الحج بين الإجلال والإلحاد
«سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنًا، يترددون إليه ويرجعون عنه، ولا يرون أنهم قضوا منه وطرًا.لما أضاف تعالى ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقول خليله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]؛ تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم البيت الحرام حنّوا»[1].
الحج هو شعار الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، والحنيف هو الحاج إلى بيت الله الحرام، والحنيفية هي الإقبال على الله بالكلية، والإعراض عما سواه، فلا تتحقق الحنيفية إلا بالحج[2]، ولذا فإن «المقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر بعبادته فيها»[3].
فالحج قائم على تحقيق عبادة الله وحده لا شريك له، كما في قوله تعالى: {وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
وقد استهل نبينا عليه الصلاة والسلام حجه بالتوحيد، كما في حديث جابر: «وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»[4]، وطالما جاء التأكيد والتذكير بإخلاص العبادة لله تعالى في الحج، كقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»[5].
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة»[6].
ثم إن الحج تسليم للنصوص الشرعية، وانقيادٌ وإذعان للوحيين، وكان عمر الفاروق رضي الله عنه يقول عن الحجر الأسود: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك»[7].
وقد علق الحافظ ابن حجر على مقالة الفاروق فقال:
«وفي قول عمر هذا التسليم في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه»[8].
ومن معالم الإيمان والتوحيد في فريضة الحج: تعظيم شعائر الله عز وجل، فمعاني الإجلال لله تعالى والتوقير لمناسكه ظاهرة بينة، حيث قال عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة ما تزال بخير ما عظّموا هذه الحرمة (يعني الكعبة) حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا»[9].
ومن أظهر منافع الحج: تحقيق تمايز أهل الإيمان بمخالفة أهل الكتاب والأوثان، ومفارقة رسوم الجاهلية وأحوالها ظاهرًا وباطنًا، ومجانبتها وإهانتها.
وأكد ابن القيم هذه المفارقة بقوله: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لاسيما في المناسك»[10].
وأبطل نبينا خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم عوائد الجاهلية كما في خطبة حجة الوداع فقال: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع»[11].
قال ابن تيمية مقررًا هذا المعلم: «إن كل ما عُظِّم بالباطل من مكان، أو زمان، أو شجر، أو بِنية؛ يجب قصد إهانته، كما تهان الأوثان المعبودة»[12].
والحاصل أن في الحج من الأسرار الجليلة، والحِكم العظيمة، والمنافع الكثيرة ما لا يحصى؛ ففيه تحقيق الإقبال على الله وحده، وترسيخ أن يكون الله وحده - لا إله إلا هو - هو المعبود والمقصود، وتعظيم الله وإجلاله، وتعظيم شعائر الله وحرماته، ومجانبة سبيل أهل الجحيم، ولزوم السنة والدليل، وتحقيق الاتباع والتأسي بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
من أجل ذلك شَرِق الملاحدة والزنادقة بهذه الشعيرة، فأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، وكادوا لهذا الركن العظيم باللسان والسنان، وبالمحادة والارتياب، وبالاعتراضات والشبهات، وبالشكوك والارتياب، وبالجد والهزال.. لكن كيد الكافرين في تباب، فالعاقبة للتقوى وللمتقين.
ومن ذلك ما صنعه أبرهة عندما بنى الكنيسة «الخسيسة» - كما وصفها ابن كثير - والمسماة بـ«القُلَّيس» من أجل أن يصرف الناس عن حج بيت الله الحرام، فجاء رجل من أهل مكة، فأحدث فيها، فغضب أبرهة، وسار بجيشه ليهدم الكعبة، فأهلكه الله عاجلًا غير آجل. وأما «القُلَّيس» فأمست أثرًا بعد عين، وانمحت آثارها في عهد الخليفة العباسي «السفاح»[13].
ومن ذلك الإفك والخبال: أن الملاحدة من الفلاسفة والمنجمين لما هالهم شأن البيت العتيق وحفظه مع تعاقب القرون، ولحقتهم الحيرة بسرّ انجذاب القلوب إلى هذه الكعبة، وكونها مثابة للناس ومهوى للأفئدة.. لما هالهم ذلك زعموا أن تحت الكعبة بيتًا فيه صنم يبخر ويصرف وجهه إلى الجهات الأربع ليُقْبِل الناس إلى الحج[14].
وهذا التعليل محض افتراء، وكذبة صلعاء، وأضحوكة الصبيان.
والتهكم بشعائر الحج من طرائق الزنادقة المنافقين، كما وقع من علي بن يقطين الذي سخر بالطائفين بالبيت الحرام، وشبّههم بالبقر، فأمر الخليفة العباسي الهادي بقتله، ثم صُلب لأجل زندقته سنه 169هـ[15].
وإيراد الاعتراضات والشكوك على مناسك الحج مسلك قديم لأولئك الملاحدة، فقد أشار ابن قتيبة (ت 276هـ) إلى مقالة للملاحدة: إن كانت الخطايا سوّدت الحجر الأسود، فقد ينبغي أن يبيّض لما أسلم الناس.
ثم أجاب عنها ابن قتيبة فكان مما قاله:
«فَمَن الذي أوجب أن يبيّض بإسلام الناس؟ ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من غير أن يجب...»[16].
ومن المكر الكبّار الذي يُراد به صدّ الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام ما جاء في كتب الرافضة المعتبرة - عندهم - من تفضيل كربلاء على الكعبة، وأن زيارة كربلاء وقبر الحسين يوم عرفة أفضل من سائر الأيام[17]!
وكذا ما وقع من القبورية وغلاة الصوفية، فإن من القبورية من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور أفضل من حج البيت الحرام، ويسمي زيارتها الحج الأكبر[18]! ومنهم من سوغ الحج إلى معابد المشركين في الهند! أو يجعلون قبر الولي بمنزلة عرفات، وربما فضّلوا زيارة واحدة لقبر الشيخ على عدة حجات إلى بيت الله الحرام[19].
وأما الصوفية الغلاة فإن الحلاج زعم أن من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتًا يطوف به كما يطوف ببيت الله الحرام، ويتصدق على ثلاثين يتيمًا، وقد أجزأه عن الحج، ولذا قُتِل الحلاج بسيف الشرع سنة بضع وثلاثمئة من الهجرة[20].
وفي هذه السنوات الأخيرة أحدث زنادقة المتصوفة الحج إلى ضريح أحمدو بامبا في السنغال، ويسمّون تلك البلدة «مكة الإفريقية»! كما أحدثوا الحج إلى كازاخستان، وسموه: الحج الأصغر، وأطلقوا عليه «مكة الثانية»، وعللوا الحج إليها تركستان لأجل مشقة الحج إلى مكة وكثرة النفقة[21].
وقريب من ذلك ما فعله الباطنية الملاحدة حيث تأوّلوا الحج إلى بيت الله الحرام بالسفر إلى شيوخهم[22]، وكذا من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به[23]، ونحو ذلك من تأويلات باطنية، وأحوال شيطانية.
وقد ساق بعض المشككين - من البحرين - اعتراضات على شعيرة الحج، وبعثوها إلى العلامة محمد رشيد رضا سنة 1331هـ، فأجاب عنها بأجوبة محررة متينة[24].
ومما يحسن ذكره هاهنا أن هذه الاعتراضات وسائر الأسئلة الواردة في فتاوى رشيد رضا والجواب عنها، تكشف طرفًا من التحديات الفكرية وتاريخها، والإشكالات والنوازل العقدية التي استفحلت آنذاك، كالإلحاد الشيوعي، والتنصير، والاتجاه الإصلاحي العقلاني، والتصوف الغالي.. إلخ.
والذي يعنينا هاهنا أن نكتفي ببعض ما سطره رشيد رضا في رد زعمهم أن تقبيل الحجر الأسود من بقايا الوثنية، حيث قال رحمه الله:
«ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل قائليه من جهة، وسوء نيتهم من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود، ولا الكعبة ولكن يعبدون الله وحده باتباع ما شرعه فيهما»[25].
ولما قدم الشيخ سليمان بن سحمان إلى البحرين سنة 1333هـ، واطلع على أجوبة رشيد رضا على هؤلاء الحيارى أثنى عليها خيرًا، وتعقب هذه الأجوبة بالزيادة والبيان، وجزم أن هؤلاء زنادقة، وألّف في ذلك رسالة مفردة مطبوعة بعنوان: «إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل على ما موّه به أهل الكذب والمين من زنادقة أهل البحرين».
وقرر - رحمه الله - أن منشأ ضلال هؤلاء الزنادقة هو الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله، والإكباب على كتب الملاحدة وما تلقوه من شبه النصارى.
وأما تشكيكهم بالسؤال عن الحكمة من تقبيل الحجر الأسود، أو رمي الجمار ونحوه.. فهذا من فرط جهلهم فلا يجب أن تكون الحكمة بأسرها معلومة لجميع البشر[26].
والمقصود أن هذه الزندقة والإلحاد - في شعيرة الحج - تعود إلى النقض وإفساد أصلي الدين وركنيه: ألا نعبد إلا الله وحده، وألا نعبده إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فشياطين الإنس والجن يزيّنون عبادة الأولياء والأئمة كما هو عند الصوفية الغلاة والرافضة، ويشرعون ما لم يأذن به الله من البدع والمحدثات.
ومع ذلك الكيد المتطاول والمكر المتلاحق إلا أن سعيهم في سفال، وكيدهم في ضلال؛ فما زال البيت الحرام مهوى للأفئدة ومثابة للناس وأمنًا، بل تضاعف عمّاره وحجاجه من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق.
قال ابن تيمية رحمه الله: «بل وجود مكة مما يدل على القادر المختار، وأنه سبحانه يخلق بمشيئته وقدرته وعلمه، كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْـحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْـحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 79} [المائدة: 79]. قال ابن عباس: «لو ترك الناس الحج سنة واحدة لأطبق الله السماء على الأرض». ولهذا كان حج البيت كل عام فرضًا على الكفاية، كما ذكر ذلك الفقهاء من أصحاب الشافعي»[27].
:: مجلة البيان العدد 340 ذو الحجة 1436هـ، سبتمبر - أكتوبر 2015م.
[1] «لطائف المعارف» لابن رجب ص332، وينظر: «زاد المعاد» لابن القيم1 /51.
[2] ينظر: «جامع المسائل» لابن تيمية5 /182، و«اقتضاء الصراط المستقيم» 2/830.
[3] «اقتضاء الصراط المستقيم»2 /830.
[4] رواه مسلم (1218).
[5] رواه البخاري (1521) ومسلم.
[6] قال الألباني: «رواه الضياء بسند صحيح»؛ «مناسك الحج والعمرة» ص15، وينظر: «فتح الباري» لابن حجر 3/ 381.
[7] رواه البخاري ( 1597).
[8] «فتح الباري» 3/463.
[9] قال ابن حجر: أخرجه أحمد وابن ماجه وسنده حسن.
[10] «تهذيب سنن أبي داود» 3/ 309.
[11] رواه مسلم ( 147).
[12] «اقتضاء الصراط المستقيم» 1/ 477.
[13] ينظر: «البداية» لابن كثير 2/170، و«قاعدة عظيمة» لابن تيمية ص101.
[14] ينظر: «الصفدية» لابن تيمية1/220، و«الرد على المنطقيين» ص502.
[15] ينظر: «تاريخ الطبري»4/595.
[16] «تأويل مختلف الحديث» ص349، وساق ابن حجر أجوبة أخرى عن هذا الاعتراض كما في «الفتح» 3/463.
[17] ينظر: «أصول الشيعة الإثنى عشرية» لناصر القفاري 2/453-477.
[18] ينظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» 2/ 739.
[19] ينظر: «الرد على البكري» لابن تيمية، ت: السهلي ص306.
[20] ينظر: «جامع الرسائل» لابن تيمية 1/ 189، و«مجموع الفتاوى» لابن تيمية 35/ 108.
[21] ينظر: «مجلة الصوفية الإلكترونية»، العدد السابع.
[22] ينظر: «بيان تلبيس إبليس الجهمية» لابن تيمية 8/ 367، و«التدمرية» ص160.
[23] ينظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 11/ 403.
[24] ينظر: «فتاوى محمد رشيد رضا» 4/1214-1233.
[25] ينظر: «فتاوى محمد رشيد رضا» 4/1217.
[26] ينظر: «إقامة الحجة والدليل» لابن سحمان ص7،3.
[27] «الرد على المنطقيين» ص505، بتصرف يسير.