛ فمؤسسات الرجل الغربي لا تحمي إلا الرجل الأبيض النصراني، وقيم الغرب المتحضر هي شأن داخلي ولا يحق لغيرهم من البشر أن ينال هذا الشرف، وعندما يتعلق الأمر بالمسلمين فإن تلك الضمائر والشعارات والمؤسسات والمنظمات تتعطل إلا من الكلمات البراقة.
الجريمة الثالثة: تبرئة الجلاد!
تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في عام 1993م بينما كانت الحرب في البوسنة مستعرة. ورغم أنه تم الحكم على بعض قادة تلك المجازر بالسجن إلا أن الوصف النهائي لتلك المحكمة أنها أُنشئت نوعاً من المسكِّنات للأهوال الإنسانية التي حدثت في البوسنة بوجه عام وسريبرينيتسا بشكل خاص. وكأن لسان حال الغرب يقول: نعم! حدثت فظائع لكننا حاكمنا المجرمين وتم إنفاذ العدالة. لكن الحقيقة غير هذا، تقول (كادا هوتج) إحدى الأمهات في سريبرينيتسا في وصفها لتلك المحكمة: «إننا يائسون بشأن المحكمة. يبدو أنهم كانوا يجدون على الدوام سبباً لعدم الإدانة، أحياناً لأن المتهم مريض مصاب بالسرطان، أو أنه كبير في السن، ليس هناك أي حكم. في حالة فويسلاف سيسيلي، تم إطلاق سراحه لأسباب صحية من دون أن تُصدِر المحكمة حكماً نهائياً. لماذا لم يصدر قرار ومن ثَمَّ السماح له بالذهاب؟»[3].
تم توجيه الاتهام للقومي المتطرف (فويسلاف سيسيلي) رئيس الحزب الراديكالي الصربي من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في عام 2003م. لكن المحكمة الجنائية لم تتمكن من الحكم عليه، وبعد 12 عاماً من الاعتقال الوقائي، تم الإفراج عنه لأسباب صحية.
وفي عام 2017م أيدت محكمة في لاهاي يوم الثلاثاء (27 يونيو/ حزيران 2017) حكماً سابقاً يلقي باللوم على هولندا في مقتل أكثر من 300 مسلم على يد قوات صرب البوسنة خلال الإبادة الجماعية التي شهدتها بلدة سريبرينيتسا عام 1995م. ومع ذلك خففت المحكمة بعض اللوم الذي ألقى به الحكم السابق عام 2014م على القوات الهولندية؛ حيث كان قد ركَّز على أفعال أفراد حفظ السلام الهولنديين الذين قاموا بتسليم نحو 350 مسلماً اختبؤوا في قاعدة للأمم المتحدة عن أعين جنود الصرب.
واعتبرت المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا مجزرة سريبرينيتسا «إبادةً عرقيةً»، لكنَّها رفضت عام 2006م تحميل المسؤولية للدولة الصربية مكتفية باتهامها بالتراخي في منع الإبادة. وفي المقابل، أدانت المحكمة زعيميْ صرب البوسنة رادوفان كراديتش وراتكو ملاديتش بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
وحكمت المحكمة أيضاً على الدولة بدفع تعويض جزئي لأسر الضحايا، مضيفة أن عناصر القوة الهولندية في القوات الدولية سهَّلوا الفصل بين الرجال والأولاد المسلمين «مع أنهم كانوا يعلمون بمخاطر حقيقية بتعرضهم لمعاملة غير إنسانية من قبل صرب البوسنة».
الخلاصة: أن بضعة أفراد معدودين تمت إدانتهم بالسجن وبعضهم أُفرج عنه لعدم توافر الأدلة، غير أنه لا إدانة لصربيا التي دعمت وموَّلت تلك الحرب، ولا إدانة لهولندا التـي سلَّمت المسلمين للقتل وتخلت عن حمايتهم.
لكن الدرس الذي لا بد أن يبقى في نفوس المسلمين من تلك المأساة المروعة: أنه لا حياة لهذه الأمة ولا عزَّ لها ما دامت تستحث الخطى خلف تلك الحضارة المزيفة؛ خاصة أننا لم نأخذ من زيفهم إلا أشده زفياً!
[1] 20 عاماً مرت على «مذبحة سريبرينيتسا» على الرابط التالي:
https://bit.ly/2JBIYGC
[2] محكمة: الدولة الهولندية تتحمل جزءاً من المسؤولية عن مجزرة سريبرينيتسا على الرابط التالي:
https://bit.ly/2LYW3eO
[3] محكمة الجزاء الدولية ليوغسلافيا السابقة: محكمة لا تخلو من الجدل، على الرابط التالي:
https://bit.ly/2XRmCEQ