مثارات الغلط في مقاصد الشريعة
علم مقاصد الشريعة علم دقيق، لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه، واستقام فهمه، واتسعت
معارفه من نصوص الشرع وكلام فقهاء الشريعة، وهو مع دقته وتعلقه بكثير من القواعد
المنهجية وجد اهتماماً واسعاً في هذا العصر، جعله مداراً لأطروحات المختص وغير
المختص، بل استخدم كعنوان براق لتبرير تعطيل أحكام الشرع، والخروج عليها، مع أنه
إنما قرر أصلاً ليكون وسيلة لتفعيل أحكام النصوص الشرعية بنقلها لمواضع أخرى بحيث
يتسع نطاق النص فيدخل فيه ما لم ينص عليه صراحة.
وفي هذا المقال الموجز عرض لجملة من مثارات الغلط التي قد تعرض لمن تناول هذا
الفن، أو بحث فيه تأصيلاً أو تنـزيلاً.
تعريف علم مقاصد الشريعة:
المقاصد:
جمع مقصد، وهو مصدر ميمي من الفعل: قصد، ومن معانيه: الأَمُّ، والاعتماد[1].
والقصد: استقامة الطريق، والقصد: إتيان الشيء. تقول: قصدته وقصدت له وقصدت إليه
بمعنى. قال ابن فارس: «القاف والصاد والدال أصول ثلاثة، يدل أحدها على إتيان شيء
وأمه، والآخر على اكتناز في الشيء. فالأصل: قصدته قصداً ومقصداً. ومن الباب: أقصده
السهم، إذا أصابه فقتل مكانه، وكأنه قيل ذلك لأنه لم يحد عنه»[2].
والشريعة:
هي مورد الماء والظاهر المستقيم من المذاهب، وتطلق في الاصطلاح على ما سنه الله
تعالى من الأحكام، وأنزله على أحد أنبيائه[3].
وعلم المقاصد:
علم يُعنى بالأغراض والمصالح التي لأجلها شرع الله تعالى الشرائع[4].
مثارات الغلط عند من يتناول المقاصد:
عند دراسة كتابات المعتنين بالمقاصد تأصيلاً أو تنزيلاً واستثماراً يمكننا أن نلحظ
جملة من الأمور التي توصل للغلط في استثمار المقاصد أو تفعيلها، ومن هذه الأمور:
1-
الغلط في إلحاق الفعل بأحد مراتب المقاصد:
فتصنيف الأحكام الشرعية في مراتب المقاصد - من الضروري والحاجي والتحسيني - عمل
اجتهادي، ومن هنا قد يقع الغلط في إلحاق الفعل بإحدى المراتب.
كما أن إلحاق الفعل بمرتبة من المراتب قد يتغير بحسب الزمان والمكان والحال، قال
الشاطبي:
«تنزيل حفظ الضروريات والحاجيات في كل محل على وجه واحد لا يمكن بل لابد من اعتبار
خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية»[5].
ويتحدد إلحاق المقصد بأحد هذه المراتب بنوع المصلحة المترتبة عليه، والمفسدة
المندفعة به، وحجم المصلحة أو المفسدة، وحكمه التكليفي، وصيغة طلبه، والعقوبة
الزاجرة عن فعله أو تركه، وهي أمور اجتهادية دقيقة، من لم يكن من أهلها أخطأ في
تنزيلها.
2-
الغلط في الموازنة بين المصالح:
الموازنة عمل دقيق، تكتنفه عدة مخاطر، ولذا فهو يحتاج لفقيه نفس متمكن من علوم
الشرع، مستبصر بواقع الحال مدرك لمآلات الأفعال وآثارها.
والمعيار الصحيح لإدراك المصالح والمفاسد هو الكتاب والسنة، وهذا أمر تدركه الفطر
السليمة، والعقول الصحيحة؛ ولذا فالمعتبَر في معرفه المصلحة هو النص الشرعي، فإن
الشرع لا يهمل مصالح العباد[6].
ومن معايير الموازنة:
- مراعاة الحكم الشرعي والارتباط به: فما كان من جنس الواجب فهو أولى بالتقديم على
ما هو من نوع المندوب[7].
- النظر إلى نوع المصلحة: فالضرورات الخمس متفاوتة فيما بينها، فحفظ الدين يسترخص
لأجله النفس والمال، وحفظ النفس مقدم على حفظ المال، فإنها تفتدى بالمال، والمال
يمكن استدراك ما يفوت منه بخلاف النفس. واستقر الأمر عند جماهير أهل العلم على أن
ترتيب الضروريات الخمس كما يلي:
الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم النسل، ثم المال.
والتحقيق أن ترتيب الضروريات هو من حيث الجملة، وأما في أعيان الوقائع فليس له
قانون واضح يعول عليه، بل تتفاوت باعتبار تفاوت المصالح والآثار.
- النظر في عمومها ومدى شمولها: بأن تحقق النفع لعموم الناس أو أكثرهم لا تخص
أفراداً معينين دون غيرهم ولا فئة ما دون بقية الناس.
- النظر في تأكد الوقوع من عدمه: بأن يقطع المجتهد بأنَّ هذه المصلحة سوف تتحقق
وتقع أو يغلب على ظنه ذلك.
- مدى استمرارها الزمني وهل تنقطع المصلحة أو المفسدة بعد مدة أم تبقى زمناً طويلاً[8].
3-
تقصيد ما ليس مقصداً:
فالمقصد لابد أن يتضمن مصلحة، وأن تكون معتبرة في الشرع، وأن يكون التعرف عليها
مأخوذاً من طريق شرعي مقبولاً بحسب قواعد الاستدلال، فلا يكفي كون الشيء مصلحة
لجعله مقصداً إذا لم يشهد له الشرع بالاعتبار، ولذا يقول الغزالي:
«اتباع المصالح مع مناقضة النص باطل»[9].
ويقول أيضاً:
«كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فُهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح
الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة»[10].
فلابدَّ أن يكون لتلك المصلحة ما يشهد لها بأنَّ الشريعة تسعى لتحقيقها كأن تدخل
تحت أصل عام من أصول الشريعة أو قاعدة من قواعدها أو أن يرد في الشرع ما يشهد
لنوعها أو لجنسها.
والشرع لا يعتبر من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح، محصل لمصلحة أو دافع لمفسدة[11].
4-
الغلط في الجمع بين المقصد والدليل الجزئي:
فلا يسوغ مطلقاً تعطيل الدليل الجزئي مراعاة للمقصد، بل إن وجود الجزئي مخالفاً
للمقصد قادح في اعتبار المقصد، يقول الشاطبي:
«الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله،
لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا
يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى
تكليف ما لا يطاق، وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله، فإذا كان لا يحصل إلا
بحصول الجزئيات، فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات.
وأيضاً، فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت
فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي، فإنه مع
الإهمال لا يرجي كلياً بالقصد، وقد فرضناه مقصوداً، هذا خلف، فلا بد من صحة القصد
إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصــد إلى الجميع،
وهو المطلوب»[12].
ولا يسوغ إهدار دليل جزئي مراعاة للمقصد إلا بطريق الاستحسان ووفق قواعده، بعد
محاولة الجمع بينهما.
قال الشاطبي:
«فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من
الوجوه المخالفة، فلابد من الجمع في النظر بينهما»[13].
وقاعدة ذلك:
مراعاة مرتبة المقصد ومرتبة الدليل الجزئي، بالتفريق بين المقصد القطعي من الظني،
والدليل القطعي والظني في دلالته وثبوته، وما يمكن تأويله تأويلاً صحيحاً وما لا
يمكن، والمقصد الذي يفوت والمفاسد المتوقعة، وليحذر الناظر في ذلك من الوقوع تحت
وطأة تبرير الواقع والرضوخ له بلا اعتبار لأصول الشرع.
ومثاله:
ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل،
والبر بالبر مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل،
فمن زاد أو ازداد فقد أربى»[14].
فقد اختارت مجامع الفقه المعاصرة أن علة جريان الربا في الذهب والفضة هي الثمنية.
وعليه، فالنقود تشترك معها في العلة وبذا لابد في وفاء القروض من التماثل، وهذا
الحكم شرع لتحقيق العدل ومنع الظلم بالزيادة في أحد العوضين.
فإذا حصل التضخم بانخفاض سعر العملة، فكيف يقضى الدين؟
قيل:
يقضى بمثله متابعة للنص، وبهذا سيحصل ظلم في حق المقرض الذي سيرد له أقل مما أنفق،
وهذا معاكس لقصد تشريع منع الزيادة، وقيل:
يقضى الدين بقيمته وقت القرض، وهذا وإن حقق العدل فقد خالف ظاهر النص.
فإذا دفعت المثل حافظت على الدليل الجزئي، وإذا نظرت إلى مقصد العدل الذي شرع الحكم
لأجله أجزت الزيادة، فلذا وقع هذا الخلاف بين المعاصرين[15].
اللهم وفقنا للحق، وألهمنا رشدنا، ويسر الهدى لنا، لا إله إلا أنت.
:: مجلة البيان العدد 350 شــوال 1437هـ، يـولـيـو 2016م.
[1]
لسان العرب
(3 / 353)،
القاموس المحيط ص310.
[2]
مقاييس اللغة
(5 / 95).
[3]
القاموس المحيط ص732،
مقاييس اللغة
(3 / 262).
[4]
انظر:
مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور
(251)،
مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها:
علال الفاسي
(3).
[5]
الموافقات
(4/228).
[6]
انظر:
شفاء الغليل للغزالي ص220.
[7]
قواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام
(1/7-24).
[8]
انظر:
ضوابط المصلحة ص249،
نظرية التقريب والتغليب ص330.
[9]
شفاء الغليل ص220.
[10]
شفاء الغليل ص258.
[11]
انظر:
الفروق للقرافي
(4/7).
[12]
الموافقات
(2/97).
[13]
الموافقات
(3/173).
[14]
أخرجه مسلم
(4066).
[15]
انظر:
دراسات في أصول المداينات، د.نزيه
حماد، ص205.