التحليل الألسني للقرآن
ضخامة العناوين وضآلة المضامين
تَمْلَأُ مكتباتِنا وإعلامنا المرئي والمقروء اليومَ المصطلحاتُ الرنانة الفارغة من
العلم النافع والعمل الصالح، «وهما مادة نور الإيمان» كما يرى الحافظ ابن القيم
رحمه الله تعالى[1].
وهذه المصطلحات تحمل عناوين ضخمة، يَتَهَيَّبُهَا الناظر للوَهْلَة الأولى، وسرعان
ما تزول تلك الهيبة عند الوقوف على حقيقة تلك العناوين، وما تحتويه من ضآلة
المضامين.
ومن تلك المصطلحات التي طالما ردَّدَها رواد القراءات المعاصرة للنص الديني:
«التحليل الأَلْسُنِي».
واللسانيات أو الألسنيات: فرع من علوم اللغة الحديثة أسسه السويسري «دي سوسير»،
ويقوم على اعتبار اللغة مجموعة علامات ارتضاها المجتمع حتى يتيح للأفراد التخاطب[2].
وممن قام بتطبيق «التحليل الأَلْسُنِي» على القرآن الكريم: الدكتور محمد أركون في
كتابه: «القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني»، حيث تكلم عن سورتي
الفاتحة والكهف، وقام بتحليلهما تحليلاً ألْسُنِياً[3]،
وفي عدد من كتبه الأخرى إشارات إلى هذا الأمر[4].
وأركون سَلَكَ هذا المنهج في تعامله مع القرآن، يقول: «لقد شرعت في تطبيق إشكاليات
ومناهج اللسانيات والسيميائيات[5]
لتحليل الخطاب القرآني منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي»[6].
ومثل هذا التناول للمناهج المعاصرة في التعامل مع القرآن والسنة فيه إشكالية
منهجية، وهي: محاكمة العلوم الشرعة إلى مناهج نشأت في بيئة مغايرة، ولحل إشكالات
مغايرة، بينما النصوص الشرعية لها مناهجها في الفهم والاستدلال، والتي أثراها
العلماء منذ القِدَم تأصيلاً وتطبيقاً.
وقد أفرد أركون جزءاً من كتابه[7]
لدراسة سورة الفاتحة دراسةً «من دون أسبقيات لاهوتية»[8]،
ومثل هذه الخلفية التي تستبعد الأسبقيات في دراسة النصوص تختلف كلياً عن الموضوعية
المطلوبة في البحوث العلمية، إذ القراءة دون أسبقيات إيمانية - أو لاهوتية بحسب
تعبير أركون - تعني الانطلاق من عدم اعتقاد القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل
على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني اعتباره نصاً لا يختلف عن النصوص البشرية
في شيء! وهذا المدخل يكفي في التدليل على مقدار الأخطاء التي يمكن أن تقع في
النتائج.
وفي هذا المقال عَرْضٌ لأهم مراحل الدراسة الألسنية التي قدَّمها أركون لسورة
الفاتحة، والتي يمكن إرجاعها لثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
«التعريف بالمقروء»:
بدأ أركون كلامه عن سورة الفاتحة بسؤال هو:
ما هو المقروء؟ ومثْل هذا السؤال يبين الناحية المعرفية عند أركون، ومدى إلمامه بما
يتعلق بالفاتحة من علوم، ومع أنَّ جواب هذا السؤال ينبغي أن يكون باستعراض ما يتعلق
بها في كتب علوم القرآن من مقدمات إلا أن ذلك لم يحدث، بل اكتفى أركون بطرح بعض
الإشكاليات، وفي هذا يقول:
«الشيء المثالي الذي نحلم به والممتنع عن التحقيق هو أن نستطيع وصف الوضعية العامة
للخطاب بشكل شمولي كامل، أقصد:
وصف الظروف التي لُفظت فيها سورة الفاتحة بشكل شفهي لأول مرة»[9].
ومِثْلُ هذا المدخل في تناول سورة الفاتحة يبدأ بإعلان العجز عن فهم السورة
الكريمة، للعجز عن توصيف الظروف التي صاحبت نزولها.
القوانين الثلاثة لقراءة سورة الفاتحة عند الدكتور محمد أركون:
يرى أركون أن هناك ثلاثة قوانين لقراءة سورة الفاتحة، وهي:
بروتوكول القراءة الشعائرية:
وهذه القراءة الشعائرية
-
كما يسميها أركون
-
هي في حقيقة الأمر:
التعبد لله تعالى بسورة الفاتحة، تلاوةً لها في الصلوات وغيرها، واعتباره أنَّ حالة
التعبد بتلاوة الفاتحة في الصلوات وغيرها هي من القراءة الشعائرية التي لا يأخذ
بها، إنما يتخلى عن بابٍ عظيم من أبواب التفسير، وهو:
تكرار التلاوة، والتعبُّد بتلاوتها المقتضِي لاستحضار الإخلاص والخشوع أثناء
التلاوة.
البروتوكول التفسيري:
وما يسميه أركون القراءة التفسيرية، هو في حقيقته:
تفسير أهل العلم للقرآن الكريم بدايةً من التفسير النبوي ومروراً بتفاسير الصحابة
والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم.
وهذا الجهد الكبير الذي قام به العلماء في تفسير القرآن هو لباب معرفة تفسير السورة
الكريمة، وعلى قدر زيادة العلم بتفسير الآية يزيد تدبرها.
البروتوكول الألسني النقدي:
وفيه يقول أركون:
«أما
البروتوكول الثالث والأخير للقراءة فهو ذلك الذي سنحاول اتباعه، وبما أننا لا نملك
تسمية أفضل، فإننا سندعوه بالبروتوكول الألسني النقدي، وسوف تكون قراءتنا ألسنية أو
لغوية أولاً لأنها تهدف، بقدر الإمكان، إلى تبيان القيم اللغوية المحضة للنص،
ولكنها ستكون نقديةً أيضاً بمعنى أن كل ما سنقوله لن تكون له إلا قيمة استكشافية أو
افتراضية في نظرنا»[10].
وهذا النوع من القراءة الذي اعتمده أركون، لا يُحَقِّق بشكل صحيح ومتكامل حتى معرفة
الناحية اللغوية للنصِّ القرآني.
كما أن اعتبار أركون أن قراءته هذه ستكون نقدية وتفسيره للنقدية بأنها التي لها
قيمة استكشافية وافتراضية هو خلل في مفهوم النقد، كما أنه حتى على المعنى الذي
أراده أركون:
انتقالٌ من طرق التفسير الصحيحة للنصوص والتي تُثْمِر معارف سليمة إلى طريقة غاية
ما فيها التجريب والاستكشاف.
المرحلة الثانية: «التحليل الألسني للسورة»:
وهذه المرحلة هي صميم عمل أركون في تحليله الألسني الذي يقدمه على أنه الطريق
الأمثل للتعامل مع النص الديني عامة ومنه القرآن، ولم يُقَدِّم فيه سوى التوصيف
العام دون نتائج علمية.
يبدأ أركون تحليله الألسني لسورة الفاتحة بالكلام عن المعارف[11]
في السورة الكريمة، وأركون يرى أن فائدة المعارف العامة:
أنَّ جميع ما يتحدث عنه المتكلم معروف!
يقول:
«نلاحظ
أولاً أن جميعَ الأسماء
(من
مصادر، أو أسماء الفاعل والمفعول به أو الصفات الاسمية)
محدَّدةٌ إما بواسطة أل التعريف، وإما بواسطة تكملة تعريفية، هذا يعني:
أنَّ كل ما يتحدث عنه المتكلم معروفٌ تماماً أو قابلٌ لأن يُعرَف»[12].
وهذه الفائدة تحصيل حاصل، ولا تستحق أن تُذكر على أنها فائدة المعارف، بل المعارف
لها فوائدُ وأغراضٌ كثيرةٌ، تتعدد بتعدد أنواعها.
ثم يتحدث عن نماذج من المعارف الواردة في السورة الكريمة بطريقة لا تختلف كثيراً عن
بيان فائدتها، فمثلاً:
لفظ الجلالة «الله»:
يقول أركون:
«إن تعريف
(إله)
عن طريق أداة التعريف قد يحيلنا إلى مفهوم غير متبلور كثيراً في النصوص السابقة
للفاتحة
(أي
السور القرآنية من رقم
(1)
إلى رقم
(45)،
بالمقابل، فإن هذا التعريف يميل إلى أن يحلَّ تسمية وحيدة وكونية محلَّ استخدام
مشترك ذي مضمون متغير، ولأجل تثبيت المضمون الجديد للتحديد، فقد شُرِحَت
(أل
التعريف)
بشكل ما مباشرةً من قبل استخدام أسماء البدل من أمثال:
{الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ
1
الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
2}
[الفاتحة:
١، ٢]»[13].
والقول بأن مفهوم كلمة «الله» كان غير متبلور في النصوص السابقة للفاتحة غير صحيح،
بل كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، وورود لفظ «الله» في الشعر الجاهلي أكثر من
أن يحصر، ولهذا عندما ورد في القرآن الكريم لفظ «الله» كان معناه واضحاً عند
السامعين يعرفونه من لغتهم.
كما أنه لم تكن تسمية الإله سبحانه باسم «الله» هي التسمية الوحيدة، بل أسماء الله
الحسنى في القرآن كثيرة، ولذا فالقول بأن تعريف «إله» بأل التعريف كان لهذا الغرض
غير صحيح، يبطله واقع الأمر.
وهذا التحليل الألسني للفظ الجلالة «الله» أورد فيه أركون ما يجعل تعريف لفظ
الجلالة هو زيادةٌ في إبهامه، إذ هو كما يرى يحيلنا إلى مفهوم غير متبلور، وبالتالي:
فإن هذا التحليل يُبعد الشخص عن الفهم للقرآن أكثر مما يُقرِّبه إليه.
وقد تكلم أركون عن الضمائر والأسماء والأفعال بمثل كلامه عن المعارف الواردة في
السورة، مما زاد في الإبهام.
المرحلة الثالثة: «النسق التأويلي للسورة»:
أورد أركون خمسة قوانين
(أو
أنساق)
أشار إلى وجودها في تفسير الرازي، وهي:
النسق اللغوي
(أو
الشفرة اللغوية).
النسق الديني
(أو
الشفرة الدينية).
النسق الرمزي
(أو
الشفرة الرمزية).
النسق الثقافي
(أو
الشفرة الثقافية).
النسق التأويلي أو الباطني[14].
ويرى أركون أن النسق التأويلي هو أهمها، يقول:
«النسق
التأويلي أو الباطني:
وهو الأهم، وذلك لأنه من وجهة نظر المفسِّر، فإن جميع الأنساق السابقة تسير باتجاهه
وتتلاقى حوله لكي تتوصل إلى المعنى الأخير للنصِّ القرآني»[15].
وهذه الأنساق التي أوردها أركون فيها ما يصح أن يورد في التعامل مع التفسير، أمثال
النسق الثقافي واللغوي في التفاسير، وفيها ما لا يصحُّ اعتباره نَسَقاً وقانوناً
تفسيرياً، أمثال:
النسق الرمزي، والذي هو الخيال والأسطورة، ذلك أنه حتى في التفاسير التي تُعنى
بإيراد الروايات الإسرائيلية لا تُوردها على أنها خيالات وأساطير، بل على أنها مما
يجوز التحديث به وإن كان لا يصدق ولا يُكذَّب.
وهكذا تتحول كبرى المقاصد القرآنية التي قررتها سورة الفاتحة في التحليل الألسني
إلى رموز لا انعكاس لها في واقع الناس، ولا تُسهِم في بناء وعيهم.
ويتم من خلال مراحل معينة تفريغ النص القرآني من مضمونه ليتحول لنص أدبي يخضع
لدراسة لغوية بحتة، وفق مناهج حديثة، تُهدَر من خلالها جهود علماء الأمة في قرون في
المجالات التأصيلية والتطبيقية.
:: مجلة البيان العدد 345 جمادى الأولى 1437هـ، فـبـرايـر 2016م.
[1] انظر:
اجتماع الجيوش الإسلامية
(2/ 79).
[2]
انظر:
العلمانيون والقرآن الكريم، ص684.
[3]
انظر:
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص111-175.
[4]
انظر على سبيل المثال:
الفكر الإسلامي، ص90.
[5]
السيميائية، أو علم الدلالة، وهي:
الشروط الواجب توافرها في الرمز كي يحمل المعنى، انظر:
علم الدلالة، ص11،
والسيميائية وفلسفة اللغة، ص43.
[6]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص5.
[7]
قدم الدكتور محمد أركون دراسته المعتمدة على التحليل الألسني لسورة الفاتحة في
كتابه من ص111
إلى
144.
[8]
القرآن من التَّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص111.
[9]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص118.
[10]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص120-121.
[11]
المعارفُ جَمْعُ معرفةٍ، وهي:
ما دلَّ على معين، وهي سبعةُ أَنواعٍ:
الضمير والعلم واسم الإشارة والاسم الموصول والاسم المقترن بـ«أل» والمضاف إلى
معرفة والمنادى المقصود بالنداء، انظر:
أوضح المسالك
(1/99)،
جامع الدروس العربية
(1/147).
[12]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص126.
[13]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص126.
[14]
انظر:
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص137-139.
[15]
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص139.