• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فـقــه الاسـتـضـعــاف

فـقــه الاسـتـضـعــاف


أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للدين إقبالًا وإدبارًا[1]، وأنه يأتي على الناس زمان يعودون فيه كما كانوا في صدر الإسلام غرباء مستضعفين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء»[2].

قال القاضي عياض: ظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، ثم سيلحق أهله النقص والاختلاف، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضًا كما بدأ[3].

وهذا الاستضعاف جزئي، فإن المسلمين أقوياء غالبون بما معهم من الحق، وقوة الحجة، ووضوح المحجة. كما أن الاستضعاف ليس دائمًا، وإنما هو وقتي، يمر بالأمة نتيجة لتقصيرها، إما في جانب الدين ورعايته، أو في جانب الدنيا وإعداد القوة فيها، ويأتي الاستضعاف لها إحياء لضميرها الذي يكون قد انشغل، أو لكسر غطرستها التي دبت فيها، حتى إذا غير المسلمون ذلك من أنفسهم، تغيرت أحوالهم: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].

ونصر الله لهذه الأمة متحقق وعدًا وصدقًا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ 171 إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ 172 وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ١٧١ - 173].

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»[4].

والحقيقة أن الأمة المسلمة قد مرت بها مراحل من الاستضعاف كان فيها المسلم يخاف من إظهار صلاته، أو صيامه، أو حتى أن يتسمى باسم إسلامي، أو يعلن انتماء صوريًّا للإسلام، وقد تعرض المسلمون لأوقات عصيبة عند استيلاء النصارى على الأندلس، وعند احتلال الفرنسيين لبعض بلاد المسلمين، نالهم فيها صنوف من القهر والإذلال بسبب دينهم، مما هو مقارب لحال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من التعذيب والإيذاء.

وفي هذه الورقات أتناول فقه المستضعفين، وكيف يتعاملون مع أحكام الشريعة الإسلامية ويطبقونها، مع ما هم عليه من استضعاف.

 

أولًا: المقصود بفقه الاستضعاف:

الفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية[5].

الاستضعاف من الضعف، والضعف: خلاف القوة. وقد ضعف فهو ضعيف، وأضعفه غيره. وقوم ضعاف وضعفاء وضعفة. واستضعفه، أي: عده ضعيفًا[6].

ففقه الاستضعاف: معرفة الأحكام الشرعية التي يطالب بها المسلم وقت ضعفه.

ومما يقرب منه فقه الأقليات، إلا أن الأقليات قد يكونون ضعفاء، وقد يكونون أقوياء، أو في بلد يتيح لهم حرية التعبد، بينما الاستضعاف قد يكون في بلد أكثريته مسلمون.

ثانيًا: شواهد فقه الاستضعاف:

في التشريع الإسلامي شواهد كثيرة على اعتبار حال الضعف وعدم معاملته كحال التمكين، ففي التشريعات المكية لم يؤمر المسلمون بمخالفة المشركين، ولا بعدم زواج المسلمة من الكافر، ولا كلفوا بعدد من الواجبات، فلما هاجروا إلى المدينة كلفوا بذلك.

ومن هذه الشواهد:

تدرج التشريع:

الشريعة الإسلامية في أول تكليفاتها جاءت مع التوحيد بما يسهل تنفيذه والالتزام به، مما يلائم ويناسب البيئة التي ظهر فيها، ولذا قالت عائشة أم المؤمنين: «إنما نزل أول ما نزل من القرآن سور من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده»[7].

قال ابن تيمية: «كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة ولا غيرها. ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي. وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع بذلك.

ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة»[8].

وهكذا راعت الشريعة التدرج في التكليف، ولم تكلف بما يصعب تطبيقه حال الاستضعاف أو يسبب الضرر بالمسلمين، وليس معنى هذا أن تلغى أحكام الشرع التي قد استقرت وأحكمت، بل المقصود أن تصرفات الشارع في مراعاة المستضعفين أول نزولها تفتح الباب أمام المجتهد لمراعاة حالهم بما يقتضيه دليل الشرع.

قال ابن تيمية: «العالم قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيانها، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأتِ الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.

 فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع»[9].

مراعاة المضطر:

من رحمة الله تعالى بعباده، ومن كمال هذه الشريعة الإسلامية الخالدة وصلاحيتها لكل زمان ومكان أنها راعت أحوال الإنسان وظروفه وأوضاعه وحاجاته، فرتبت أحكام الإنسان بناء على ذلك في جملة أحوال.

ومن هذا اعتبارها للضرورة، وجعلها سببًا لتغيير الحكم بالنسبة للفرد أو الجماعة الواقعة تحت تأثير الضرورة أو الاضطرار، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 3} [المائدة: ٣]، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 199].

وقصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما شاهدة لتأثير هذه الظروف، فقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلفظ بالكفر إذا عذبه المشركون وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].

والضرورة هي: الحاجة والشدة التي لا مدفع لها، وتطلق على المشقة، والضروري: كل ما تمس إليه الحاجة وكل ما ليس منه بد[10].

التكليف بحسب الطاقة:

فالشريعة الإسلامية جاءت بالتخفيف والتيسير ورفع المشقة والحرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»[11]. وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة»[12].

وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر»[13].

فهذه كلها أدلة على أن الشريعة الإسلامية شريعة سهلة يسيرة، وأن أي حكم خرج عن التسهيل والسهولة واليسر إلى ضده من المشقة والعنت والحرج بمعنى أنه خلاف السهولة واليسر؛ فهو ليس من الدين. فالشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج عن المكلفين، بمراعاتها للظرف والزمان والمكان والوضع الاجتماعي والسياسي الذي يعيش المكلفون فيه فليس الحكم للقوي مثل الضعيف ولا للآمن مثل الخائف، ولا من كان في حال السعة والاختيار، كمن كان في حال الحاجة والاضطرار.

ومن أوجه يسر هذه الشريعة أن تكليف الله تعالى للعباد لا يكون إلا بما يقدرون عليه، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[14]؛ فالذي لا يستطيعه الإنسان لا يجب عليه، لأن الله تعالى لا يمكن أن يكلفنا بشيء لا نقدر عليه.

وقف الحكم:

ذهب بعض المحققين إلى أن بعض الأحكام التي قيل بنسخها إنما أخر العمل بها ولم تنسخ بالكلية، فإذا وقع بالمسلمين ظرف مماثل للظرف الذي شرعت فيه تلك الأحكام التي قيل بنسخها فإنه يعود العمل بها.

قال الزركشي: «ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة للذين يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تبين ضعف ما رجح به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك؛ بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا»[15].

وعليه فالنسء للحكـم الوارد في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} [البقرة: 106] هو تأخير العمل بها.

ارتباط الأحكام بالمصالح:

وهذا من أوجه بيان صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فأحوال الناس وعاداتهم ومصالحهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ولهذا تتبدل الشرائع وتتفاوت، وكان ختام الشرائع شريعة الإسلام التي قعدت قواطع لا يمكن اختلافها إلا بالنظر لظرف يخص أفرادها فقط، وأبقت جزئيات يمكن تفاوتها وتغيرها وتبدلها تبعًا للظروف، وهي مع خضوعها للتفاوت إلا إنها مع تفاوتها في كل حال ترجع إلى أصل شرعي يحكم به عليها ويجتهد الفقيه في إلحاقها بأنسب الأصول الشرعية؛ فمعنى التغير انتقال الفرع عن الأصل الذي حكم به عليه إلى أصل شرعي آخر. قال ابن القيم: «فصل في تغير الفتوى واختلافها. هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها»[16].

ثالثًا: تطبيقات لفقه الاستضعاف:

1- استثناء الضعفاء من الهجرة:

أوجب الله تعالى الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وبين أن من لم يهاجر فقد ظلم نفسه، إلا من كان من المستضعفين، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 97إلَّا الْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا 98 فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - ٩٩]، قال البيضاوي: «نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة. اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله. قالوا، أي الملائكة، تكذيبًا لهم أو تبكيتًا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة. فأولئك مأواهم جهنم لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، إلا المستضعفين»[17].

2- تأثير اختلاف الدار:

بين الله تعالى أن من لم يقم في بلد الإسلام فإن حكمه يختلف عن من أقام بها، وهذا لمراعاة حاله، فمن ذلك الدية، فإنها لا تعطى لأهله إذا قتل خطأ: {فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، ومنها الولاء: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].

مع حفظ دمه ومراعاته، قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 52]، قال القرطبي: «قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم. {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون. {أَن تَطَئُوهُمْ} بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. والتقدير: ولولا أن تطئوا رجالًا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفًا.

قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدًا لكان عن غير قصد.

قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي تميزوا، وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار، وهذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن إيذاء الكافر إلا بأذية المؤمن»[18].

وكذلك أن خباب بن الأرت رضي الله عنه كان قينًا يصنع السيوف لأهل مكة من المشركين، ولم يمنعه إسلامه وكفرهم من بيع السلاح عليهم، مع كونه مما يعينهم، وهذا لأن حال الاستضعاف مغاير لحال التمكين[19].

3- إظهار كلمة الكفر:

أذن الله تعالى للمستضعف بإظهار كلمة الكفر حال الإكراه، قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].

وهذه الآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنهما، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهًا، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد[20].

رابعًا: ضوابط فقه الاستضعاف:

مع ما تقدم من مراعاة لحال المستضعفين، فإن إنزال الأحكام الفقهية الخاصة بهم مراعية للتخفيف والتيسير لا بد أن ينضبط بجملة ضوابط، منها:

1- الأصل الالتزام بالنص ما لم يوجد عارض له، وتحديد الضرورة بقدرها.

 لا ريب أن الله تعالى أمر بتقديم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما عداهما، فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: ١]. وأمر بالرد إليهما عند النزاع: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59].

 والكتاب والسنة هما المصدر الأساس لهذا الدين، وبقية الأدلة والأصول الشرعية تبع لهما؛ فمتى حصل تعارض بينها فإنه ينبغي المصير إلى الأخذ بالنص، وقد قرر أهل العلم قواعد فقهية مستلهمة من هذا الأصل كقولهم: لا اجتهاد مع النص[21]، والاجتهاد لا ينقض بمثله وينقض بالنص[22]، ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص[23]، إلى غير ذلك من القواعد.

فالاجتهاد في المسائل الوارد فيها نص من الكتاب أو السنة أو هي من موارد الإجماع حرام؛ إذ الاجتهاد لا يكون إلا مع عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهمه ودلالته، وكذلك فقد قرر علماء الأصول أن من قوادح القياس ما أسموه بـ«فساد الاعتبار»، وهو أن يخالف القياس النص أو الإجماع[24].

وأيضًا فرعاية المصلحة لا تقدم على النص، وقد سمى أهـل العلم المصالح التي تعارض النص بـ«المصالح الملغاة» واعتبروها مصالح لا قيمة لها[25].

2-التفريق بين الوسائل والمقاصد:

المقاصد: هي الأفعال التي يتعلق بها الحكم لذاتها.

ومعنى ذلك: إما أن تكون متضمنة للمصلحة، أو أن تكون مؤدية إلى المصلحة مباشرة، بمعنى: أنه لا يتوقف حصول المصلحة فيها على فعل آخر.

وأما الوسائل فهي: الأفعال التي لا تقصد لذاتها، وإنما تقصد للتوصل بها إلى أفعال أخرى، فهي لا تتضمن المصلحة والمفسدة، ولا تؤدي إليهما مباشرة.

والتفرقة بينهما متقررة عند الفقهاء، في درجة الأهمية، وفي كون الوسائل يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد[26]، ولذا فالمحرمات تحريم المقاصد لا تباح إلا بالاضطرار، أما ما حرم تحريم وسائل فيباح لدون ذلك، كما سيأتي.

قال ابن سعدي في الفرق بين الكبائر والصغائر: «الكبائر: ما كان تحريمه تحريم المقاصد، والصغائر: ما حرم تحريم الوسائل، فالوسائل: كالنظرة المحرمة مع الخلوة بالأجنبية. والكبيرة: نفس الزنا، وكربا الفضل مع ربا النسيئة، ونحو ذلك»[27].

3- ضرورة تقديم محبة الله ورسوله على كل شيء:

وهذا شأن المسلم، ولا يتم للعبد إيمان بدون ذلك، والمقصود بهذا الضابط، أن المسلم قد تحمله مشاعر الخوف وانفعالات الضعف والهزيمة النفسية إلى تطلب الرخص، والبحث عنها ولو لم تكن في محلها، فإذا استشعر المجتهد والمكلف أن عليهما تقديم محاب الله ومرضاته شدهما هذا للاستعلاء على نزعات النفس ورغباتها.

ولذا فقد تقدم أن الصحابة أوذوا في الله، ولقد كان يحفزهم على الصبر محبتهم لله، وتقديم محابه على محاب النفس ورغباتها.

4-مراعاة مقاصد الشرع بالقياس على المنصوص دون خرم للنص:

لا شك أن روح التشريع في مقاصده، وإذا حقق العبد ظاهر التكليف دون مقصده ومغزاه فهو مقصر، إلا أن المقاصد تكون أحيانًا ظنية غير قطعية، فتحتاج لتحرٍ، ولا يعتمد عليها في فهم روح النص إن عادت عليه بالإبطال.

ولكنها تبقى وسيلة لتعدية النصوص واستثمارها، فكل مراعاة لحال المستضعفين جاء بها الشرع لظرف معين يمكن تفعيل المقصد في تعديته إذا تشابهت الظروف بحيث يصح القياس.

خامسًا: مراجع وتطبيقات لفقه الاستضعاف:

- رسالة ابن تيمية لأهل ماردين، والمطبوعة أيضًا باسم: «رسالة لأهل الضرورات».

- أجوبة التسولي عن أسئلة الأمير عبد القادر الجزائري، وقت جهاده للفرنسيين، والتي تناول فيها كثيرًا من أحوال الاستضعاف.

- رسالة المغراوي لأهل الأندلس وقت استيلاء النصارى عليها وتعذيبهم لأهلها، وفيها ما يدمي القلب من حال الإذلال، حتى إنه رحمه الله أفتاهم بالصلاة بالإيماء لكي لا يفطن لهم أحد.

- وفي الغياثي لأبي المعالي الجويني، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، وفتاوى الشيخ رشيد رضا في المنار أمثلة وإشارات تأصيلية بديعة لهذه القضية.

اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، وأنزل على قلوبهم روحًا وسكينة، وعجل لهم من عندك تفريجًا ولطفًا.

:: مجلة البيان العدد  344 ربـيـع الثاني  1437هـ، يـنـايــر  2016م.


[1] جاء ذلك في حديث أبي أمامة مرفوعًا: «إن لهذا الدين إقبالًا وإدبارًا، فمن إقباله أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يبقى إلا الفاسق والفاسقان ذليلان بينهما مضطهدان، وإن من إدباره أن تجفوا القبيلة بأسرها إلا الفقيه والفقيهان ذليلان مضطهدان»، المعجم الكبير: 8/234، قال في مجمع الزوائد (7 /262) فيه: علي بن يزيد وهو متروك.

[2] صحيح مسلم (145).

[3] بواسطة: جامع الأصول (1 /276).

[4] صحيح البخاري (3640)، صحيح مسلم (1921).

[5] المستصفى (1/50)، البحر المحيط للزركشي (1/35).

[6] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (4 /1390).

[7] صحيح البخاري (4993).

[8] اقتضاء الصراط المستقيم (1 /471).

[9] مجموع الفتاوى (20 /60).

[10] المعجم الوسيط (1/537).

[11] رواه البخاري (217)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[12] مسند أحمد (22345)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

[13] صحيح البخاري (39).

[14] رواه البخاري (6858) واللفظ له، ومسلم (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[15] البرهان في علوم القرآن (2 /42).

[16] إعلام الموقعين (3/11).

[17] تفسير البيضاوي (2 /92).

[18] تفسير القرطبي (16/285).

[19] سيرة ابن هشام (1/357).

[20] تفسير القرطبي (10/180).

[21] الوجيز في إيضاح قواعد الفقه ص33.

[22] المرجع السابق، ص384، شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص156.

[23] الوجيز في إيضاح قواعد الفقه، ص33، شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص147.

[24] مختصر التحرير لابن النجار، ص213، آداب البحث والمناظرة، ص129.

[25] المستصفى للغزالي (1/285)، الاعتصام للشاطبي (2/98).

[26] الأشباه والنظائر للسيوطي، ص158.

[27] بهجة قلوب الأبرار، ص107.

أعلى