الأدب النبوي في تربية الصغار والشباب من خلال الحوار
الحوار الهادئ مع الشباب له أهمية كبرى، وتعليمهم آداب الحديث وطرقه له فائدة عظمى، لأن هذا يكسبهم الثقة ويورثهم الجرأة والشجاعة، ويشعرهم بالسعادة والطمأنينة، ولقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطائفة من الناس، فكان يسعى إلى محاورتهم، ويصغي إلى أحاديثهم، ويجيب عن أسئلتهم، وربما ابتدرهم بالسؤال دون احتقار لهم أو إقلال من شأنهم، وهو بذلك يهيئهم للقيام بالمهمات العظيمة.
حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع الصغار:
كثير من الناس لا يأبه بمحادثة الصغار، ولا يلقي بالاً لتعليمهم آداب الحديث وأساليبه، فتراه لا يصغي إليهم إذا تحدثوا، ولا يجيب عن أسئلتهم إذا سألوا، بل ربما كذبهم إذا أخبروا، وعنفهم إذا تكلموا، وهذا خلل فادح، وتقصير كبير، إذ إن هذا السلوك يولد الخوف في نفس الصغير، ويورثه التردد وفقدان الثقة بالنفس، إن تدريب الصغير على أدب المحادثة وتعويده على الحوار الهادئ والمناقشة الحرة يقفز بالمربين إلى قمة التربية والبناء، فبسبب ذلك ينطق الطفل ويستطيع التعبير عن آرائه وأفكاره فيكون في المستقبل ذا حضور مميز ويكون لآرائه صدى في النفوس، لأنه تربى في الصغر على آداب الحديث، وليس المقصود الإسراف في إعطاء الحرية المطلقة للصغير فنترك له الحبل على الغارب ونفتح له الباب على مصراعيه، فنسمح له بالوقاحة ونرضى عن التطاول والإساءة، ونضحك إذا صدرت منه عبارات نابية، لا ليس الأمر كذلك، فالرضا عن هذا يغريه بإساءة الأدب، فالمقصود أن نأخذ بيده إلى الآداب المرعية والأخلاق الرفيعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاور الصغار ويداعبهم دون استكبار أو ترفع عليهم، يؤكد ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ[1]. نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا[2]، انظر إلى خلقه صلى الله عليه وسلم الرفيع وتواضعه مع الصغير حيث نزل بجواره يسأله عن طائر كان يلعب به، وربما يسأل سائل: هل وجد النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً كافياً برغم أعباء الدعوة لمحاورة هذا الصغير في هذا الأمر اليسير؟ نعم هذا شأن العظماء فهم لصغار الأمور وكبارها، فكيف بسيد ولد آدم ولا فخر؟ بل تأملوا معي أيضاً حواراً دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غلام صغير جاء الدور عليه في شرب الماء فلم يشأ المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكسر قلبه، أو يجرح مشاعره، بل استأذنه أن يشرب الكبار، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ يَا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟ قَالَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَداً يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ[3]، فالغلام جالس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم والشيوخ عن يساره، ومن السنة البدء باليمين، وأيضاً من المتعارف عليه احترام الكبار وتقديمهم في كل شيء، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم الغلام أن يبدأ بتقديم الماء للكبار، فرفض الغلام لأنه يريد أن يفوز بشرف الشرب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي احترام لمشاعر الإنسان من خلال هذا الحوار؟ وأي رحمة تفوح خلاله؟ لن ينسى الغلام هذا الموقف طيلة حياته؟ وسيظل يذكر إكبار النبي صلى الله عليه وسلم له واحترام رأيه وحقه.
أدب حواره صلى الله عليه وسلم مع شاب يرغب في الزنا:
ورد بإسناد صحيح أن فَتًى شَابّاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ[4].
الرسول صلى الله عليه وسلم حاور هذا الشاب وأدرك أنه صادق، وأنه يريد الزنا بدافع غريزته التي فطر عليها، وأراد الشاب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في ذلك؟ فماذا كان موقف المصطفى حيال هذا الشاب؟ هل عنفه؟ هل كفره؟ هل آذاه؟ لم يعنفه ولم يؤذه ولم يخرجه عن الملة، ولكنه راعى حاله، فأدناه قريباً منه، وأجلسه وحاوره بكل لطف، وبعد أن اقتنع الشاب من خلال تلك الأسئلة الخمسة التقريرية وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وفي ذلك مزيد عطف وحنان، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بل دعا له بثلاث دعوات هو في أمس الحاجة إليها، فكانت النتيجة أن طابت نفس ذلك الشاب، ولم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء.
مشاورته صلى الله عليه وسلم لشاب صغير في أمر عظيم:
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وعلياً في أمر السيدة عائشة رضي الله عنها يستأمرهما في فراق أهله، فماذا كان رد أسامة بن زيد وهو الشاب الصغير الذي لم يدرك سن الخامسة عشرة وبرغم هذا يستشار في هذا الأمر العظيم؟ فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيراً[5]، وفي هذا الموقف العظيم والحدث الجلل تربية للشباب واستثارة لقرائحهم وزرع للثقة في نفوسهم.
حض النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على اختيار الرفقة الصالحة:
إن الإنسان لن يعيش وحده ولا بد له من أصدقاء فإن وفق لمصادقة الأخيار ومجالستهم وإلا ابتلي بمصادقة الأشرار والجلوس معهم، فكما يقلد الإنسان من حوله في أزيائهم يقلدهم في أعمالهم ويتخلق بأخلاقهم، جليسك الصالح يشعر بشعورك، ويهتم بأمورك يفرح بفرحك ويحزن لحزنك، ويسر بسرورك، يحب لك ما يحب لنفسه ويكره لك ما يكره لنفسه، وينصح لك في مشهدك ومغيبك، يأمرك بالخير وينهاك عن الشر، ويسمعك العلم النافع والقول الصادق والحكمة البالغة، ويحثك على العمل الصالح المثمر ويُذَكَّرك نعم الله عليك لكي تشكره ويُعَرفك عيوب نفسك لكي تجتنبها، ويشغلك عما لا يعنيك. لذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على اختيار الرفقة الصالحة، وحذر من رفقاء السوء، لما لهم من أثر سلبي على الفرد، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»[6]، فعلماء القلوب يقولون: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، ومما يؤكد تأثير رفقاء السوء على أصدقائهم الدراسة التي أجراها محمد بن ناصر الشامري عام 1409هـ ظهر من خلالها تأثير أن الأحداث قد ارتكبوا أفعالهم الانحرافية بمشاركة آخرين كما دلت الدراسة على وجود علاقة بين جماعة الرفاق وانحراف الأحداث[7]، فصلاة وسلاماً عليك سيدي يا رسول الله، أمرتنا بكل خير، وحذرتنا من كل شر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] النغير: طائر يشبه العصفور، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 5/190، المكتبة العلمية، بيروت، 1979م.
[2] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، رقم (6203)، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
[3] رواه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، رقم (2351).
[4] رواه أحمد في مسنده 36/545، رقم (22211) عن أبي أمامة، مؤسسة الرسالة، ط1، 2001م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.
[5] رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، رقم (4141)، عن عائشة رضي الله عنها.
[6] رواه أحمد في مسنده 13/398، رقم (8028)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] محمد بن ناصر، دراسة وصفية على الأحداث المنحرفين بدار الملاحظة بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.