• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الملكة العلمية والعناية بالقلب

الملكة العلمية والعناية بالقلب

 الحديث عن الملكات العلمية بهجة المهج المؤمنة وقرة عيونهم ورواء قلوبهم، يقبلون بشراشرهم علهم يكونون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وحين يمتزج الحديث عنها بالحديث عن الصحب الكرام صحب محمد صلى الله عليه وسلم، فتلك غاية المنتهى:

ردد عليَّ حديثهم يا حادي

فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

ويجمل بنا قبل أن ندلف إلى موضوعنا أن نستصحب معنا أثر أبي عبدالرحمن السلمي في منهجية العلم الشرعي عند الصحابة رضوان الله عليهم: «حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا»[1]، تلك هي منهجية التعليم والتعلم عند الصحابة: علم ممزوج بعمل، وبهذا فاقوا من بعدهم وسادوا في العلم، فكان لأقوالهم سنا ولاختياراتهم ضياء.

وكان من أبرز رواد هذه المنهجية وأعلاهم قدرًا وأعظمهم علمًا صديق الأمة رضي الله عنه، فقد كان أعلم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وكان السابق إلى كل خير، ومثله رضي الله عنه لا تحصى مناقبه في مثل هذه السطور.

لا شك في بلوغه رضي الله عنه ذروة العلم فهو من أوائل الموقعين عن رب العباد، لذا تحتم على طلاب العلم تنقيب سيرته رضي الله عنه، وحين نتحدث عن علمه فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى الوقوف على موقفين من حياته، تاركين باقي المواقف للقارئ الكريم يستنبط منها.

أما الموقف الأول: فذلك الذي دكت له جبال طيبة وأظلمت فيه المدينة إنه يوم وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأي مصيبة أعظم من هذه المصيبة؟ يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرنا أنفسنا»[2]، وإذا كان هذا حال عموم الصحابة، فكيف بالصديق رضي الله عنه أعظمهم مصابًا برسول الله فهو نبيه وخليله وصاحبه؟ إنها سنوات الصحبة البالغة أكثر من ثلاث وعشرين سنة تطوى أمامه.. يعجز قلمي عن وصف مصابه وهو الرجل الأسيف غزير الدمع.

روى البخاري في صحيحه عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، قالت: أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله، ثم بكى، فقال: «بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها»، قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، فقال: «اجلس»، فأبى، فقال: «اجلس»، فأبى، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه الناس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] إلى {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] «والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها»[3].

يقينًا لم يكن الصديق رضي الله عنه وحده الذي أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بل كان غيره من الصحابة الذين جمعوا القرآن كابن مسعود وأبي وزيد بن ثابت الذي حضر العرضة الأخيرة وغيرهم، لكنه الوحيد الذي أكرمه الله بملكة استحضار هذه الآية عند أعظم نازلة مرت بالأمة.

يحار العالم قبل العامي والمجتهد قبل المقلد وهو يرى هذا الاستحضار العجيب لهذه الآية في نازلة تذهل فيها العقول، وإذا كان الأصوليون والفقهاء شغوفين بالحديث عن ملكة الاستحضار، فلن يجدوا مثالًا أعظم من هذا الموقف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 يقول بكر المزني: «ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه»[4]، وكم يحسن بنا استحضار هذه المنقبة في سياق حديثنا عن ملكة الاستحضار عند الصديق.

تأمل معي أيها القارئ: «بشيء وقر في قلبه» تتيقن أن بلوغ هذه الرتبة المنيفة من استحضار الآي لا يتأتى دون الصدق مع الله والعيش مع النص تدبرًا وتلاوة وعملًا، ودونك سيرته رضي الله عنه تنبئ عن هذا العيش مع القرآن. ولما كان من قاعدة العلماء أن من عاش على شيء مات عليه، فقد روى الطبري في تفسيره بسنده: «لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي، قالت عائشة رضي الله عنها: هذا كما قال الشاعر: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْـمَوْتِ بِالْـحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]»[5]، هي لحظات الاحتضار وملكة الاستحضار عند الصديق رضي الله عنه أسنى ما تكون! وهل يكون هذا إلا لمن أحيا ليله بالقرآن؟

وبعد هذا التحليق في ملكة الاستحضار عند الصديق أنموذجًا يقاس عليها بقية الملكات العلمية، والتي كان الصديق رضي الله عنه ابن بجدتها بلا ريب، ننزل لواقعنا لنصطدم ببعد الهوة بين العيش مع القرآن والسنة تدبرًا وعملًا والحديث عن الملكات العلمية متنكبين منهجية السلف في العلم والتعلم، فبتنا نعاني من جفاف إيماني وتصحر خلقي، وصرنا نلهث وراء تنمية الملكات العقلية غافلين عن القلب الذي هو وعاء العلم.. {وَإنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].

لا يرتاب القارئ لتراجم العلماء الربانيين أن صناعة العالم الرباني تستوجب الجمع بين تربية القلب على الوحي وتنمية المهارات والملكات العلمية؛ فتلك المهارات مواهب يؤتيها الله لمن علم منه قلبًا واعيًا للعلم.. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58].

صقل الملكات وتنميتها بعيدًا عن تربية القلب بالوحي لن يخرج عالمًا ربانيًّا بل هو تكدير للملكات العلمية، وترحيل ملف العناية بالقلب إلى المراحل المتقدمة في الطلب بحجة تنمية الملكات العلمية أولًا، لن يحصّل معه الطالب إلا علمًا منزوعة بركته، ناهيك أنه تنكب منهاج الصحابة في التعلم:  «فتعلمنا العلم والإيمان معًا».

:: مجلة البيان العدد  343 ربـيـع الأول 1437هـ، ديسمبر  2015م.


[1] جامع البيان للطبري (1/74).

[2] الدر المنثور (7/559).

[3] البخاري ح(1241).

[4] لطائف المعارف (1/254).

[5] جامع البيان لابن جرير الطبري (21/427).

أعلى