معركة الوعي: كيف نقرأ تاريخنا؟
• مقدمة: المعركة في ميدان التاريخ:
يلاحظ متتبع وسائل الإعلام والرأي العام في بلادنا أن الحوار في جانب التاريخ ساخن جداً، فبين التقديس المطلق الذي يعتقد أن نقاء التاريخ من أي شائبة هو ملاذ كرامتنا في واقع يتميز بالبؤس من جميع الجهات، والاحتقار المطلق الذي يظن أن بؤس الواقع هو النتيجة الحتمية لماض ليس فيه أي إيجابية، تقف الأجيال الباحثة عن مخرج اليوم من البؤس نفسه في طيف واسع من ألوان المواقف بين هذين النقيضين، وما لا شك فيه أن ميدان التاريخ هو إحدى الساحات المهمة في معركة التغيير، لأنه بناء على الموقف منه يتحدد المسار: هل بالتبعية لما جاء من الخارج؟ أم بالركون عملياً إلى انتصارات الأمس؟ أم باتخاذها حافزاً لتحقيق ما حققه الأسلاف؟ وكيف؟ هل بالبحث عن سبل لتكرار نفس النماذج الماضية؟ أم بالبناء فوق ما شاده الأسلاف؟
وبسبب أهمية هذا الميدان نلاحظ الرعاية السياسية على أعلى المستويات التي يوليها الغرب لبعض الرموز التي تطعن في تاريخ الإسلام باسم الحرية غير الممنوحة لمن يحاول ممارسة الحرية نفسها في زوايا أخرى من ميدان التاريخ نفسه، وقد يتعرض - بقوة الرأي العام بل بالقانون - لحرب شعواء تنال من كرامته وحريته وسمعته ورزقه، كما نلاحظ التركيز الشديد من مثقفي السلطات العربية على تشويه مراحل تاريخية سابقة لتلميع صورة الأوضاع الحالية، حيث يراد إفهامنا أن صلاح الدين الذي حرر بيت المقدس أسوأ من المستبد الذي يخدم محتلي بيت المقدس، وعبد الحميد الذي لم يتنازل عن شبر من فلسطين أسوأ من الذي يلهث خلف الاستعمار ليقبل مصادقته على التخلي عن ثلاثة أرباع فلسطين.
وبعيداً عن الإجابة عن السؤال النهضوي الكبير: «من المسئول عن تخلفنا وتقدم غيرنا؟»، نلاحظ أن المعركة المحتدمة على الساحة التاريخية تتميز بعدم الإنصاف في قراءة تاريخنا إما بالجهل أو الإهمال أو الازدواجية أو تحميل الماضي أكثر من الحمل الطبيعي أو المبالغة في جلد الذات وغير ذلك من السلبيات التي يجمعها رابط واحد أنها لا تتفق مع الطريقة التي يقرأ بها العالم المتطور تواريخه، برغم أن الهدف من تلك القراءة المنحرفة الجارية على ساحتنا هو اللحاق بالعالم في عصرنا، ولو كان هذا الهدف صادقاً لتعلم أربابه التقليد جيداً وقرأوا التاريخ كما يقرأه معلموهم وما شطحوا تلك الشطحات التي لا يظهر منها سوى الرغبة الجامحة في محق الذات أمام الآخرين لا بسبب فراغ المحتوى التاريخي بل بسبب عدم بذل الجهد المطلوب لإدراكه، فمن يختزل تاريخ الإسلام كله بالعمرين (ابن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما) لا يمكن أن يكون قد اطلع على أي كتاب موسوعي غربي عن الحضارة الإسلامية فضلاً عن أن يكون حكمه أكاديمياً أو حتى ثقافياً، بما يوضح كسلاً في الهمة في الوقت نفسه الذي يطالب فيه صاحبه الأسلاف بتحقيق المعجزات التي تحقق كثيراً منها بالفعل ولكن فتور الهمة هو الذي يجعلنا نجهلها ثم نطالب أجدادنا، بجرأة واضحة، بنشاط نعجز نحن عن بذل عُشره، لا في بذل الجهد مثلهم، بل لمجرد التعرف على ما أنجزوه، نقول إنهم كسالى والتهمة تنطبق علينا وحدنا، فما هي التحديات أمام قارئ التاريخ الإسلامي اليوم والباحث فيه؟
النظرة غير الشاملة للأحداث:
هذا هو العيب الرئيس الذي يقع فيه قارئ التاريخ، فإن وجد حدثاً إيجابياً عممه على كل زمن فاعله، أو إن قرأ عن حدث سلبي عمم صفات القدح والذم على دولة امتدت قروناً دون أن يبحث في تفاصيل الحدث ولا حجم موقعه في التاريخ، ومن أوضح الأحكام الجاهزة التي تطلق في هذا السياق الحديث عن مجزرة أرمنية ارتكبها العثمانيون بوحشية ضد شعب آمن، دون محاولة التساؤل لماذا وقع هذا الحدث بعد قرون من التعايش السلمي، التي على الأقل لم نسمع فيها عن نظير لهذا الحدث الكبير في مسيرة تاريخية تختلف جذرياً عن علاقة الأمريكيين بالهنود الحمر مثلاً والتي طبعها العنف من البداية إلى اليوم؟ ما هو العامل الذي طرأ وتسبب في هذا السيل من الدماء المعروضة؟ ولا شك أن البدء بالإجابة عن هذا التساؤل سيقود القارئ إلى حقائق مذهلة، ثم يأتيك من يزعم أن غزوة بني قريظة هي إبادة جماعية كالإبادات الغربية! هكذا بتعميم لا يأخذ بالحسبان الفرق الهائل بين الصورتين الكبيرتين: مسيرة تاريخ اليهود المزدهرة في العالم الإسلامي على امتداد التاريخ الإسلامي ومسيرة تواريخ الشعوب التي أبادها الغرب ولم تشهد أي ازدهار، دون أن نجرؤ ونطالب مثلاً بتطبيق المعايير نفسها التي تجعل من يتغنى بالشعوب الديمقراطية التي اتخذت قرارات الإبادة والاستعمار والاسترقاق والنهب بطريقة ديمقراطية؛ يحاول تطبيق المعيار نفسه على الحدث القرظي ليرى من الذي اتخذ هذا القرار ومن كان يمثل في مجتمع الأنصار حتى ولو كان الحدث لا يعجب القارئ، ومثل هذا الاجتزاء من يظن أن الاعتراف «باحتلالنا» الأندلس هو علامة الرقي التي علينا أن نقدم عليها حتى تكون مقاومتنا للاحتلال الصهيوني مشروعة، ويغفل صاحب هذه النظرية عن الفرق الهائل بين الظاهرتين، وهو أن فتح الأندلس لم يؤد إلى إبادة ولا تهجير أهلها الأصليين وأن معظم المجتمع الإسلامي في الأندلس كان من السكان الأصليين مثل كل المجتمعات الإسلامية الأخرى من إندونيسيا إلى مالي وهم الذين حملوا عبء المقاومة الموريسكية ضد تغيير الهوية الإسلامية لشعب الأندلس، فتشبيه فتح الأندلس بالاحتلال الصهيوني فروسية في غير مكانها ولا حتى زمانها، في وقت يرفض العالم الغربي كله الإقرار بكون الصهاينة محتلين في أرض فلسطين، وعلى هذا فإن ما يتصوره البعض سمواً أخلاقياً بتقديم هذا الاعتراف بما يخص الأندلس ليس سوى استسلام مجاني بلا مقابل، وهناك من يقرأ في صحيفة - لو قرأ فعلاً - أن المسلمين أحرقوا مكتبة الإسكندرية حين الفتح، ولا يكلف نفسه البحث في تفاصيل الحدث الذي لم يستقر بعد على رأي معين، ولا يرى في السياق - حتى لو صدق هذه التهمة - أن حرق المكتبات ظاهرة بشرية عامة كتب الكثير عن تاريخها العالمي وما زالت ترتكب في زمننا المعاصر وترتكبها دول عظمى (احتلال العراق مثلاً) دون أن يجرؤ أحد على اتهامها بالتهم الجاهزة التي ألقيت على تاريخ المسلمين وكأن الحدث حصري فيه، وهي تهم بمجرد النظر نكتشف أنها لم تنطبق عليه قط فلا إحراق المكتبة - لو ثبت - يعني انتصاراً للجهل في حضارة أثبتت تفوقها العلمي في ذلك الزمن، ولا كان هذا الإحراق دليل اضطهاد في قطر احتل موقع الصدارة في معظم تاريخ المسلمين.
خلاصة الحديث أن الاستشهاد بالماضي يجب أن يكون شاملاً وليس مبنياً على الحوادث المعزولة، وعندما نريد الخروج باستنتاج عام لا يكفي أن نقول: فلان عمل كذا، للاستدلال على نتيجة عامة، لأن الصورة الأوسع قد تحتوي على تفاصيل أخرى تقلل من أثر العمل السلبي أو الإيجابي المستشهد به وربما قلبت الاستنتاج رأساً على عقب، فمن آفات البحث التاريخي الاختزال؛ يأتي المؤرخ المزيف ويركز على نقطة واحدة من إحدى حقب التاريخ ويعممها على الفترة كلها متناسياً النقاط الأخرى.
عدم وضع الحوادث في سياقها الزمني:
هذا العيب في القراءة يجعلنا نحاكم الماضي وفق ظروف الحاضر التي لم تكن على بال الماضين، فيأتيك من يرفض الفتوحات الإسلامية في زمن كان الفتح هو المنطق السائد في كل العالم، ومن لا يعرف فليتذكر سيرة الروم والفرس، والواجب هنا هو قراءة الحدث في زمنه كيف تم وبأي شروط؟ هل أفضل أم أسوأ من الآخرين؟ وليس بفرض قيم زمننا الخيالية التي لا يلتزم واضعوها بها ويمارسون الفتح يمنة ويسرة ثم ينعتوننا بأننا المخطئون بسبب ما حدث قبل أكثر من ألف عام وهم يمارسون أسوأ منه اليوم، والكلام نفسه ينطبق على تشبيه الفتوح الإسلامية بالاستعمار الغربي، وهي مفارقة تاريخية تخلط الأزمان ببعضها وتحاول إسقاط ظاهرة حديثة على ماض لم يفكر أصلاً بها كما أنه يختلف جذرياً عنها بطريقة لا تحتاج نظراً ثاقباً؛ وذلك عند معاينة بقاء كل الشعوب الأصلية التي دخلتها الفتوح الإسلامية في مقابل الإبادات الشاملة التي وقعت في ثلاث قارات من العالم دهمها الاستيطان الغربي، هذا إذا لم نلحظ أن الغالبية العظمى من الشعوب التي دخلتها الفتوح اعتنقت هوية الفاتحين بلا إرغام في معظم الحالات في فترة امتدت لألف عام، وصارت تحتفل بأعيادهم في ظروف تفوّق فيها المغلوب على الغالب خلافاً لمعظم الشعوب التي دهمها الاستعمار والتي صارت أعيادها هي أعياد فراق المستعمرين وجلائهم واستقلال الأقطار المحتلة عنهم بعدما لم تنل من الاستعمار سوى التخلف والنهب وانقسام العالم بين نخبة مرفهة مترفة وغالبية بائسة مفقرة، كل هذه فروق يمكن إدراكها بمجرد النظر ولكن الكسل المعرفي يجعل من الآراء الجاهزة سبيل تحصيل الحقيقة المطلقة دون بذل أي جهد، هم يرفضون أن نكون جزءاً من منطق ماضينا بالفتح، كما يرفضون أن نكون جزءاً من واقعنا اليوم بالوحدة والتكتل حيث تسعى كل الشعوب لذلك.
وهناك من يسقط همومنا الحالية ومعاناتنا من الصهيونية على الماضي ويلوم تاريخنا بسبب المعاملة الحسنة التي لقيها اليهود في المجتمع الإسلامي ليخرج بتركيبة عجيبة وهي أن تساهل تاريخنا هو الذي زرع الصهاينة في واقعنا، حتى ذهب بعض الحالمين إلى لوم السلطان صلاح الدين وتحميله مسئولية الاستيطان اليهودي المعاصر في فلسطين، فهل كان مطلوباً إليه ترك الحرب المحتدمة مع فرنجة كل أوربا والنظر في ما وراء حجب الغيب ليستعد لمعركة ستنشب بعد قرون طويلة ضد من كانوا في عصره مجرد أفراد من أقلية يهودية لا قيمة لها؟ دع عنك لوم العثمانيين برغم أنهم لم يسلموا شبراً واحداً للسيادة الصهيونية بما اقتضى إزالة سيادتهم على فلسطين، وهو زلزال أصاب المنطقة يشبه النكبة والنكسة كما يقول الدكتور وليد الخالدي، ثم إصدار وعد بريطاني لإنشاء الوطن القومي، ولا مانع لدى أصحاب هذا الرأي من جلد تاريخنا في موقع آخر لأنه لم يحسن معاملة الأقليات، وهكذا تتقلب الآراء والأقوال والجامع بينها هو الرغبة في الإدانة سواء أحسنا أو أسأنا، وهذا واضح عندما يتصدى مؤرخ لجلد التاريخ في الموضوع الفلسطيني وهو يصفق في الوقت نفسه للأنظمة التي خانت وفاوضت وتخلت وتنازلت وأقرت واعترفت على رءوس الأشهاد بالاستيطان الصهيوني في فلسطين.
ويتساءلون عن الأمية في زمن العثمانيين والجهل الذي فرضوه على بلادنا، وينسى صاحب السؤال حقيقة بادية كالشمس أنه يلقي بالتهمة على دولة عظمى استقرت على القمة قروناً طويلة، وأنها لا يمكن أن تكون بهذا الجهل المزعوم وهي تواجه الضربات من جميع الجوانب من دول كبرى وتنتصر عليها، ولكنه يطالب الأسلاف بأن ينشروا التعليم دون أن يبذل هو جهداً لتعليم نفسه فقط وقراءة الظاهرة في سياقها حيث إن افتقاد الشهادات لم يكن يعني قبل زمننا المعاصر الكسل والجهل والركود لأن العمل والاجتهاد لم يكن مربوطاً بجامعات بدليل أننا نلنا الكثير من شهاداتها العليا في هذا الزمن ولكننا لا نستطيع صناعة قلم رصاص بها فضلاً عن أن يكون لنا شأن بين الأمم كأسلافنا في زمنهم.
ويأتيك أيضاً من يخرج التاريخ من طبيعته البشرية ويتساءل بهدف التعجيز وليس الاستعلام: لماذا تخلى العثمانيون عن الأندلس؟ هكذا بحكم قاطع دون تكليف النفس مجرد فتح صفحات عن من بذلوا أعمارهم ودماءهم لإنقاذ الأندلسيين في زمن لم يكن المتاح فيه أكثر من ذلك (هل حاسب السوفيت لماذا لم يغزوا الولايات المتحدة دفاعاً عن فيتنام؟)، ولما هُزموا في وجه الاستعمار (هل سألوا عن انتصاراتهم حتى في زمن ضعفهم؟)، ولماذا لم يفعلوا ولماذا لم يقدموا؟ هو نفسه جالس في بيته يرفض القيام بالجهد ويحاسب الآخرين عن ظاهرة طبيعية جداً في تاريخ كل الحضارات والأمم والشعوب والبشر، وهي حدود الإمكانات وظاهرة الضعف بعد القوة، لا يعجب من العجيب فعلاً وهو استمرار دولة عظمى لمدة قرون أكثر من معظم الدول في التاريخ، ولكنه يعجب مما لا يتعجب منه وهو الهرم الطبيعي.
تحميل الماضي أوزار الحاضر:
من العيوب الشائعة في مقابل إسقاط هموم الحاضر على الماضي تحميل الماضي أوزار الحاضر، فنحن متخلفون متعصبون منقسمون دمويون لأن هذا هو تاريخنا، ويأتيك بلحظات الفتن والحروب التي لا يخلو منها تاريخ أمة وكأنها خاصة فقط بأمتنا بين كل الأمم المسالمة الإنسانية العقلانية الديمقراطية المتطورة! مع أن هناك في الغرب من يرى وضع السلم الحالي فيه مجرد استثناء من تاريخ صراعات محتدمة، نعم مواطننا يطالب بالتطور دون أن يبذل جهداً لتطوير معارفه التي يجب أن تتساءل التساؤلات نفسها التي منها ما طرحه أكاديميون وساسة غربيون: إذا كان المسلمون متخلفين فعلاً فلماذا تدخل الغرب في كل مرة في العصر الحديث لتحطيم أي محاولة نهضوية في المشرق العربي الإسلامي بقوة السلاح؟ وإذا كانت الدموية صفة خاصة بالمشرق، فمن الذي صنع الحروب العالمية وحروب الإبادة والغزو والاستعمار والنهب في العصر الحديث؟ وإذا كان الدم صفة مشرقية فمن الذي أراق دماء الملايين في ثورات روسيا والصين التي تحظى بتقديس واسع؟ وإذا كان في المشرق معارك صفين والجمل، فماذا عن الحروب الأهلية التي اندلعت في العالم المتمدن في عصر العقل والأنوار وليس في العصور الوسطى فأتت على الآلاف بالجملة في كل مرة؟ وكيف يمكننا أن نحمل الماضي عنف الحاضر وقد رأينا أن العنف الصهيوني ظاهرة حديثة استغلت تراثاً يهودياً ظل هاجعاً آلاف السنين إلى أن طرأت مصالح استعمارية قرأته بانتقائية وخرجت بنتيجة لم تخطر ببال اليهود لقرون؟ فهل الظواهر العنيفة وليدة الماضي أم الحاضر الذي يستخدم الماضي مجرد ديباجة إعلامية تبريرية لأطماعه؟
تفسير التاريخ بالحفر في النوايا:
نعم بهذا يشوهون أي إنجاز قائلين: كان هدف العثمانيين من التوجه نحو المشرق الهيمنة على العرب، هكذا لا دليل غير النية التي لم يطلع عليها أحد، دون الأخذ في الحسبان الواقع الموضوعي الذي أثبت ظواهر الهجوم الأوربي الذي بدأ من جهة الإسبان والبرتغاليين وطوق العالم العربي لولا النجدة العثمانية، أما أوربا التي تعلم أن كولومبس استهدف إحياء الحروب الصليبية والعودة إلى احتلال بيت المقدس كما صرح بنفسه، فلم تشوه الكشوف الجغرافية وما زالت تحتفي بإنجازاتها الضخمة، ونحن نرفض أي إنجاز، فإذا قام العثمانيون بمشاريع مواصلات ضخمة قلنا إن هدفهم إحكام قبضتهم على بلادنا، وكأن المطلوب من أي دولة إرخاء قبضتها على أراضيها وتركها لقمة سائغة للأعداء لاسيما في زمن الهجوم العام، أما أن يكون إنشاء شبكة المواصلات في الولايات المتحدة لأسباب استيطانية وعسكرية فهذا ما لم يلفت انتباه أحد إلا للتبجيل والمديح، وإذا لم يقم العثمانيون بهذه المشاريع قلنا عزلونا عن العالم!
الفهم غير الصحيح لقاعدة المقارنة التاريخية بين الحضارات:
تشيع المقارنة الحضارية في الأوساط الشعبية كالتالي: مقارنة النموذج الداخلي الغربي بالواقع الشرقي دون تحديد دقيق للمسئوليات، نعم فالغرب ديمقراطي إنساني عقلاني دون معرفة التكاليف التي أوصلته إلى هذا المستوى، والتي يكون فيها اضطهاد القائم بالمقارنة، فهو وأمته وبلاده جزء أساسي من المعادلة التي أوصلت الغرب إلى هذه الرفاهية، فحصول 20% من سكان الأرض على 80% من مواردها يعني بلا شك أن يحصلوا على حياة مرفهة يتطلع كل الناس للانضمام إليها دون معرفة أن هذه الرفاهية قائمة أصلاً على نهبهم، فهم يرون واقع الغرب في داخله ويشطبون مسئوليته عن الأوضاع في الخارج برغم قوته وهيمنته وسيطرته العالمية، أما على مستوى الثقافة فإن المثقف يرى الغرب في كتب النظريات: هناك حرية وديمقراطية وإنسانية وعقلانية وعلمانية، دون البحث عن تكاليف تطبيقاتها العملية التي تطلبت إبادة ثلاث قارات (الأمريكتان وأستراليا) واستعمار الرابعة (آسيا) واسترقاق الخامسة (إفريقيا)، حتى استقر الأمر اليوم على معادلة النهب السابقة التي سعى إليها الغرب منذ نهضته وتقسم العالم بين نخبة مرفهة وأغلبية مقهورة بالنظام العالمي والقانون الدولي، والعصا لمن عصى، هذه التكاليف لا يراها المقارن ويقتصر على وضع النظريات البراقة في مواجهة سلبيات واقعية أو مضخمة من تاريخ الإسلام، مع أن المفروض هو مقارنة نظرية بنظرية أو واقع بواقع كما قال المفكر الكبير روجيه غارودي، ولا يجوز أن تكون الأحكام مزدوجة فنذم الدولة العثمانية بسبب ضريبة الدوشرمة التي كانت تجمع الأولاد من شرق أوربا لتعليمهم وترقيتهم في السلك الوظيفي والعسكري العثماني، وإن كان ذلك بأسلوب مرفوض شرعاً بسبب فرض الإسلام عليهم، وفي الوقت نفسه أن نعلي من شأن الثورة الصناعية الغربية برغم كل الأذى الذي ألحقته بالأطفال العمال الذي بدأ بعدما انتهى العمل أصلاً بالضريبة العثمانية، ولا يجوز أن نختزل التاريخ العثماني في عادة قتل إخوة السلطان ونترك الممارسة نفسها في التاريخ الإنجليزي الذي لا يحصل إلا على التبجيل والترفيع.
ولهذا فإن أنصار التغريب عادة ما يقدسون نموذجاً غربياً مثالياً لا وجود له في الواقع ويطالبون الآخرين بنفس الدرجة من تقدسيه الذي لا يمكن أن يقوم إلا على الجهل؛ لأننا لو حاولنا البحث سنجد أن العيوب نفسها التي عابوها على تراثنا وتاريخنا حقاً أو افتراء، موجودة نفسها في تواريخ الآخرين، ولكن معظم الانحرافات الكبرى في تاريخ الإسلام (الحكم الوراثي، التعالي العربي ونقيضه الشعوبي، تجاوزات معاملة الرقيق) تمت ضد الشريعة الإسلامية، ومعظم الانحرافات في تاريخ الغرب (العنصرية وحروب الاستعمار والإبادة ونشر الأفيون والاسترقاق والاستغلال والنهب والديون وتفكيك المجتمعات وتدمير وسائل معيشتها وجعلها تابعة وإدامة تخلفها) تمت بسبب الفكر الغربي النفعي وبعيداً عن الشعوذة الفكرية المطالبة بآلية تصحيح الأخطاء ذاتياً ومنع الانحراف بمؤسسات لا يبدو أنها قدمت الكثير لضحايا التاريخ الغربي نفسه، في الوقت الذي لم تصمد فيه طويلاً عدة انحرافات في تاريخ الحضارة الإسلامية، وإذا كان الإسلام «لم يوقف» انحرافات أتباعه فإن الحضارة الغربية شجعت انحرافات أتباعها ولا يبدو أنها قادرة على أكثر من تحديث أشكال الانحراف لا إلغائها، فمن الاسترقاق إلى الاستعمار إلى التجارة الحرة، وفي كل مرة تنتهي مصيبة وتبدأ مراجعتها والبكاء على ضحاياها تبدأ طامة أخرى دون أن نرى نهاية لهذا النفق المظلم في معاملة الآخرين والتي توثقت بإلصاقهم برتبة «العالم الثالث» الذي مازال في مكانه ودرجته المتأخرة المنفصلة بعالم افتراضي كامل (العالم الثاني) عن الجنة الغربية النخبوية الحصرية بعد زوال القطبية الثنائية، بل لقد كانت هذه القطبية حافزاً للمعسكرين على التنافس في تقديم الإغراءات والامتيازات للمتأخرين (كما حدث في اليابان)، وهو ما لم تعد إليه حاجة اليوم، في الوقت الذي يضمن فيه ثبات القيم الإسلامية استمرار مرجعية تتجاوز ترسيخ الانحرافات عبر التاريخ وتدعو باستمرار لتطهيره منها مهما طال زمنها كالحكم الوراثي الذي لا يصلح أي تبرير بهلواني في إلصاقه بالأحكام الشرعية.
يظن البعض أن كون الحضارة الإسلامية كانت عظيمة وسائدة يعني أن ليس فيها عيوب وثغرات، وأن التطرق إلى هذه العيوب يعني شطباً مطلقاً ونزولاً إلى الهاوية، وليسوا مستعدين لسماع أن بعض حكام الدولة الأموية مثلاً فرضوا الجزية على من أسلم من غير العرب محافظة على إيرادات الدولة، وهي حقيقة ثابتة نجدها في جميع الكتب التي أرخت لحياة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز الذي ألغى هذا التجاوز لأن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً، ولكن علينا أن نتذكر ونحن نتحدث عن هذا التجاوز أن تبني العصبية العربية أفضى إلى نهاية الدولة في عمر رجل واحد (92 سنة) ثم تسلم الأعاجم راية المشروع الإسلامي وحملوه على أكتافهم حتى تنحى العرب في النهاية عن السلطة لصالح من هم أكثر حماساً منهم، دون أن تتوقف مشاركة أحد في المسيرة، إذن قامت دورة الحضارة الإسلامية بتصحيح الخلل من الداخل وفي النهاية اندمجت كل المجتمعات التي فتحها المسلمون في منظومتهم ولم يعد هناك تراتبيات عرقية، بل وجدنا عواصم الحضارة الإسلامية تنتشر خارج المهد العربي في سمرقند وبخارى ونيسابور وأصفهان وقرطبة ودلهي وغزنة والقيروان وفاس وإسطنبول والقاهرة وتمبكتو، ولم يتم قمعها لصالح أي استغلال عربي كما فعل الاستعمار الغربي.
إن على من يكيل المديح للجنة الغربية أن يعرف بالضبط مكانه منها، أي مكان أمته وبلاده وأهله، لا مكانه الفردي بصفته قادراً على الدخول في خدمة هذه العزبة أو الالتحاق بها عبر أمواج البحر، وأن يعرف ما يقدمه صاحبها لنشر الرخاء في العالم حوله وليس في بيته فقط وعلى حساب الآخرين، أما بغير ذلك فسنظل كالضحية التي تتباهى بما أنجزه اللص بمسروقاته من ممتلكاتها (أعجب كثيراً من ضحايا يقعون تحت الاحتلال الصهيوني ويفاخرون بإنجازات الغرب مع أن من أهمها اختلاق الكيان الذي يضطهدهم ويقتل ويشرد وينهب شعبهم وكأنهم بتباهيهم بتقنية الغرب يبيعون أوطانهم بجهاز هاتف جوال!
• أهمية القراءة في تفعيل الثقافة التاريخية العامة ومعالجة الثغرات في قراءة التاريخ:
القراءة هي وسيلة التحصيل الثقافي التاريخي الأضمن، ومن يريد الاطلاع على التاريخ وامتلاك ناصيته ويتمكن منه عليه أن يقرأ كثيراً في الكتب والمراجع المتخصصة ويطلع على مؤلفات لمؤرخين ذوي توجهات مختلفة، حينئذ سيقرأ الحدث الواحد من أكثر من زاوية ويتمكن من معرفة الثمين من السقيم من الأقوال المتعلقة بتفسيره وما هو الصحيح والمكذوب والضعيف من الوقائع المتصلة به كما سيعرف الحدود التي يمكن الذهاب إليها في تفسير الحدث حتى لو كانت بعيدة الاحتمال، وقد يقوم بالتحقيق في الحوادث كما يفعل شرطي التحري ليستخرج الحقيقة من أكوام الزيف، والاعترافات مما بين السطور، وهذه هي أكثر الطرق وثاقة للحصانة الثقافية عند العقول الراجحة، والأهم من كل هذا سيتعلم القارئ كيف تكون آداب العلماء وطريقة عرضهم للمعلومات بتوثيق مكثف وخلق رفيع يجعلهم كلما ازدادوا علماً زاد يقينهم بجهلهم، وبغير سعة الاطلاع هذه ستكون المصادر إشاعة من هنا، ومشهداً تلفزيونياً من هناك، وسطراً منحولاً من هذا، وكذبة من ذاك، أي باختصار ستكون الثقافة التاريخية مشوهة وتجعل صاحبها يخبط خبط عشواء ويأتي من البدع ما يخرج عن طبيعة التأريخ نفسه فضلاً عن الخروج عن طبيعة سرد الواقعة موضع الحديث، والمصيبة أن المتحدث بذلك الجهل يظن أنه يتكلم بلسان الحقيقة النهائية التي لا مرد لها، ويدافع عنها بكل وسيلة ممكنة ويصبح اللجوء حينئذ إلى العنف الكلامي والبذاءة اللفظية فضلاً عن السخرية والتهكم بالمخالف هو النتيجة الطبيعية والتعويض المنطقي عن قلة استعمال البضاعة الثقافية وذلك في محاولة لفرض الرأي الشخصي وسيتحول الحوار من زمالة نحو معرفة الحقيقة إلى حلبة مصارعة كلامية حرة يكون الهدف فيها هو الظهور والانتصار والغلبة بالضربة القاضية فننسى الهدف الرئيس بل تكون الحقيقة هي الضحية الكبرى وتستمر طاحونة الجهل والتخلف في طحننا بين دواليبها.