عندما تتحدث الجغرافيا!
الجغرافيا مسرح التاريخ عبر الزمان، وموضع الحراك السياسي منذ القدم، وسبب في الحروب على الموارد، ومحل نظر الساسة الذين يسعون لصالح شعوبهم وبلدانهم. ومع أن هذه المادة ممتلئة حيوية وتأثيرًا لا يكاد يستسيغ أحد من الطلاب دراسة مادة الجغرافيا طيلة حياته، ولا يذكر منها إلا الخرائط الصعبة، والمعلومات الكمية التي تُنسى بعد نهاية الامتحان مباشرة؛ بسبب المحتوى التعليمي وطريقة عرضه، وإن اجتهد بعض أفاضل معلميها لينفع الدارسين.
لذا استهل الناشر لهذا الكتاب بكلمة تجذب القارئ حين قال: بليغة هي الجغرافيا حين تحدثك دون وسيط، وفي هذا الكتاب ستسمع وترى وتقرأ، وربما تصالح علمًا خاصمته يومًا بسبب نقله بجفاف، حيث يفسر لك كثيرًا من القضايا السياسية المتداخلة، ويمنحك أداة تفهم بها التاريخ، وتعمق قراءتك للواقع، وتزيدك مهارة في استشراف المستقبل.
والكتاب المراد عنوانه: جيوبوليتيك: عندما تتحدث الجغرافيا، تأليف د. جاسم سلطان، صدرت طبعته الأولى عن دار «تمكين للأبحاث والنشر» عام 2013م، ويقع في (205) صفحات بطباعة ملونة، ذات رسومات توضيحية، وقد اجتهد المؤلف في تقريب محتوى هذا العلم الضخم للقارئ غير المختص، بما لا يثير حفيظة أهل الفن.
وهو الكتاب الثامن في سلسلة أدوات القادة، ويتكون من مقدمة، وتمهيد، وقسمين. يعنى القسم الأول بالمقدمات النظرية لهذا العلم، وفيه خمسة فصول. أما القسم الثاني فخاص بتطبيقاته العملية، وفيه خمسة فصول أيضًا، وبعد نهاية كل فصل من فصول الكتاب يضع الكاتب ملخصًا توضيحيًّا في صفحة واحدة.
أما المؤلف فهو طبيب قطري، ولد عام 1950م، وله نشاط إسلامي وفكري، ويصرف جل اهتمامه وتآليفه لمشروع النهضة، وتمكين جيل جديد لقيادة العمل الإسلامي في المرحلة القادمة بعلم، ووعي، وأدوات لا يستغني عنها أي قيادي؛ خاصة في العمل السياسي والحقوقي وما يرتبط بهما، حتى لا نؤخذ من جهلنا ببعض العلوم المؤثرة، وكي لا نكون مطية لظلم، أو مشاركين في اتخاذ قرار غير محسوب ولا مدروس، وما أحرى أن يلتفت بعضنا للعلوم الإنسانية؛ لأهميتها، وعمق أثرها، ولا يناقض ذلك العلم الشرعي، وسموه، وأولويته.
جاء في المقدمة أن الجغرافيا إما فيزيائية أو بشرية، والبشرية لها فرعان هما: فرع الجغرافيا السياسية الذي يدرس الدولة داخليًّا، وفرع الجيوبوليتيك الذي يدرس علاقة الدولة بمحيطها القريب والبعيد والأبعد، وعلاقة ذلك بسياساتها. ومع أن دراسة الجغرافيا لم ترق لكثير من الطلاب؛ إلا أنها مادة ماتعة حين تُكسر رتابة تعليمها، ومفيدة إذا نظرنا لفوائد دراستها التالية:
معرفة كيفية صناعة القرار الدولي.
استيعاب طبيعة التدافع البشري.
فهم أسباب الصراع على أرض شرقنا الإسلامي.
إدراك آثار المتغيرات الدولية علينا.
وذكر المؤلف في التمهيد أن هذا الكتاب هو الثامن في سلسلة إعداد قادة النهضة، حيث يدرس علاقة الظاهرة السياسة بالمكان، وما له من أهمية كبرى في السياسة الخارجية والداخلية؛ فالجغرافيا السياسية تنظر للعالم كبقع قوة، وبناء على فهمها توضع السياسات، وتتخذ القرارات، وفي ضوئها تدرس مشكلات الحدود، والمشكلات الإستراتيجية للدول كالتي تفتقد المنافذ البحرية مثلًا، ومن خلالها تحصر موارد البلدان، والإحصاءات الدقيقة عنها.
ثم تناول د. السلطان مناهج البحث في الجغرافيا السياسية، وصولًا إلى الجيوبوليتيك - وهو لب الكتاب - الذي يحدد طموحات الدولة، وضرورات الوجود والاستقرار، مع نظر فاحص للمستقبل، ورسم مسار بلوغه، فكأن الجغرافيا السياسية تقرير واقع، والجيوبوليتيك هو التخطيط للمستقبل من خلال هذا الواقع بفرصه ومخاطره، وعوامل قوته وضعفه.
عنوان القسم الأول: المقدمات النظرية لعلم الجيوبوليتيك، ويقع في واحد وستين صفحة، ويتكون من خمسة فصول، أولها بعنوان: طبيعة العالم، فالثابت أن هذا العالم في تغير مستمر، ولهذه الحقيقة اعتبار مهم في فهم مجريات الأحداث، والحلم بالأحسن، والخوف من الأسوأ، وعلى كل مهتم بالأمن القومي، ومستقبل البلاد أن يفطن لهذه الحقيقة، ولا يهملها، ويضعها نصب عينيه.
ومن هذا الباب، إدراك أبعاد السياسة بأدواتها الكبرى: العلم والمنجزات العقلية، والاقتصاد، والقوة العسكرية؛ لأنها في حال تغير مستمر، وقد نجم عن الاختلاف في هذه الأدوات تدافع كوني مستمر، رائده اختلاف الأفكار، أو ندرة الموارد، أو تنوع الاحتياجات.
والإنسان هو المحرك الأكبر لهذا التدافع، وغايته من ذلك ضمان وجوده، وتثبيت استقراره، وتنمية موارده. وتتحكم ثلاثة عناصر بالصراع البشري لتحقيق الغايات الآنفة، وهذه العناصر هي: القدرة على التنظيم، ونوع السلاح، وسهولة الحركة.
عنوان الفصل الثاني: نظريات العلاقات الدولية ومتخذ القرار، فمن الحكمة أن نعلم كيف يفكر عالم القوة؛ كي نحسن التعاطي معه. ثم حلل الباحث مدخلات اتخاذ القرار إلى عدة عوامل، تشترك معًا في صنع القرار، وتختلف درجة تأثيرها باختلاف قوتها، وهذه المدخلات هي: الفرد وتوجهاته ونظرته للآخرين، والدولة وتقديرها لمصالحها، والمؤسسات الدولية وموقعها من الأحداث.
وتحدث المؤلف عن نظريات العلاقات الدولية، وأشار إلى تداخلها في الواقع العملي، فربما يكون المحافظ ليبراليًّا في الاقتصاد، وبالتالي فلا غرابة أن يجتمع عند الشخص الواحد طيف من المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ويؤثر تصور صانع القرار عن العلاقات الدولية على خياراته، فهل ينظر للبشر على أنهم منطقيون أم عشوائيون لا يمكن توقع تصرفاتهم؟ وما تقييمه للساحة الدولية؛ وهل هي عالم مصالح متبادلة أم قد دبت فيها الفوضى؟ وكيف يرى دور الدول، وهل هي اللاعب الأساسي أم أنها تخضع لمصالح فئة أو طبقة؟ وأخيرًا هل للمنظمات الدولية قيمة حقيقية أم أنها مجرد غطاء عند الحاجة؟
ثم استعرض باختصار خمس نظريات للعلاقات الدولية، هي:
النظرية الليبرالية: وترى استقلال المجتمع والاقتصاد عن تدخلات الدولة قدر المستطاع، وأهم أركان هذه النظرية النظام الرأسمالي، وتنظر إلى عدة مرتكزات تتفاعل فيما بينها لتحقيق مصالحها، وهي: الدول، والمنظمات، والأفراد، وطبيعة النظام الدولي.
النظرية الليبرالية الجديدة: وتقع في أقصى يمين الطيف الليبرالي، وتطلق العنان للرأسمالية دون قيود، وتزامنت معها فكرة العولمة، واختلطت برؤية قومية أمريكية، ورؤى دينية نصرانية، ولذا فالتعابير الدينية حاضرة في خطابها، وكم عانى شرقنا الإسلامي منها، خاصة إبان رئاسة بوش الابن عامله الله بما يستحق.
النظرية الواقعية: وترى أن الإنسان أناني بطبعه، وأن السياسة الدولية صراع من أجل حيازة القوة، ولا يوجد مسؤول عن النظام الدولي؛ وبالتالي فلا مناص من استمرار الصراع. وتقيس هذه النظرية الأخلاق بالنتائج؛ فكل عمل يحقق نتيجة جيدة هو أخلاقي! ولا أمان فيها للدول عبر المعاهدات، خاصة مع تغير موازين القوى.
النظرية الواقعية الجديدة: تؤمن بمبدأ توازن القوى، الذي تحدده بنية النظام بما فيه من دول، ومنظمات، ووحدات فاعلة؛ وبالتالي فلا بد للدولة من أن تزيد من قوتها، وتنتبه لبنية النظام وتأثيراته، وتسعى للتحكم فيه. وتعد سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة نموذجًا تطبيقيًّا لهذه النظرية.
النظرية اليسارية الجذرية: واللاعبون الأساسيون في السياسة الدولية بحسب هذه النظرية هم الطبقات الاجتماعية، والصفوة السياسية، والمنظمات الدولية. وترتكز هذه النظرية على محاربة الرأسمالية ومفاهيمها وأدواتها، والسعي لتقليص نفوذها في العالم، وسلوك الاتحاد السوفييتي - السابق - التوسعي بالفكر وبالحرب تطبيق واضح لهذه النظرية.
وعرج بعدها على مواقف الدول الأقل حظًّا حيال الترتيبات الدولية، حيث تنقسم مواقفها إلى:
الاستقلال: مثل الهند، وتركيا، وربما نضيف البرازيل أخيرًا، وهي دول تحاول بناء قدراتها، مع اعترافها بالوضع القائم، وتحاول تخفيف ضغط الأقوياء عليها، وتتحرك من داخل قواعد اللعبة صوب الاستقلال.
التبعية: مثل كوريا الجنوبية، وبريطانيا في السياسة الخارجية، وشرقنا الإسلامي في جل شأنه مع الأسف، وتمتلك هذه البلاد هامشًا صغيرًا للمناورة، وأكثر تصرفاتها موسومة بالتبعية المطلقة للأقوياء، وإن ضحت بمصالحها وقيمها، ومن المؤكد أنها لا تفكر بالاستقلال بله أن تسعى له.
التمرد: مثل إيران، وكوريا الشمالية، وهي تعلن عن تمردها على السياق الدولي، وترفض فكرة دول المركز، وتفوق الإنسان الأبيض.
حلم السيطرة على العالم، هو عنوان الفصل الثالث، واتخذ الباحث من جنكيز خان نموذجًا للدراسة والتطبيق، حيث وجد د. السلطان أن جنكيز بدأ مسيرته لتحقيق حلمه بنقل قومه من مرحلة الفرقة إلى الوحدة، وبعد تحقيق الوحدة ارتقى طموحه إلى إخضاع العالم، فانساحت جيوشه في كل مكان، ليضع بعدها دستورًا ينظم شؤون إمبراطوريته مترامية الأطراف، وازدادت رقعة الدولة امتدادًا، وكثرت جبهات القتال، ليبدأ بعدها العد العكسي، وتتعرض وحدة الإمبراطورية لنخر في أساسها بسبب اختلاف العقائد، والصراع حول السلطة، والاستقواء بالخارج.
ومع أن دولة المغول قد تلاشت إلا أن حلم السيطرة على العالم لا يزال حيًّا، ولم يغادر مسرح الأحداث العالمية، وتسعى له الدول القوية، ومن الحكمة أن تتعامل معه الدول الضعيفة بسياسة تحمي مصالحها وقيمها، وأن تفيد من تصارع الكبار؛ لتنجو وتزداد قوة.
ويحمل الفصل الرابع عنوانًا لافتًا، وهو الجيوبوليتيك ومقاربة حلم الإمبراطوريات، ويؤكد المؤلف في مقدمته على ضرورة الاقتراب من هذا العلم من قادة الأمة، ليفهموا العالم وحركته. ومع تجاوز التسمية الأكاديمية، وهل هو جيوبوليتيك أم جيواستراتيجي، فإنه يظل عنصرًا أساسيًّا في رؤية عالم اليوم، ومن خلاله تتضح علاقة الجغرافيا بقوة الدولة أو ضعفها، ويمكن بواسطته تفسير سياسة الدول، وتحركاتها.
ولد هذا العلم في حضن الإمبراطورية البريطانية، وأصبح خادمًا لأحلامها، وأساسًا لفهم السياسة الدولية، لأن كل دولة تحدد عناصر قوتها وضعفها، ولوازم وجودها، واستقرارها ونموها، ورؤيتها لنفسها ومكانتها في العالم، وسبل استخدام القوة المتاحة لها.
ولهذا العلم أربع نظريات شهيرة؛ هي:
نظرية راتزل: ظهرت في كتابه «الجغرافيا السياسية» المنشور عام 1897م، وملخص نظريته أن الدولة كائن حي ينمو وتزداد حاجاته، وبالتالي فالحدود ليست نهايات للدول، ولذا اعتبر أن الحدود شفافة وليست مادية؛ بمعنى أن الدولة يحق لها التدخل حيث وجدت مصالحها، وأما سيادة الدول فتحت أقدام هذه النظرية، التي تعمل بها القوى العظمى متى شاءت؛ بالترغيب تارة أو بالترهيب لمن عصى!
نظرية ماكندر: حيث قسم العالم إلى مناطق، وقال بأن من يسيطر على قلب العالم (الاتحاد السوفييتي) يسيطر على الجزيرة العالمية (آسيا وأوربا)، ومن يسيطر على هذه الجزيرة يتحكم في العالم. ومن خلال نظريته ولدت ثنائية قوى البر، وقوى البحر، مع ميله لتفضيل قوى البر، لأنه يصعب على القوة البحرية بلوغ الأعماق، ولم يدر بخلده أن للجو قوة ستجعل المناطق الحصينة رخوة أمامها، وكانت هذه النظرية حاضرة بقوة في الحربين العالميتين.
نظرية ماهان: وهو أميرال بحري أمريكي، ومن الطبيعي أن يزعم أن التفوق لقوى البحر دومًا، خلافًا لنظرية ماكندر، وقد بنى الرئيس الأمريكي روزفلت سياسته على هذه النظرية، التي تدعو لإنشاء قوة بحرية ضاربة، فلا عجب أن يكون لأمريكا ثلاثة عشر أسطولًا بحريًّا تجوب بحار العالم ومحيطاته.
نظرية سبيكمان: وهي النظرية التي تدار بها السياسة الدولية اليوم، وتقوم على ركنين، الأول: صنع نظام عام لتوازن القوى كالأمم المتحدة، والثاني: أن من يسيطر على هلال الجزيرة العالمية يتحكم في مصير العالم، ويشمل هذا الهلال شرقنا الإسلامي وأجزاء من أوربا والصين وكوريا.
وعنوان الفصل الخامس: الاقتصاد والسياسة والأمن القومي، وذكر المؤلف أن الثورة الصناعية جعلت أوربا قوة إنتاج عملاقة، وتحتاج لمواد خام كثيرة، وأيد عاملة متوافرة ورخيصة، وأسواق فيها قوة شرائية ونهم استهلاكي، مع تأمين استمرار تفوقها في الإنتاج والتسويق، وصنعت هذه المزايا نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا معاصرًا، يمكن تقسيمه إلى:
دول المركز: وفيها حكومات قوية، ونظام صارم، وجيش عريق، ولديها مؤسسات اقتصادية كبيرة، واقتصادها متوازن بين الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والتمويل، ولديها عوائد ضريبية مناسبة، وتستثمر المواد الخام في التصنيع والإنتاج. وتتنافس هذه الدول على الموارد، والأسواق العالمية، وعلى دول الأطراف، وتحرص على التفوق في الإنتاج الذي يقود لتفوق في التبادل التجاري، وأخيرًا للتفوق الاقتصادي، وغالبًا يؤدي هذا التفوق إلى قوة عسكرية ضاربة.
دول الأطراف: وحكوماتها ضعيفة غالبًا، ومستبدة، وهيكلها الاقتصادي مختل، وناتجها الوطني ضعيف، وجل اعتمادها على المواد الخام استخراجًا ثم تصديرًا لدول المركز، التي تستورد المادة الخام بسعر رخيص، ثم تعيد ضخه على هيئة منتجات في أسواق دول الأطراف. وتعاني هذه الدول من الفقر، والطبقية، والخضوع للشركات عابرة القارات، ولدول المركز.
دول بينية: تقع بين دول المركز والأطراف، وقد تمارس أحيانًا دور الوسيط، وهي غالبًا إما دولة مركز تآكلت، أو دولة طرف تطورت.
مناطق خارجية: وهي دول تحتفظ باقتصادها الذاتي، وتحمل عقيدة مقاومة للغرب، ولم تصبح جزءًا من النظام العالمي الاقتصادي، مثل كوريا الشمالية، وإيران، وربما السودان في بعض التصرفات.
وأما ميلاد مصطلح الأمن القومي فمرتبط بالشؤون العسكرية، بيد أنه توسع بعد ذلك ليشمل القضايا الاقتصادية والقيمية، وصار ذريعة لإلغاء فكرة الحدود الصلبة للدول، وإحلال الحدود الشفافة بدلًا منها، ما يعني إمكانية تدخل الدول القوية في شؤون غيرها؛ بحجة حماية أمنها القومي.
ويبدأ بعد ذلك القسم الثاني من الكتاب بعنوان: تطبيقات الجيوبوليتيك في العالم، ويستهله المؤلف بالفصل السادس تحت عنوان الجيوبوليتيك، ويعيد تعريفه بأنه علم يدرس علاقة الدولة بمحيطها الخارجي، وبناءها سياساتها وتصوراتها على هذا المحيط، وعلاقتها به تأثيرًا وتأثرًا، وغاية ذلك تحقيق المصالح واجتناب المخاطر، حيث أصبح العالم في نظر صناع السياسة الدولية وحدة إستراتيجية كبرى، مقسمة إلى مناطق مثل لوحة الشطرنج؛ وفي هذا التشبيه إشارة إلى كثرة اللاعبين، وارتفاع عدد الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة، مع أهمية أن تكون «الأمة» لاعبًا محترفًا؛ وليست رقعة شطرنج تدار بأيدٍ نجسة، ونفوس آثمة!
وضرب د. جاسم النفط مثلًا في التأثير على التحركات العالمية الإستراتيجية، فالنفط ليس علاقة ثنائية بين بائع ومشترٍ، بل شبكة متداخلة من العلاقات والمصالح المتبادلة، والأخطار المتوقعة، ودول العالم معنية بحماية آباره، وتأمين طرق استخراجه، وخطوط إمداده، وموانئ تحميله، وأسواق بيعه.
ثم عرض د. السلطان خريطة العالم، وقدم وصفًا وافيًا عن كل جزء منها، وفي هذا الجزء بالذات، أُفضّل أن ينظر القارئ في خريطة العالم؛ كي يستوعب الشروحات، ويعرف أهمية أوكرانيا، ودول البلقان، والبحر الأسود، وخطورة بحر قزوين في موقعه وثرواته. كما يوضح الشرح أن مصطلح «الشرق الأوسط»، يختلف باختلاف القوة التي تستخدمه، والغرض المراد منه، وهو مصطلح هزيل، ووافد استعماري بغيض، والله يغنينا عنه قريبًا.
الفصل السابع عنوانه: مستويات وطبقات دول العالم، وهي ستة مستويات كما يلي:
دول المبادرة: أنشط لاعب في المجال السياسي، وتتميز باستقلال القرار، وامتلاك القدرة على الفعل، ولديها الاستعداد للخروج من حدودها لتغيير الوضع الجيوبوليتيكي، مثل: أمريكا، وروسيا، وفرنسا.
دول القابلية: تمتلك القدرة والإرادة، ولكن ملعبها ضيق الحيز، وليس لها أثر على المسرح الدولي حتى الآن، مثل: الصين، والهند.
دول الطموح الإقليمي: لديها قدرات بيد أنها لا تؤهلها لحضور دولي، فتكتفي بمحاولة فرض السيطرة إقليميًّا، مثل: تركيا، وإيران.
دول المسرح: تمتلك موقعًا أو مواردًا مهمة لدول المبادرة، وليس لديها قدرة؛ ولا إرادة مستقلة، فتغدوا مسرحًا يعيث به الأقوياء ويعبثون، وشرقنا الإسلامي هو المثال المحزن!
دول الخمول: لديها إمكانات هائلة؛ لكنها تفتقد الدافع أو الإرادة لسبب أو لآخر، وتفضل أن تبقى ظلًا لدولة كبيرة، والمثال البارز، تبعية اليابان وبريطانيا في السياسة الخارجية لأمريكا.
دول الحضور: تمتلك طموحًا، وبعض الإمكانات، وتسعى للتأثير الإقليمي، وضرب المؤلف المثل بدولة قطر، وقد يصدق هذا الوصف أيضًا على البرازيل، وجنوب إفريقيا، وربما يصح إطلاق صفة الحضور على الدول التي ليس لها قدرة إلا على التخريب والإفساد؛ كالنظام السوري مثلًا.
ويهتم الساسة بمعرفة طموح القادة ورؤيتهم، وقدرات الدول وإمكاناتها، وتحديد احتياجاتها ومخاوفها، ودراسة محيطها وعلاقتها به، ومعرفة أثر تحركاتها على القوى المحيطة، ومن مجموع هذه المعلومات يحسب السياسي الآثار المترتبة على تحركات الآخرين، ويصوغ سياساته لتؤدي إلى أحد هذه النتائج مع الأطراف الأخرى:
معادلته إستراتيجيًّا، كما في تحركات روسيا وأمريكا إبان الحرب الباردة.
مشاركته إستراتيجيًّا، كما في تعاطي أمريكا مع التدخلات الفرنسية في إفريقيا، حيث سعتا لتبادل الأدوار، والاشتراك في الغنائم.
السيطرة عليه إستراتيجيًّا، كما فعل الغرب مع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أو تقليل الخسائر واحتواء الأضرار، كما في التعامل مع الثورات العربية.
بعض تطبيقات الجيوبوليتيك: أمريكا نموذجًا، هو عنوان الفصل الثامن، فأمريكا قوة بحرية في الأساس، وتواجه قوى البر في أوراسيا، وتحالفها الإستراتيجي غالبًا مع قوى بحرية كبريطانيا واليابان، وتقوم فلسفتها في العلاقات الدولية على أنها مركز العالم، ويجب ترتيب العالم لتحقيق مصالحها ورؤيتها. ولها سيطرة تامة على أمريكا الشمالية؛ لكنها خارج قارتها تجد منغصات من دول أقل منها بكثير، مثل كوبا، وفنزويلا، ودول أمريكا الجنوبية؛ التي شرعت في الانعتاق من الهيمنة الأمريكية.
واتخذت أمريكا عدة ترتيبات عسكرية للسيطرة على العالم، وهي:
الأساطيل البحرية: فلها ثلاثة عشر أسطولًا تجوب المياه المفتوحة والمغلقة؛ لتكون قريبة من أي بقعة تحتاج إلى التدخل فيها. ويتكون كل أسطول من حاملة طائرات، وسفن هجوم برمائية، وغواصات، وسفن لصواريخ كروز، والمدمرات، والفرقاطات.
القواعد العسكرية: يوجد في أمريكا ستة آلاف قاعدة تقريبًا، وتنتشر سبعمئة قاعدة عسكرية أمريكية في أكثر من مئة وثلاثين بلدًا حول العالم.
التسهيلات العسكرية: وتقوم مقام القواعد العسكرية، حيث تسمح الاتفاقيات الموقعة مع بعض الدول باستخدام أراضيها ومرافقها.
الأحلاف العسكرية: ولم يتبق منها إلا أشهرها وهو حلف النيتو.
حرب النجوم: نظام دفاعي يعتمد على المحطات الفضائية، واستخدام أسلحة الليزر؛ لإسقاط أي هجوم بأسلحة بالستية موجهة ضد أمريكا.
الدرع الصاروخية: نظام دفاعي لتحييد الصواريخ عابرة القارات.
التحكم بشبكة الاتصالات: فكل رسائل البريد الإلكتروني تحط رحالها في أمريكا، ثم توزع حول العالم.
وأفادت أمريكا من ترتيبات غير عسكرية؛ للسيطرة على العالم، وهي:
الأمم المتحدة: وثمن مبناها الضخم مقترض بلا فوائد من اليهودي روكفلر! وتتخذها أمريكا غطاء «شرعيًّا» لأعمالها. ومع أن الأمم المتحدة أسست وفق نقاط طرحها الرئيس ويلسون؛ ثم بنى عليها الرئيس ترومان مقترحه لإنشاء المنظمة، من أجل حفظ السلم والأمن، إلا أن أمريكا دمرت هيروشيما بالقنابل النووية، بعد واحد وأربعين يومًا من توقيعها على ميثاق الأمم المتحدة!
التحكم في اقتصاد العالم من خلال أذرع دولية كصندوق النقد، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
الإنتاج المعرفي الضخم والمتنوع.
الإعلام ووسائل الترفيه.
وبذلك سيطرت على العالم ومفاصله الحساسة، بالقوة الناعمة، وبالقوة الصلبة.
عنوان الفصل التاسع: عالم ما بعد أمريكا، وفيه فحص المؤلف الدول التي يمكن أن تنافس أمريكا من خارج معسكرها، وبدأ بالصين؛ ذلكم التنين الذي يفقد الحضور الدولي الفاعل إلا في حدود ما يحفظ مصالحه، وفي نطاق ضيق قدر الإمكان، ولذا فنبرة التهديد الصينية غائبة إلا إذا مست قضاياها الجوهرية.
ومع تمسك الصين بأيديولوجيتها داخليًّا واجتماعيًّا؛ إلا أنها يممت وجهها نحو الاقتصاد الرأسمالي، وحققت نجاحات متوالية، مما جعل الغرب يقف حائرًا أمامها، ولا يدري متى يحق له أن يقلق منها، خاصة أن الأزمات التي تعصف بالغرب، ربما تغير الميزان الإستراتيجي لصالح الصين المستقرة اقتصاديًّا، ويزداد شأن الصين خطورة إذا ما تحالفت مع روسيا التي خرجت من بين الأنقاض، وارثة قوة وموقعًا، وطاقات وثروات، لن تظل ساكنة ألبتة؛ خصوصًا عندما تسنح الفرصة لفعل ما.
ثم انتقل الكتاب إلى دول نمور آسيا، وهي سنغافورة، وماليزيا، وتايلند، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، واستعرض د. جاسم نهوض هذه البلدان من كبوتها الاقتصادية، وغزوها أسواق العالم، وشركاته وخدماته، ومع أن مواردها ليست بوفرة موارد العالم العربي إلا أنها أفادت من الموجود، وجعلت لنفسها مكانة قابلة لمزيد من النمو والتأثير في المستقبل.
ووقف المؤلف عند تركيا، ذات التاريخ الباذخ في القوة والمجد أيام الدولة العثمانية، وكيف بدأت تستعيد عافيتها بعد صعود حزب العدالة والتنمية للحكم. ولم ينسَ النظر إلى ما أسماه اللغز الإيراني، فهي دولة ذات حضارة ومعتقد وقومية، وتمتلك مواصفات النشاط الإقليمي، وتربك جميع اللاعبين في المنطقة، لاسيما مع اختلاف خطابها الدبلوماسي عن خطابها المذهبي، إلى حدِّ التناقض.
والخلاصة من هذا الاستعراض، بروز عدد من المظاهر المشتركة عند غالب هذه القوى، وعلى رأسها وجود راية فكرية تحكم توجه الدول وسياساتها، مع اهتمام لاهث بالمعرفة؛ والسبق لها وللمخترعات، يدفعه رهان كبير على القوة الاقتصادية، مع عناية فائقة بتحسين الصورة الإعلامية للدولة، وقيمها، وشعبها، دون غياب الحسابات الدقيقة لأثر التحركات، والتحركات المضادة.
ومن الطبيعي بعد هذا التطواف الجميل أن يكون عنوان الفصل العاشر والأخير: نحو نظرية جيوبوليتيكية عربية، وابتدأه المؤلف بتحديد الأهداف التي يجب أن تسعى لها الدول العربية؛ لتكون من دول المركز القوية الفاعلة، وليست من دول الأطراف المفعول بها.
ويمكن اختصار هذه الأهداف بما يلي:
الاستقلال في القرارات عن التدخل الأجنبي.
النظام السياسي المستقر.
القوة العسكرية.
الاقتصاد المتوازن والمنتج مع مناسبة العائد المالي.
التفوق التقني والمعرفي.
العلاقات المتكافئة مع القوى الأخرى.
ثم كرر المؤلف مأساة تدريس الجغرافيا في بلادنا، وما نجم عن ذلك من جمود فكري في هذا العلم الحيوي، وما تبعه من فراغ ضخم في العقل العربي، وفي عقل صاحب القرار بالتبع، وكانت النتيجة الحتمية اختفاء أي نظرية جيوبوليتيكية عربية، ومع وجود علماء بلدانيين وجغرافيين في بلاد المشرق، إلا أن جهودهم قصرت عن جهود نظرائهم، مثل ماكيندر الإنجليزي، وهاوسهوفر الألماني، وماهان وسبينكس الأمريكيين.
ويتساءل د. جاسم: هل آن الأوان لنحرر إرادتنا، ونفكر في وضعنا ككتلة عالمية، ونتخلص من حال التذبذب، ونتجاوز الانقسام والتشرذم، وطغيان المصالح التكتيكية على الأهداف الإستراتيجية الكبرى، وننتصر على العوامل التي أدت إلى هذه الصورة الحزينة، وعلى رأسها طبيعة النظم السياسية، وغياب الأمة، والارتباط العميق بالمشاريع الغربية، وضيق النظرة المصلحية؟! إن وحدة مصير هذه الأمة، لكفيلة بسوقها نحو التعاون والاتحاد، خاصة لو أن هناك من يعي ذلك، أو يحرص عليه، ويدفع اللاعب السياسي نحوه دفعًا.
وأعاد المؤلف للأذهان بعض الحقائق الجغرافية عن عالمنا العربي، فهو رابع أكبر وحدة سياسية في العالم، بعد الصين والهند وأمريكا، حيث يتجاوز ثلاثمئة مليون نسمة، ويحتل عشر مساحة العالم، وموقعه متميز بإطلالته على البحار والمحيطات، وربطه بين القارات، ووجود أهم المضائق المائية فيه، فضلًا عن كونه خزان الطاقة للعالم، ولم يستخدم من أراضيه الصالحة للزراعة سوى ثلثها.
ومن المعيب أن نعجز عن إيجاد موقع عالمي مناسب لنا، فذاكرة التاريخ تسعفنا بمجد لم ننس أيامه بعد، وحقائق الجغرافيا تساند هذا الطموح، وواقع الاقتصاد والثروات يؤيدنا، فما الذي يمنعنا من صياغة مستقبل مشرق لأمتنا؟ وما الذي يحول عن نفض غبار الهوان عن جسد أمتنا؟ أهو عجز عن الفكرة؟ فأين النخب؟ أم هو خور الساسة، ودنو الهمة، والمصالح الآنية الضيقة؟ أم أنه مركب من جمود الفكر، وخذلان الساسة، وضياع معنى الأمة؟
ألم يأن لأمتنا أن تتجاوز وضعها السياسي المرتبك في خضم الانقلابات، وغموض التوارث، وسلب حق الأمة في المشاركة والاعتراض؟ ومتى نتجاوز الأفكار الانقسامية التي تتزايد في مجتمعاتنا، وتتناسل معها عوامل التفرقة، ما بين عرقية، ومذهبية، وجهوية، وطبقية؟ وكم نحن بحاجة لمظلة واحدة تجمعنا، وما يجمع الناس إلا الدين، واللغة، والتاريخ، والمصير المشترك، وكلها عوامل تتوافر للأكثرية، ولا مصلحة للأقلية المختلفة إلا مع الأكثرية المتوافقة، إنْ فهِم الطرفان لوازم ذلك، وأدى كل طرف ما عليه تجاه الآخر.
ثم ناقش المؤلف تحديات التنمية، والتخلف المعرفي، ومسائل الأمن القومي، وأطال الحديث عن القضية الفلسطينية، ووجود الكيان الصهيوني في جسم عالمنا، وآثار هذا الوجود على أي مشروع يجمع أهل المنطقة على كلمة سواء، وخلص إلى أن المعركة الكبرى تكمن في صناعة وعي جديد، بأفكار عظيمة، تنطلق من المسلمات، وتفيد من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو ما تسعى إليه هذه السلسة، التي يحتل كتابنا منها الترتيب الثامن.
والحقيقة التي لا مناص من الوقوف معها كثيرًا، هي أن أمتنا عانت في القرون المتأخرة من صنوف الذلة والهوان، ما يندى له جبين الأحرار، وإن لم تفكر في تغيير نفسها، وإزالة عوامل عثارها، وصنع مستقبل جديد ينطلق من واقع حيوي رشيد، فلن تكون أيامها القادمة أحسن مما سلف؛ خاصة مع إحاطة شرقنا الإسلامي بمشاريع متناحرة علينا، وعلى ثرواتنا، ومتفقة على عداء ثقافتنا، وإقصائها عن أي مشهد ثقافي أو إنساني أو تنموي، فضلًا عن عالم السياسة، والاقتصاد، والقوة، والسيطرة.
:: مجلة البيان العدد 340 ذو الحجة 1436هـ، سبتمبر - أكتوبر 2015م.