الموقف الخليجي بعد سقوط صنعاء وتداعيات عاصفة الحزم
في الوقت الذي كانت دول الخليج والمجتمع الدولي منشغلين فيه بالحرب الجارية في سوريا والعراق، كانت طهران ترسل أساطيل بحرية محملة بالأسلحة لجماعة الحوثي في اليمن، فهي تعرف أن بفقدانها للنظام السوري - ذراعها اليمنى في المنطقة - فلن يُعيد لها اعتبارها إلا جماعة الحوثي، فأدار الجميع ظهورهم لليمن، بينما إيران استدارت نحوها لتعيد وجودها انطلاقًا من كرسي الجزيرة العربية.
ربما لم تكن تحركات طهران المتسارعة تجاه اليمن بمنأى عن علم دول الخليج؛ وذلك بفعل التطمينات الغربية، لكن الأحداث الاستثنائية في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» جعلتها في رأس قائمة أولوياتها، فاستغلت طهران الحدث، حتى فاق الجميع على إعلان علي رضا زاكاني المقرب من المرشد الإيراني بقوله: «إن ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإسلامية، وإن صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي باتت في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية»[1]. ولم يمضِ يوم على تصريحه حتى التحقت صنعاء بالفعل بدمشق، وبغداد، وبيروت.
الخليج ترتيب الأولويات
في 21 سبتمبر من العام المنصرم سقطت صنعاء بيد الحوثيين، مما أثار حفيظة دول الخليج باعتبار أن اليمن ستكون منطلقًا للابتزاز الإيراني لهم في أي وقت، فأعربت السعودية عن موقف ساخط لسقوط صنعاء، وسارعت في تغيير أولوياتها.
لكن مع سعي دول الخليج والسعودية بشكل خاص في ترتيب أولوياتها وإعادة النظر في الشأن اليمني، أعادوا النظر في الوقت نفسه لقراءة الحلفاء داخل اليمن؛ إذ إن مدرعات الحوثيين لم تسيطر على صنعاء إلا بـ«دكاكات» الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي مهد لهم الطريق في كل منطقة سقطت بأيديهم وخرجت عن سيطرت الدولة بما فيها صنعاء.
ولأن المبادرة الخليجية جاءت لوضع تسوية سياسية كمجال لحسن النوايا، ونزع فتيل حرب أهلية وشيكة آن ذاك، إلا أنها أعطت فسحة للرئيس السابق للقضاء على خصومه السياسيين، على رأسهم حزب الاصلاح (إخوان اليمن) وتهشيم قوتهم الشعبية عن طريق الحوثيين، فـ«الرجل كان ولا يزال موجودًا في اليمن، رئيسًا لحزب المؤتمر، وناشطًا سياسيًّا له تحالفاته داخل المؤسسة الأمنية للدولة وخارجها، خرج من بوابة الثورة، ليعود أولًا من نافذة المبادرة الخليجية، وثانيًا من ثغرة الحوثيين، كانت تجب مقايضة حصانته من المساءلة بخروجه من اليمن، لذلك فإن المنطقة تدفع ثمن هذا التنازل»[2].
تسارعت الأحداث ووجد مجلس التعاون الخليجي نفسه مضطرًا لمباركة اتفاق السلم والشراكة في 21 سبتمبر 2014م[3]، باعتباره يعطي شرعية للحوثيين أكثر في التحرك بديلًا عن الدولة لاسيما في المجال الأمني ومثّل غطاءً سياسيًّا لجريمة إسقاط صنعاء واحتلال مؤسسات الدولة التي لم يسلّموها إلى الآن.
وبرغم أن السعودية ودول الخليج أعلنت أكثر من مرة دعمهم للرئيس هادي إلا أنه عجز عن إدارة البلد بعد اتفاق السلم والشراكة، وكل يوم يمر تزداد شهية الحوثيين في الحصول على مكاسب سياسية وميدانية، وحاولوا فرض إصدار أكثر من 140 قرارًا تقضي بتعيينات لحوثيين في الوزارات والسلك العسكري، وحين رفض الرئيس هادي الإملاءات فجر الحوثيون الموقف وسيطروا على دار الرئاسة في 21 يناير، وحاصروا منزل الرئيس هادي وفرضوا عليه إقامة جبرية مع وزراء الحكومة.
في 23 من الشهر ذاته، قدم الرئيس هادي استقالته للبرلمان لكن السعودية في اليوم الثاني كانت منشغلة بوفاة الملك عبدالله، وعقب تسلم الملك الجديد سلمان بن عبدالعزيز الحكم شرع بإحداث تغييرات وظيفية كبيرة في أجهزة الدولة بمن فيهم صانعو السياسة السابقة، وهنا سعى الملك سلمان لاحتواء الملف اليمني وبشكل عملي؛ ففي 14 فبراير تبنت دول الخليج صيغة مشروع قرار جديد لمجلس الأمن تضمن عبارات صارمة ضد جماعة الحوثي التي وصفها بـ«الانقلابية»، وطالب بضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة مقترحًا الانتقال إلى الخطوة التالية: اتخاذ قرار دولي يضع اليمن تحت إجراءات تنفيذية للبند السابع. لكن روسيا أعاقت صدور القرار بحجة تضمنه عبارات شديدة ضد الحوثيين المتحالفين مع حليفتها الإستراتيجية في المنطقة (إيران).
وبدلًا من فرض عقوبات شديدة على جماعة الحوثي والرئيس السابق علي صالح خرج القرار متعثرًا ومخيبًا للآمال، لكن دول مجلس التعاون الخليجي استمرت في الضغط والدفع نحو تحجيم الحوثيين وكسر الانقلاب.
رسائل ضغط خليجية
وبفعل عرقلة روسيا لأي عقوبات ضد الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح، واصلت دول الخليج التحرك بطريقة ذاتية؛ فالتعويل على مجلس الأمن يعطي للحوثي وقتًا لالتهام ما بقي من كيان للدولة، وإعطاء متنفس لإيران لابتزاز الخليج في ملفات أخرى في المنطقة.
عملت المملكة العربية السعودية ودول الخليج على الضغط باتجاهين: الأول سياسي، والثاني اقتصادي، وهي عبارة عن رسائل خارجية للمجتمع الدولي باعتبار ذلك خيارًا في حال استمر تقاعس المجتمع الدولي، وللداخل اليمني وهم الحوثيون، حيث صرح وزير خارجية قطر خالد العطية أن «هناك إجراءات ستتخذها دول الخليج لحماية مصالحها بعد سيطرة الحوثيين على السلطة، وأنهم سيتخذون بشكل جماعي ما من شأنه حماية مصلحة الخليج تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة»[4].
وبالتوازي مع كلام العطية، أعلن مصدر خليجي مسؤول أن «فرض عقوبات اقتصادية ضد اليمن خيار مطروح بعد سيطرة الحوثيين على البلاد، وأن دول المجلس تنتظر ما يمكن أن يسفر عنه قرار مجلس الأمن الدولي وما يثمره الحراك الداخلي للبلاد».
وعلق المصدر على سحب سفراء الخليج من صنعاء وعلى رأسهم السعودي بأنه «تحرك سياسي ذو ارتباط اقتصادي، ومتى اضطرب الوضع سياسيًّا اضطرب اقتصاديًّا»، مضيفًا: «كل شيء وارد في المستقبل، وأي إجراء سياسي قد يتبعه آخر اقتصادي»[5].
هذه التحركات الأولية انعكست فعليًّا على الاقتصاد اليمني فقد أكد مصدر مسؤول في مصرف اليمن المركزي أن «العقوبات الاقتصادية التي هدد الخليج باتخاذها طالما تمسكت جماعة الحوثي بإحكام سيطرتها على البلاد دخلت حيز التنفيذ، حيث تعطلت تدفقات المنح والمساعدات المالية التي كانت تتجاوز ملياري دولار سنويًّا»[6].
دعم خليجي بعد مغادرة هادي صنعاء
بعد تمكن الرئيس هادي من الإفلات من حصار الحوثيين لمنزله بصنعاء في 21 فبراير واستقراره في مدينة عدن مثــَّل ذلك منعطفًا جديدًا لدى دول الخليج حيث اعتبرت أن خروج الرئيس هادي «خطوة مهمة لتأكيد الشرعية».
وفي الوقت الذي ألقت دول الخليج ثقلها لدعم شرعية الرئيس هادي والانتقال الجماعي لسفاراتها إلى مدينة عدن كعاصمة مؤقتة بديلًا عن صنعاء، كان الحوثيون يحاولون كسر العزلة السياسية، فقاموا بزيارات إلى طهران وبثوا عبر وسائل إعلامهم أن ثمت صفقات في مجال التنمية بين اليمن وطهران، لكن الحوثيين لم يكتفوا بالرد على دول الخليج والسعودية على وجه التحديد، إذ قام الحوثيون بمناورات عسكرية في 21 مارس بمنطقة «البقع» على الحدود السعودية اليمنية، ربما كانت رسالة للسعودية أكثر منها لدول الخليج.
في نفس اليوم 21 مارس كان رد دول الخليج جاهزًا على الحوثيين، إذ أكد وزير خارجية قطر خالد العطية لـ«الشرق الأوسط» أن «دول مجلس التعاون الخليجي لديها من الإمكانيات والإجراءات التي لا تعلن عنها للدفاع عن مصالحها وحدودها».
لم تكتفِ جماعة الحوثي ببقائها في صنعاء بعيدة عن مدينة عدن بل تصاعدت حدة التحشيد لمحاولة إنهاء شرعية الرئيس هادي باعتباره أصبح حجر عثرة أمام سيطرتهم على السلطة. فبعد استهداف حوثيين في مسجدين بالعاصمة صنعاء في 19 مارس، كان هذا الحدث لهم بمثابة فرصة ذهبية للتحريض على الرئيس هادي، حيث اتهمته الجماعة بأنه «يعطي غطاء للجماعات الإرهابية»، بل اتهمت دول المنطقة أيضًا[7]، ولم يكن هذا الاتهام سوى قفز على الواقع واستغلال تلك الدماء لتحقيق مكاسب ميدانية ولكن هذه المرة في الجنوب واقتلاعًا لهادي والأطراف السياسية المؤيدة للشرعية في عدن.
ومع أن مجلس الأمن في تلك اللحظة (22 مارس)، عُقدت جلسته بشأن اليمن إلا أن مخرجاته كانت على شكل بيان غير ملزم وليس قرارًا تحت الفصل السابع كما كانت تؤمل الأطراف السياسية في اليمن برغم استخدام الحوثيين وصالح الطيران في قصف القصر الموجود فيه الرئيس هادي في عدن، وبهذا أصبح الخطر وشيكًا على بقاء هادي في عدن ومن معه من القوى السياسية.
قرر الرئيس هادي، على إثر ذلك، أن يطلب من مجلس التعاون الخليجي التدخل عبر «درع الجزيرة»، فقد نقل وزير الخارجية اليمني المكلف عن الرئيس هادي «طلب تدخل درع الجزيرة من أجل السرعة في إنقاذ الشريعة لأن عامل الوقت ليس لصالح الشرعية وإذا تأخرت فإنه من الصعب معالجة القضية اليمنية»[8].
دول الخليج.. آخر الكي «عاصفة الحزم»
بات من الصعب أن تتعامل دول الخليج مع الملف اليمني حاليًا مثلما تعاملت معه قبل سقوط صنعاء، بل أصبح يتصدر أولوياتها «فأمن اليمن هو من أمن دول الخليج وكلٌ لا يتجزأ» بحسب وصف وزير خارجية المملكة سعود الفيصل.
لكن، وبعد أن وصل المشهد اليمني إلى حالة الصراع المسلح ومصادرة الحوثيين للقرار السياسي؛ جعلت دول الخليج أمام خيارات وتحديات صعبة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تصريح مندوبة قطر لدى الأمم المتحدة نهاية فبراير الماضي أن «هناك مؤامرة من قبل دول إقليمية ودولية يتم فيها مقايضة الملف اليمني بالملف السوري»[9]، وقد تصدرت لذلك إيران وروسيا.
قررت السعودية وبمشاركة عشر دول عربية وإسلامية استخدام القوة كخيار أخير بعد فشل المفاوضات ووساطات سعودية[10]، فالاندفاع الحوثي لاجتياح المناطق الجنوبية ومدينة عدن مقر إقامة الرئيس هادي تطلب التدخل السريع بعد أن طلب الرئيس هادي من المملكة التدخل العسكري لإنقاذ البلاد.
وفي 26 مارس شنت طائرات خليجية وبدعم من التحالف العشري ضربات خاطفة على معاقل الحوثيين في صعدة ومعسكرات في صنعاء موالية للرئيس السابق علي صالح، «ودمرت خلال 15 دقيقة أهم مراكز القيادات والسيطرة ومراكز الاتصالات التي تسيطر عليها جماعة الحوثي»[11].
ويبدو أن هذه الضربات التي وجهتها القوات الجوية لم تكن تقتصر على خطر يهدد اليمن فحسب بل بات تهديدًا واضحًا للحدود السعودية، وهذا ما أشار إليه المتحدث باسم قوات التحالف العشرية (عاصفة الحزم) بأنهم رصدوا تحركات حوثية على الحدود مع السعودية وهذا ما دعاهم إلى التحرك واستهداف هذه التحركات ومنعهم من الوصول إلى الحدود»[12].
كانت الضربات موجعة لمعاقل الحوثيين ومفاجئة لهم، وهو ما استثار حفيظة إيران وأربكهم أمام توحد عربي ضد حليفهم الصاعدة في اليمن، فحاولت إيران عدم الاندفاع وعبرت عن مواقف تنحو إلى الحل السياسي ومطالبتهم بوقف إطلاق النار.
قرأ التحالف الخليجي والعربي الضربة بإحكام فإيران برغم استماتتها في دعم الحوثيين إلا أنها في ظرف حرج، وهو ما جعلهم يتجهون نحو الحل السلمي في اليمن «والعمل على تشكيل حكومة شاملة»، بحسب ما مقاله الرئيس الإيراني حسن روحاني.
من جهة الحوثيين، وجدوا أنفسهم منكشفين أمام توحد شبه عربي وسخط محلي، فصالح هو الذي ساقهم إلى فوة البنادق حين أغراهم بالقضاء على خصومهم، مع ذلك فلا تزال الجماعة تكابر واعتبار أن الحق الإلهي معهم مقابل «محاربة الاستكبار العالمي»، فأعلن زعيم جماعة الحوثي عقب هجوم التحالف أنهم «سيردون من خمس جبهات»[13].
وفضلًا عن الحديث حول هذا التوجه العسكري الذي تقوده السعودية وردود فعل الحوثيين وصالح، يبقى أن عليها بوجه خاص أن تتحمل من الآن مسؤولية الملف اليمني على المدى القريب والبعيد، ومواجهة تحديات التقارب الأمريكي الإيراني، فهو - أي التقارب - الذي جعل أمريكا تتخفف من خطر الحوثيين بمقابل مكاسب تجنيها في المنطقة.
:: مجلة البيان العدد 335 رجب 1436هـ، إبريل – مايو 2015م.
[1] تصريح لمندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من المرشد الإيراني علي خامنئي، 22 سبتمبر 2014م، موقع «عربي 21».
[2] خالد الدخيل: «اليمن: خيار الحرب والسلم»، صحيفة الحياة اللندنية 15 مارس 2015م.
[3] كان اتفاق السلم والشراكة بين الأطراف السياسية عقب دخول الحوثيين صنعاء وفي اليوم نفسه.
[4] تصريح وزير خارجية قطر خالد العطية لـ«الشرق الأوسط» في 18 فبراير 2015م.
[5] صحيفة «الاقتصادية» السعودية 17 فبراير 2015م.
[6] «العربي الجديد» 27 فبراير2015م.
[7] كلمة لعبدالملك الحوثي في 22-3-2015م يشير فيها باتهامات للمملكة إضافة إلى البيان الصادر عن الجماعة عقب التفجير، وهذه اتهامات حاولت أن توظفها الجماعة سياسيًّا حتى تحصد مكاسب سياسية وميدانية، وهو ما جعلهم يتمددون بسرعة نحو الجنوب بحجة ملاحقة منفذي الهجوم.
[8] تصريح الدكتور رياض ياسين وزير الخارجية اليمني المكلف لقناة «العربية الحدث»، 23-3-2015م.
[9] نشرت مندوبة قطر لدى الأمم المتحدة علياء آل ثاني على صفحتها في «فيسبوك»، ونشر التصريح في وسائل الإعلام.
[10] تداولت وسائل الإعلام اليمنية أن وزير الدفاع السعودي تواصل مع أحمد علي نجل الرئيس اليمني السابق قبل تدخل «عاصفة الحزم» وحذره من التوغل نحو مدينة عدن مكان تواجد الرئيس هادي واستغلال المعسكرات لصالح الحوثيين، ولكنه رفض الأمر وعجّل بالتدخل.
[11] العميد أحمد عسيري المتحدث باسم تحالف «عاصفة الحزم» في مؤتمر صحفي عقد في 26 مارس بالرياض.
[12] المتحدث باسم تحالف «عاصفة الحزم».
[13] عبدالملك الحوثي في خطابه عشية قصف تحالف «عاصفة الحزم».