• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
إشراقات تيمية عن النفس البشرية

إشراقات تيمية عن النفس البشرية

احتفى أبو العباس بالدليل الفطري في تقرير مسائل الاعتقاد، فحرك وجدان الفطرة الإنسانية، وأثار دلالة الحس واحتج بها في تقريراته وردوده[1]، وطالما تكررت هذه العبارة في مصنفاته: «هذا أمر يجده الإنسان في نفسه»، ونحوها من عبارات تصف المعرفة الفطرية بالضرورة والبدهية.

ومن بليغ احتجاجه جزمه أن مخالفين ينكرون بألسنتهم وفي كتبهم ما هو ثابت مستقر في فطرهم وقلوبهم، كما هو الحال في منكري محبة الله تعالى، فإنهم «لو رجعوا إلى فطرتهم لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره»[2].

لقد اجتمعت لأبي العباس عوامل وأسباب أكسبته دراية فاحصة دقيقة لأحوال النفس البشرية وخطراتها وآفاتها، فقد تحقق له ذلك لما كان عليه من فقه واستيعاب لنصوص الشريعة وعلومها وخلطته للناس بشتى طبقاتهم وطباعهم ونحلهم، وما فتح الله عليه من بصيرة وفراسة.

ونورد شواهد على تلك الإشراقات في مسارب النفس الإنسانية:

ما أكثر وما أروع تقريرات ابن تيمية في إظهار الملاءمة والموافقة بين النصوص الشرعية والطبيعة البشرية، وإبرازه التناسب والتناسق بين حقائق الوحي وطبائع النفس؛ فالنصوص الشرعية تقرر أن كل إنسان حارث وهمام، وأن كل شخص مفتقر إلى العبادة والاستعانة، وهذا يتفق تمامًا ويتسق مطلقًا مع حال النفس الإنسانية وقواها العلمية والعملية، كما بسط ذلك في عدة مواطن[3].

مع عناية ابن تيمية بالنفس وأحوالها وآفاتها إلا أنه وفق منهجه المطرد ينزّل المسائل منازلها بعلم وعدل، بلا إفراط ولا تفريط، فلم يكُ على طريق المتصوفين الغارقين في ذكر النفس وآفاتها، بل إنه قرر أن «البلاء العظيم من الشيطان لا من مجرد النفس، فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن»[4].

من تأملات ابن تيمية وفتوحاته أن كل فرقة تعارض الإسلام والسنة فإنه يوجد فيها طائفة تقوم بنقض تلك المعارضات، وتكشف تلك الضلالات؛ فإن النفوس مجبولة على معرفة الحق ومحبته.

قال - رحمه الله -: «وقد رأيتُ من هذا عجائب، فقلّ أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها إلا رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطّن لفسادها وبيّنه، وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات»[5].

وهذا مسلكه، قرره ابن تيمية في عدة مواطن[6] وحققه في كتابه «الفتوى الحموية» وغيره، وبهذا الاحتجاج الدامغ يتهاوى التعصب والإصرار على أباطيل تلك الفرق، وتتهافت تلك المقالات بأيدي علماء تلك الفرقة وبنفس السلاح والأدوات.

يدرك أبو العباس ما في النفوس من حب الرياسة، والرغبة في التمايز عن الآخرين سواء في المطاعم والمراكب والملابس، أو حتى في الدلائل والمسائل، فإن نفوسًا لا تقبل إلا التفرد عن الآخرين بالدلائل الدقيقة والمسائل الخفية، فقال - رحمه الله -: «كذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقين له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور، ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات، لما في النفوس من حب الرياسة»[7].

وتبدو رحابة ابن تيمية وسعة أفقه حين اعتذر لأولئك الأشخاص الذين اعتادوا تلك الخفيات في الدلائل والمسائل، فلا يلتفتون إلى الواضحات البدهيات ولكن يقبلون على الأمور الدقيقة والدلائل الطويلة، كما وضّحه بقوله: «كثير من الناس إذا ذُكِر له الواضح لم يعبأ به... وهذا الغالب يكون من معاند، أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه، وفكّرت فيه، فإن العادة طبيعة ثانية، فكثير ممن تعوّد البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له، لا يعرف ولا يقبل ولا يسلّم إلا ما حصل له بعد بحث ونظر، فالطريقة الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء»[8].

لكن هذه النفوس التي تستهوي التفرد بتلك الخفيات قد لا ينفك عنها ازدراء لمن جهل هذه الدقائق، كما كشفه أبو العباس بقوله: «من المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء كانت حقًّا أو باطلًا، إيمانًا أو كفرًا، لا تعلم إلا بذكاء وفطنة، فكذلك أهله[9] يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29]... [الآيات]»[10].

أدرك ابن تيمية أن آفات النفس البشرية وعيوبها لا تعدّ ولا تحصى، وأن في النفوس من العلل والأسقام والحظوظ ما يتعذر حصره ويتعسر عده، فالواجب هو العمل لله وفق الشرع فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، والانتهاء عن التنقيب والتفتيش عن آفاتها وخطراتها التي لا تنقضي فملاحقة هذه الخطرات النفسانية لا مشروعة ولا مقدورة.

وقد حكى ابن القيم إشراقات نيّرات لأبي العباس في هذا الشأن، فقال: «سألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة [تهذيب النفس] وقطع الآفات؟ قال لي جملة كلام: النفس مثل الباطوس - وهو جبّ القذر - كلما نبش ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.

فقلتُ: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها انقطع، ولم يمكنه السفر قط، ولتكن همتك المسير، والإعراض عنها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا»[11].

والمقصود أن الاشتغال بنبش علل النفس وآفاتها وخطراتها، يفوّت العمل بالصالحات، ويجلب القنوط والترك وقد حكى ابن القيم هذا الواقع المنحرف بقوله: «لما ظهرت رعاية المحاسبي[12] واشتغل بها العباد، عُطّلت منها مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة، والطبيب الحاذق يعلم كيف يطبّ النفوس، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا»[13].

الإفصاح في الكلام، وبيان الخطاب وظهوره يتفق مع النفس السوية، والفطرة السليمة، بخلاف النفوس المعوجة فهي تستهوي الغموض، وتؤثر الإلغاز والأسرار، فطوائف الضلال تعمد إلى عبارات طويلة وتقسيمات عديدة، وتشقيقات كثيرة، فتخدع بها العامة والدهماء، الذين يهولهم ضجيج تلك المركبات، وغموض تلك المطوَّلات.

وقـد سبر أبو العباس هذه الآفة الخفية، وأبان عن ذلك فـي غير موضع، فقد تحدّث عن ذلك الغموض والإلغاز لدى طوائف المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة، الذين جعلوا الجهالات محل تعظيـم وإجلال، فقـال رحمه الله: «كلمـا كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيمًا، كما يعظّم الرافضةُ المنتظرَ، الذي ليس لهم منه حسّ ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر، وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب، وهكذا الفلاسفة...»[14].

بل زعم الفخر الرازي أن الإنسان إذا وقف على معنى القرآن سقط وقعه عن القلب[15]! وهذا كلام ساقط بـ«كل من كان للقرآن أفهم ولمعانيه أعرف كان أشد تعظيمًا له»[16].

ومهما يكن فإن لهذه العبارات الغامضة والجمل الهائلة هيبة ورهبة في قلوب أصحابها ومقلديهم، كما عبر عنه ابن تيمية بشأن تهاويل المتكلمين لما ظنوه من عقليات بقوله البليغ: «إن ما يّدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، وإنما هي من باب القعقعة بالشنان[17] لمن يفزعه ذلك من الصبيان، ومن هو شبيه بالصبيان»[18].

وهذه الجادة المتعثرة لا تزال مطروقة، فإن جملة من أرباب الفكر المعاصر يتلفعون بتراكيب دقيقة وتهاويل غامضة، فيتوهم الغرّ والساذج عمقها ورسوخها، ويتهم عقله بالقصور والجهل، وإنما هي جعجعة ألفاظ، وصخب تراكيب منحوتة من عربية وعجمية، فلا نقل مصدق ولا بحث محقق.

أشار ابن تيمية إلى ما في النفس البشرية من الأنفة، ونفرتها من وصفها بالعجز والجهل، وأن ملاحدة الفلاسفة ونحوهم فطنوا لتلك الطبيعة البشرية، فخدعوا الناس بضلالاتهم التي ساقوها بتراكيب مجملة وعبارات موهمة وتقاسيم متفرعة حتى أخرجوهم عن ملة الإسلام!

فإن الشخص إذا امتنع عن التكلم بألفاظهم المحتملة المشتركة «ينسبونه إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وأوهموا الجهال باصطلاحهم»[19].

لقد كان أبو العباس غاية في الدقة والتوصيف لدسائس الملاحدة الذين جعلوا حميّة النفس سبيلًا إلى ترويج زندقتهم، والتدرّج في الدعوة إلى كفرهم ونفاقهم، كما في هذا التحليل البليغ:

«لكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يُدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركّبوها وألّفوها تأليفًا طويلًا بنوا بعضه على بعض، وعظّموا قولهم، وهوّلوا في نفوس من لم يفهمه، ولا ريب أن فيه دقة وغموضًا، لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطالب، وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحميّة يحملها على أن تسلّم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص في العلم والعقل»[20].

وإذا كانت الأنفة - هاهنا - قد أوقعت أقوامًا في كمين الضلال، وشراك الابتداع لئلا يُتهموا بمعرة الجهالة، فإن أنفة النفس قد تجلب لصاحبها إصرارًا على البطلان، وتشبثًا بالابتداع، كما بيّنه ابن تيمية في موطن آخر[21].

وهذا ملحظ نفسي عميق، ينبغي أن يلتفت إليه الدعاة إلى الله، فإن طوائف من عامة المبتدعة في غفلة وعافية عن التمسك بتلك الأهواء، ولا يرفعون رأسًا ببدعهم، لكن إذا قهرهم عنف بلا رفق، وطالهم مغالبة بلا رحمة، فإن ذلك يوقظ حميتهم، ويثير عصبيتهم، فيشتد حرصهم على هذه المبتدعات.

- وأختم المقالة بإشراقة تيمية تظهر واقعية أبي العباس وعدله تجاه حظوظ النفس وأحوالها، كما في قوله: «إن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله مع النية الصالحة»[22].

فتأمّل هذا التحقيق وما فيه من دراية بالنفوس ورحمة بالخلق وفقه للشرع، فإن هذه الحظوظ والشهوات - من طعام وشراب ونكاح - محبوبة للنفس، لكنها تعين على مرضاة الربّ، فاستحالت هذه الشهوات إلى قربات.

وفي المقابل فإن النزعة المثالية الجامحة، والشاردة عن قيود الشرع والفطرة، والاعتداد بالنفس المجافي لعظمة الربّ تعالى، والمصادم لطبيعة النفس وضعفها، سرعان ما يعقبه نقيض ذلك، فتنفسخ تلك النفس عن تلك الدعاوى العريضة، ويلحقها النقيض والاعتذار، كما هو ظاهر في الصوفية الذين جمعوا بين غاية الدعوى مع غاية العجز، فيدّعي أحدهم الألوهية، ثم آخر أمره شحاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته[23]!

وأخيرًا «نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا حتى لا يبقى للعُجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا»[24].

:: مجلة البيان العدد  343 ربـيـع الأول 1437هـ، ديسمبر  2015م.

 

googleplayappstore


[1] ينظر مقال: نظرات تربوية لابن تيمية، مجلة البيان، العدد 322.

[2] منهاج السنة النبوية 5/393 وينظر: 5/398، والتحفة العراقية ص72.

[3] ينظر: التدمرية ص500، الجواب الصحيح 2/4، الفتاوى 13/75، جامع المسائل 5/193.

[4] الفتاوى 14/289 ،290، وينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/145.

[5] الدرء 1/637.

[6] ينظر: الدرء 7/77، 10/317.

[7] الدرء 8/86.

[8] الرد على المنطقيين ص 328 ،329 باختصار.

[9] أهل المنطق.

[10] نقض المنطق ص156.

[11] مدارج السالكين 2/313.

[12] ذم السلف الصالح ما في كتاب الرعاية للمحاسبي من الكلام في الخطرات والوساوس، ينظر: تاريخ بغداد 8/215، تلبيس إبليس ص186.

[13] مدارج السالكين 1/439.

[14] الدرء 5/315.

[15] ينظر: بيان تلبيس الجهمية 8/332.

[16] ينظر: بيان تلبيس الجهمية 8/332.

[17] الشنان: مفردها الشنّ وهو الجلد البالي، والقربة.

[18] الدرء 4/181، وينظر: الدرء 3/454، وبيان تلبيس الجهمية 4/118.

[19] الدرء 1/229.

[20] الدرء 1/295.

[21] ينظر: الدرء 7/163.

[22] الفتاوى 28/366، وينظر: الفتاوى 28/364، والاستقامة 2/262.

[23] ينظر: منهاج السنة النبوية 7/209، والاستقامة 2/87، والنبوات 1/345.

[24] من دعوات لابن الجوزي كما في صيد الخاطر.

أعلى