من ابن تيمية إلى ويليام فيلاريه
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
تعد الرسالة القبرصية لشيخ الإسلام ابن تيمية كنزًا ثمينًا ذا قيمة علمية فريدة لـِما جَمعت من حسن خطاب ملوك الفرنجة المراوح بين الترغيب والترهيب، وما فيها من إشارات تاريخية متعلقة بالحقبة المملوكية التي عاش فيها كاتبها، وما حوته من عرضٍ لبعض عقائد أهل الكتاب مع إبطالها. ولهذا عُني بها كثير من المستشرقين، وعَدها بعضهم أول ردود شيخ الإسلام على النصارى؛ وهي تختلف عن الرسالة التي جاءته من قبرص فرد عليها بسِفره العظيم «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح». وإن مما يعين على وضع الرسالة القبرصية في سياقها التاريخي معرفة اسم «الملك» الذي وجهت إليه، وتاريخ كتابتها، وهو ما اجتهد فيه المستشرقون على اختلاف أجناسهم، وقصر فيه من هم أولى بالعناية به من أهل الإسلام!
وممن اعتنى بهذه الرسالة من المستشرقين «دييجو ساريو كوكاريلا»، وهو محاضر في العقيدة الإسلامية بالمعهد الحبري للدراسات العربية والإسلامية في روما؛ وقد ترجم الرسالة إلى الإسبانية. وكذلك «ماركو دي برانكو» الباحث بالمعهد التاريخي الألماني في روما أيضًا؛ وقد ترجم الرسالة إلى الإيطالية. و«جان [أو يحيى] ميشو»، الباحث الفرنسي المسلم، وأستاذ الدراسات الإسلامية بمعهد هارتفورد اللاهوتي بالولايات المتحدة؛ وقد ترجم الرسالة إلى الإنجليزية. وأخيرًا ، «توماس راف» الذي حققها على نسختين مخطوطتين: برلين وميونيخ، وقابلهما بالمطبوع (1901 و1946م). وإليك خلاصة أقوالهم كما وردت في دراسة بعنوان: Christian-Muslim Relation: A Bibliographical History، وأخرى لكوكاريلا بعنوان: Corresponding Across Religious Borders.
استهل شيخ الإسلام - رحمه الله - رسالته القبرصية بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم. من أحمد بن تيمية إلى سرجوان عظيم أهل ملته».
وقد اختلف في «سرجوان» هذا الذي وجهت إليه الرسالة. فذهب بعض المستشرقين إلى أنه «هنري دي لوزينيان»، وكان ملكًا على القدس وقبرص بين عامي 1285 و1324م (684-725هـ). ومما عزز هذا الرأي عند القائلين به أن شيخ الإسلام خاطب عظيم النصارى بـ«الملك» في أكثر من موضع في الرسالة. ويرد على هذا تسمية شيخ الإسلام له بـ«سرجوان» أو «سرجواس» كما في بعض النسخ. وهو ظاهر البعد عن اسمي «هنري» أو «لوزينيان».
وقد ذهب «توماس راف» إلى أن «سرجوان» تعريب لكلمتين فرنسيتين قديمتين هما «سِير» و«جوان»؛ فأما «سير» فلقب تشريف للملوك والقادة وأصحاب السلطة، ولا يزال يستعمل في بعض اللغات الأوربية بمعنى «السيد». وأما «جوان» (أو «يوحنا») فعَلَمٌ على المخاطب بالرسالة. وعليه فقد ذهب «راف» إلى أن المقصود بسرجوان هو يوحنا الثاني سيد جِبْلت (أو جبيل) في لبنان. وتعود أصول أسرته إلى جنوة الإيطالية وتعرف بأسرة إمبرياكو. وكانت هذه الأسرة قد لجأت إلى قبرص بعد سقوط طرابلس بيد المماليك عام 1289م (688هـ). كما أن سيد جبيل يوحنا الثاني كان ممن شاركوا في الغارات الصليبية على السواحل الشامية إبان حملات غازان (أو قازان). ولعل الأسارى الذين أشار إليهم شيخ الإسلام في رسالته إنما أخذهم سرجوان في واحدة من هذه الغارات. ويرى جون ميشو أن هؤلاء الأسارى أخذوا في الغارة الصليبية على الدامور بين بيروت وصيدا في جمادى الأولى عام 702هـ (1302-1303م).
لكن المستشرق «ماركو دي برانكو» يخالف هذا الرأي معتمدًا حجتين اثنتين. إحداهما: أن يوحنا الثاني سيد جبيل يُعرف في المصادر الإسلامية بـ«الملك يوحنا» لا «سرجوان». والأخرى: أن الصليبيَّ يوحنا الثاني نزعت منه ملكية الأراضي التي كانت تحت يده، ونفي إلى قبرص؛ وهي حال لا تليق بمن وصفه شيخ الإسلام بقوله: «وإنما نبه الداعي لعظيم ملته وأهله لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل ومحبة العلم وطلب المذاكرة». وهو كلام لا يخلو من وجاهة؛ لذا قدم دي برانكو بديلًا آخر.
ذهب دي برانكو إلى أن «سِرْجوان» تصحيف لـ«سَنْجَوان» (أو «سان جوان») وتعني في الفرنسية «القديس يوحنا». وعليه فلا يكون علمًا ، وإنما هو لقب تشريفي. وعليه فإن رسالة شيخ الإسلام إنما أرسلت إلى «ويليام مِن فيلاريه» الذي كان سيدًا لفرسان القديس يوحنا (الإسبتارية)، فنُسب إليهم (ربما اختصارًا )، وعرف بلقب «سنجوان» أي القديس يوحنا. يؤيد هذا الرأي أنه شغل منصب سيد فرسان القديس يوحنا من عام 1294م إلى عام 1305م (694-705هـ)، علمًا أن فرسان القديس يوحنا (الإسبتارية) كانوا قد أُلجئوا إلى قبرص بعد سقوط عكا، وشاركوا في غارات عدة على السواحل الشامية في المدة التي هي محل الدراسة. وهذه الفرضية - برأي دي براكو - تفسر وصف شيخ الإسلام لعظيم ملته بالديانة كما سبق، وكذا خطابه إياه بقوله: «ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين وعظماء القسيسين والرهبان»، كما تفسر بسطه الكلام في عقيدة النصارى.
ويجيب على هذه الفرضية المستشرق «دييجو ساريو كوكاريلا» بأن الحجج التي استدل بها دي برانكو لاستبعاد رأي توماس راف القائل بأنه «يوحنا الثاني سيد جبيل» ليست قاطعة. فهو يفترض أن سيد جبيل لم يكن صاحب دين ولا من أولي العلم والمدارسة، وهو ما لم يثبته بالدليل. كما أن تصحيحه لقراءة الاسم إلى «سنجوان» لم يذهب إليه أحد ممن حققوا الرسالة القبرصية، وإنما وقع الاختلاف في قراءة الحرف الأخير، هل كان «ن» أم «س». ولذا يرى كوكاريلا أن هذا الرأي هو الراجح حتى يرده ما هو أرجح منه.
ونقول: لعل دي براكو أصاب كبد الحقيقة عندما جعل سرجوان مقدَّمًا لفرسان القديس يوحنا. يدل لذلك ما ذكره القلقشندي في صبح الأعشى من نص الهدنة التي عُقدت عام 669هـ بين الظاهر بيبرس وبين زعيم فرسان الإسبتارية إذ جاء فيها: «استقرت الهدنة المباركة بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي.. وبين المباشر المقدم الجليل «إفريز أولدكال» مقدم جميع بيت إسبتار سرجوان بالبلاد الساحلية وبين جميع الإخوة الإسبتارية لمدة عشر سنين كوامل»[1].
هذا النص القيم يشير إلى أمور مهمة منها: أولًا، مكانة الفرسان عند النصارى في حقبة الحروب الصليبية وما أعقبها. ثانيًا: ذكر اسم فرسان الإسبتارية تحديدًا «بيت إسبتار» و«الإخوة الإسبتارية». ثالثًا: وصفهم بـ«إسبتار سرجوان»، أي إسبتارية القديس يوحنا. وفي هذا دليل قوي على أن «سرجوان» تعريب لـ«سان جوان» أي «القديس يوحنا». ولعله أطلق على مقدم فرسان القديس يوحنا من باب التشريف؛ وإلا فإن المقصود بالقديس يوحنا هنا هو «يوحنا المعمدان» أي يحيى بن زكريا عليه السلام.
إذا كان «سرجوان» مجرد تعريب فلا يلزم أن يقال إنه تصحيف لـ«سنجوان»، فإن بعض الأحرف قد يحذف أو يدغم أو يبدل عند التعريب. وتطابق الاسم عند القلقشندي وابن تيمية دليل على أنه مقصود، خلافًا لما ذهب إليه دي برانكو. ولذا فإننا نرجح أن شيخ الإسلام إنما أرسل رسالته إلى «ويليام [أو جِيُوم] دي فيلاريه» - القائد الأعلى لتنظيم «فرسان القديس يوحنا» في قبرص، وكان وجيهًا بين أتباعه، كما كان «جاك دي موليه» وجيهًا بين فرسان الهيكل (الداوية). ومن قرأ كتاب «الاعتبار» لابن منقذ علم مكانة الفرسان عند الصليبيين فكيف بزعيمهم. وهذا مما يزيد من قدر شيخ الإسلام عند من قرأ هذه الرسالة التي تمتلئ عزة وفخرًا برسالة الإسلام الخالدة.
هذا ما يتعلق بمن وجهت إليه الرسالة؛ أما تاريخ كتابتها فيجعله توماس راف بعد معركة مرج الصفر التي تعرف بوقعة شقحب. وقد كان وقوعها في شهر رمضان من عام 702هـ (أبريل، 1302م) بالقرب من دمشق بين المماليك بقيادة الناصر قلاوون وبين المغول بقيادة قطلوشاه، نائب غازان. وكانت الدَّبَرة فيها على المغول وانتهت بها أطماع غازان ببلاد الشام. وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذه الحادثة في رسالته باعتبارها حدثًا قريبًا. ويرى راف أن كتابة الرسالة كانت بين هذه الوقعة وبين الحملة الثالثة من الحملات التي وجهت إلى بلاد كسروان عام 705هـ (1305م)، وكان ابن تيمية فيمن رافقها. وينبه جان ميشو إلى أن ابن تيمية يشير إلى غازان في رسالته هذه وكأنه ما زال حيًّا زمن كتابة الرسالة، علمًا أن وفاة غازان كانت في 704هـ (1304م). وبناء على هذه المعطيات يرجح كوكاريلا أن كتابة الرسالة كانت بين أبريل 1303م (رمضان 703هـ) ومايو 1304م (شوال 704هـ).
رحم الله شيخ الإسلام فما أحوج الأمة إلى مثله.
[1] القلقشندي، صبح الأعشى (دمشق: دار الفكر، 1987م) 14: 47.