• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المؤسسات القرآنية ومشاريع حفظ القرآن الكريم

المؤسسات القرآنية ومشاريع حفظ القرآن الكريم

المشروع في لغة الإداريين هو: مجهود مؤقت يتم القيام به للحصول على نتيجة محددة.

وبتفصيل هذا التعريف يمكننا القول بأن لفظة «مجهود» تعني مجموعة من الأنشطة والأعمال، و«مؤقت» أي له بداية ونهاية محددتان، و«نتيجة» أي الهدف الذي أقيم المشروع لأجله، وهذه النتيجة قد تكون منتجًا محسوسًا (مادة)، وقد تكون خدمة.

وفي هذه الأسطر نريد أن نسلط الضوء على المشاريع القرآنية التاريخية، وما يمكن أن تقدمه المؤسسات القرآنية من مشاريع ينفع الله بها البلاد والعباد.

 المشاريع القرآنية في عصر الخلافة الراشدة:

لقد سبق سلفنا الصالح في تنفيذ المشاريع القرآنية سبقًا عظيمًا تحمدُه الأمة إلى اليوم، فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه ينفّذ مشروعًا في جمع القرآن الكريم مكتوبًا، بعد أن كان منثورًا في صدور الرجال. وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يقيم المدارس القرآنية العظيمة في الكوفة والبصرة والشام. وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يجمع الناس على مصحف واحد بين دفتين؛ هو هذا الذي بين يديك. فأعظِم بها من مشاريع لا تزال الأمة تتفيأُ ظلالها وترتوي من معينها.

جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

عن زَيْد بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ [عقب قتل الصحابة في اليمامة وكان عدد من قتل منهم سبعمائة أو أكثر، منهم سالم مولى أبي حذيفة][1]، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.

قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ[2].

وقام عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأت به[3]. وبدأ زيد بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في مهمته الشاقة، معتمدًا على المحفوظ في صدور القراء والمكتوب لدى الكتّاب، وقد راعى غاية التثبت؛ فمع كونه حافظًا لم يكتفِ بمجرد أن يجد الآيات مكتوبة حتى يشهد بها من تلقاها سماعًا، قال ابن شامة: وكان غرضهم ألا يكتب إلا عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة[4].

وتمّ العمل على هذا المشروع الكبير، وجُمِع القرآن الكريم مكتوبًا كاملًا في صحف مضبوطة، وتمّ حفظها بشكل رسمي.

المدارس القرآنية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

اهتمّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعليم القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا ورتّب لمعلمي القرآن رزقًا في بيت مال المسلمين[5]، وكان يرسل - رضي الله عنه - المعلمين إلى أهل البوادي[6]، واعتبر ذلك إحدى إستراتيجيات الدولة الإسلامية، فبعث إلى الكوفة: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وإلى حمص: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وإلى دمشق: أبا الدرداء رضي الله عنه، وإلى فلسطين: معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي مات هناك بالطاعون، وإلى البصرة: أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لأهل البصرة حين قدم عليهم أميرًا: بعثني إليكم عمر بن الخطاب أعلمكم كتاب ربكم وسنتكم، وأنظّف طرقكم[7]. ولمّا بعث رضي الله عنه إلى الكوفة كلًا من عمار بن ياسر رضي الله عنه أميرًا، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنه معلمًا؛ كتب إلى أهل الكوفة: إني قد بعثت إليكم عمارًا أميرًا، وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي[8]. وهذا يعني أن أمراء الأمصار كانوا على إدراكٍ تامٍ من سياسة عمر بن الخطاب التعليمية مما كان يؤكّد عليهم، قال رضي الله عنه في إحدى خُطَبه: اللهم إني أُشهدك على أمراء الأمصار، فإني بعثتهم يعلمون الناس دينهم وسنة نبيهم[9].

كما أبقى رضي الله عنه عددًا من أئمة القرآن والتفسير في المدينة النبوية، كعبدالله بن عباس رضي الله عنهما.

وتخرّج على هذه المدارس أئمة التابعين رحمهم الله كعطاء ومكحول والأسود وعبدالله بن عامر وسعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي، وسائر الثلة التي انتفعت بها أمة الإسلام إلى هذا الزمان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

جمع القرآن في مصحف واحد في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:

عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّاْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ. فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ {مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: ٣٢] فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ[10].

وفي رواية مصعب بن سعد: فقال عثمان: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب [أفصح]؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد[11].

وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلّم قراءة الرجل والمعلّم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضًا فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافًا[12]، لكنه لم يُحدِث شيئًا حتى جاءه حذيفة رضي الله عنه بخبر الاختلاف، عن أبي الشعثاء قال: قال حذيفة: يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة[13].

وأتمت اللجنة العلمية عملها بعناية فائقة، وأقرّهم الصحابة على هذا العمل آنذاك، حيث تم نسخ ستة مصاحف وزع منها أربعة على الأمصار: مكة والشام والكوفة والبصرة، وأبقيت النسخة الخامسة بالمدينة واحتفظ عثمان رضي الله عنه بالنسخة السادسة. ثم نقلت سائر المصاحف عبر القرون التالية عن مصحف عثمان رضي الله عنه المعروف بالمصحف الإمام، وسمي رسمه بالرسم العثماني[14].

هل نحن بحاجة إلى مشاريع قرآنية؟

برغم الوعد الصادق من الله بحفظ كتابه كما في قوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] إلا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يدركون تمامًا أن من طبيعة هذا الدين أنه لا يقوم بذاته، بل يقوم على كواهل طائفة من البشر، تتحمل في سبيل ذلك ما شاء الله مما يقدّره على عباده الصالحين ويثيبهم عليه، ولهذا كان الخوف من ذهاب القرآن، وكان الشعور بمسؤولية حفظ القرآن، وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم. فالناس أدوات لحفظ القرآن الكريم، حفظ حروفه ومعانيه وأحكامه وتحكيمه وتنزيله في حياة الناس.

وفي كل مرّة يقام للقرآن الكريم مشروعٌ يُحفَظ به تجد الأثرَ الكبير في واقع الأمة والنهوض بها من الدون إلى الأعلى، وحين تنصرف الأمةُ عن المشاريع القرآنية فإنها تضعف وتتمزق، ولعلّ هذا هو سرّ ضعف المسلمين داخليًا برغم الفتوحات والإنجازات التي قدمتها الدولة الإسلامية في أزمان فائتة؛ بينما في عهد الخلافة الراشدة كانت حركة الجهاد في سبيل الله تسير متوائمة مع مشاريع حفظ القرآن الكريم.

هذه النقطة بالذات هي التي تفسر لي إجابة سفيان الثوري رحمه الله (ت 161هـ)، وقد عاصر الحركة الجهادية، حين سُئل عن الرجل يغزو أحبُ إليك أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»[15].

وإذا كنّا مأمورين باتباع سنة الخلفاء الراشدين (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)[16]، فإن من سنّتهم القيام بالمشاريع القرآنية النوعية، وإن على المؤسسات القرآنية اليوم أن تقوم بهذا الواجب في ظل العداء العالمي لهذا القرآن، والذي يتخذ مسارات عديدة؛ منها صرفه عن توجيه الأمة، ومنها صرف الأمة عن حفظه وتحكيمه ومعايشته والاهتداء به والاعتزاز به، ومنها التشكيك في جدوى فعاليته في هذا العصر، ومزاحمته بالنظريات الحديثة، وغير ذلك مما يواجهه النشء المسلم اليوم بالتزامن مع طوفان الانفتاح والانحلال الهادفين إلى اقتلاع هويته الإسلامية التي صنعها القرآن الكريم.

لقد أدرك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أن الأمة المسلمة لا قيام لها ولا نهوض ولا نصر ولا رفعة ولا خيرية بدون القرآن الكريم، فجعلوا العناية به إستراتيجية واضحة الرؤية والأهداف، وأدرك الناس بعد ذلك عمق رؤيتهم وصدق خُطّتهم.

إن المشاريع القرآنية، صغر حجمها أم كبر، لهي لبنة في بناء الأمة المسلمة، وسبيل من سبل الارتقاء بالدعوة الإسلامية، ومَعلم مهم من معالم التربية الإسلامية، وسيحمد الناس فيما بعد بناءً يقوم على رعاية كتاب الله العزيز، وستحمد الأجيال التصاقها به.

ماذا يحتاج المجتمع من المؤسسات القرآنية؟

إذا كنا تحدثنا عن أثر القرآن في بناء الأمة، وحاجة الأمة إلى مشاريع قرآنية، فإنه يمكن تسليط الضوء على الاحتياجات المجتمعية من المؤسسات القرآنية، والتي من خلالها ستكون هذه المؤسسات قادرة على صياغة مشاريع قرآنية تلبي تلك الاحتياجات:

المجتمع بحاجة إلى قرّاء يتخلقون بأخلاق القرآن، ويتمسكون بهديه، ويلتزمون آدابه، ويجتهدون في تطبيق أحكامه، يرجع إليهم المجتمع في معرفة دين الله، ويلتفّ حولهم عند حلول النوازل والمستجدات والكوارث والملمّات، ويصدر عن رأيهم حين تدلهم المحن وتنتشر الفتن، فإن هذا هو مقتضى الأمر الإلهي: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٣٤].. قرّاء يجددون لنا سمت السلف الصالح في عباداتهم ومعاملاتهم وفكرهم وعلمهم.

والمجتمع بحاجة إلى مدارس قرآنية، لا يكون همُّها يتركز فقط في جانب الحفظ والتلاوة، بل مدارس تعتني بالبعد الإنساني في الطلاب، فتلبي احتياجاتهم النفسية وتراعي خصائص مراحلهم العمرية، وتنمي شخصياتهم، وتصقل مواهبهم، وتعالج اضطراباتهم، وتعمل على تحقيق التوازن والتكامل في وجدانهم وسلوكهم.

والمجتمع بحاجة إلى أئمة مساجد يؤمون الناس في صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان، أئمة مساجد متقنين لما يحفظونه من القرآن الكريم، يجيدون القيام بواجبات الإمامة، كالأداء الجيد والحفظ المتقن ومواجهة الجمهور والقدرة على الإلقاء والإجابة عن الأسئلة وإدارة أعمال المسجد في رمضان. فإن الناس في شهر رمضان يقبلون على المساجد ويحبون سماع كلام الله، وحين أقام عمر صلاة التراويح في شهر رمضان جعل سيدَّ القراء أُبي بن كعب رضي الله عنهما إمامًا للناس[17].

والمجتمع بحاجة إلى تعلّم أحكام القرآن الكريم، وآدابه، ومفاهيمه، وتصوراته، بأسلوب يتلاءم مع مستوياتهم العمرية والعلمية، من دون تعقيد أو تمييع، فإن القرآن الكريم أحد شقي الهداية كما جاء في حديث النبي : «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله»[18].

والمجتمع بحاجة إلى أن يتعلم كيف يتدبر القرآن الكريم، بحاجة إلى أن تكون لديه تلك الملكة العظيمة (التدبر)، ليقوم كلّ فرد في المجتمع بتدبر القرآن واستلهام معانيه وإشاراته، امتثالًا لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، فإن القرآن إنما أنزل للتدبر والاهتداء.

والمجتمع بحاجة إلى تنمية نسائه وفتياته تنمية حقيقية تلائم فِطَرهن، وتلبي احتياجاتهن، وتفعّل أدوارهن في المجتمع، تنمية منطلقة من كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن الله تكفّل في كتابه بالهداية إلى الأفضل والأحسن والأكمل والأجمل {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩]، تنمية لا تأبه بالشعارات الزائفة والنداءات المهزومة والتي لا ترى في تنمية المرأة إلا التمرّد على الرجل وحرية الإغواء.

والمجتمع بحاجة إلى متخصصين ومتخصصات في علوم القرآن وأدائه وتفسيره، يثرون الساحة بكنوز القرآن الكريم ويُطلعون الناس على ما توصلت إليه أبحاثهم ودراساتهم، من خلال مؤتمرات أو دروس أو حلقات مرئية عبر القنوات الفضائية أو مؤلفات ومجلات علمية وغيرها.

والمجتمع بحاجة إلى معرفة القصص القرآني للأنبياء وغيرهم، وقصص الأمم السابقة، واستلهام الدروس والعبر منها، ليقتدوا منها بما هو محلّ الاقتداء كما قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٠٩]، ويحذروا منها ما هو محل الحذر والشؤم والنقيصة كما قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ} [النمل: ٩٦].

والمجتمع بحاجة إلى موهوبين ومبدعين وكتّاب ومثقفين؛ يستلهمون مسيرتهم من كتاب الله، ويعمرون الأرض بهدي القرآن في مجالاتهم، ويبنون حضارة قرآنية متفردة متميزة، ويطوّعون الفكر والمادة في خدمة القرآن وأحكامه وهديه.

والمجتمع بحاجة إلى تحصين فكري ضد سلبيات الانفتاح العالمي الوافدة إليه، من الأفكار والمبادئ والقيم الرديئة والهادمة، فإن لهذا الانفتاح تبعات ومضاعفات؛ نريد تخليص المجتمع من آثارها، وتحصينه ضدها. المجتمع اليوم ترد عليه الكثير من الشبهات والشهوات من خارجه، تمزق فكره وعقيدته وهويته، ولا ينفع إلا أن نبني حصنًا يحميه بإذن الله أو سدًا يصدّ هذا الطوفان.

والمجتمع بحاجة إلى تقنية تستضيء بكتاب الله.. تقنية لا تخدش قيم المجتمع ومبادئه، ولا تهدم عقيدته وهويته. تقنية تبادر وتنجز وتقدم كل ما هو مفيد ونافع، وكل ما من شأنه يبني ولا يهدم.

والمجتمع بحاجة إلى معرفة السيرة النبوية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال العرض القرآني المميز والوقّاد، حيث عرض القرآن الكريم سيرتَه عرضًا عجيبًا، تتطرق فيه إلى الجو العام للأحداث وخلجات الصدور، وجعل من حياة محمد صلى الله عليه وسلم كتابًا مفتوحًا يقرؤه كل قارئ للقرآن الكريم. ولله حكمة في التعرض لجزئيات صغيرة في حياة نبينا صلى الله عليه وسلم. إننا بحاجة إلى التعرف على هذه الجزئيات وطريقة عرضها في القرآن الكريم وكيف عالجها وناقشها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

المشاريع القرآنية التي نريد:

لا مشكلة من كون المشروع الذي يراد منه خدمة كتاب الله: صغير الحجم أو كبير الحجم، فإن هذه مسألة ترجع إلى الهدف من هذا المشروع والشريحة المستفيدة منه والإمكانات المتاحة. غير أننا بحاجة إلى مشاريع «نوعية» تضرب أطنابها في عمق الهدف، ولنا أنْ نصف هذه المشاريع بأنها:

واضحة الرؤية محددة الأهداف، قد تمّ التخطيط لها بناء على معطيات حقيقية وإحصائيات رقمية، ولدى القائمين عليها تصورٌ عما تؤول إليه الحال بتنفيذها، فهي ليست مشاريع يتمّ الاتفاق عليها بناء على مؤثرات عاطفية أو تقليدًا ومحاكاة لقوم آخرين لديهم الفكرة نفسها. كل مشروع قرآني قام في عصر الخلافة الراشدة كان واضح الرؤية والأهداف.

وهي مشاريع إبداعية، تفتقت الأذهان عنها، بسبب الحاجة إليها، وكما قيل: الحاجة أم الاختراع، وبالتالي فأصحابها يغامرون لأنهم يفعلون شيئًا جديدًا، أو يصنعون منتجًا جديدًا، وقد يقابل هذا الإبداع مقاومة من نوعٍ ما، يحتاج معه إلى أدوار إقناعية. وإنما يكون الإبداع في الوسائل والأساليب والتقنيات وليس في المنهج، فإن المنهج واحد لا يتغير، وهذا يتطلب مستوى من الوعي وحوارًا يجتمع فيه رواد المؤسسة القرآنية على فكرة التفريق بين المنهج وبين الوسائل والأساليب والتقنيات، وقد كان جمع القرآن الكريم مشروعًا إبداعيًا غير مسبوق.

وكما أنها مشاريع إبداعية؛ فهي أيضًا مشاريع ذات رؤية شرعية مؤصلة، لها ما يبررها من مصادر الاستدلال، بعيدة كل البعد عن باب البدعة، فنحن إنما نريد أن نتقرب إلى الله بمثل هذه المشاريع، لا أن نفتح بها بابًا من أبواب الضلالة، وبذلك يتلقاها أهل العلم والإيمان بالقبول بعد توضيح كل المبررات الشرعية للمشروع كما تقبّل أبو بكر رضي الله عنه فكرة جمع القرآن بعد حوار علمي مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهي مشاريع تقوم على عملٍ إداري منظّم، يوزع الأدوار، ويحدد المهام، ويضع المعايير، ويقوّم الأداء، ويوظف الطاقات، فلا مجال فيه للتساهل التنظيمي، ولا مجال فيه لتغليب جانب العلاقات على جانب الإنجاز، وبنظرة في طريقة الخلفاء الراشدين في مشاريعهم القرآنية يتضح لنا أهمية الجانب الإداري في المشروع. تأمل تشكيل لجنة في عهد عثمان رضي الله عنه وتوزيع الأدوار ووضع معايير (كلغة قريش) للرجوع إليها عند الاختلاف.

وهي مشاريع متخصصة، تستهدف شيئًا محددًا: حفظًا، أو تلاوة، أو إتقانًا، أو تفسيرًا، أو إمامة، أو غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، فليس من النافع تشتيت الجهود وبعثرة الأفكار.

وهي مشاريع تلبي حاجات الأمة الحقيقية، فإن الناس اليوم تنوعت حاجاتهم إلى القرآن الكريم، بحسب أعمارهم، ومجتمعاتهم، وبحسب ما يعتنقونه من أفكار وما يمارسونه من سلوك. لاحظ أنّ مشاريع الخلفاء الراشدين جاءت تلبية لاحتياجات حقيقية، ومتنوعة، فنفع الله بها نفعًا عظيمًا.

وهي مشاريع متينة تليق بكتاب الله تعالى، وليست بالهزيلة. تعتمد الخطط الجيدة، والأهداف الطموحة، والطاقات الشابة، ألا ترى أن أحد مبررات تكليف أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنه شاب! فكلّفه بجمع القرآن برغم وجود الأكابر كعبدالله بن مسعود رضي الله عنه، إن تكليف الشباب بالمشاريع قوّة، ولا ينقص ذلك من قدر الأكابر، ولكلٍ وجهةٌ هو مولّيها. ومتينة في الطرح فلا تعتمد الوسائل الهزيلة والمهترئة، وإنما تعتمد أفضل الأساليب المحققة للهدف من المشروع، ولو كانت الوسيلة في ظاهرها عادية.

اتجاهات المشاريع القرآنية:

لو أعدنا النظر في المشاريع القرآنية في عصر الخلافة الراشدة لوجدنا أنها اتخذت ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: الوصول بالقرآن الكريم إلى مرحلة التثبيت والأمان والحماية من الضياع. وهذا ما حدث في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كان الباعث لجمع القرآن هو قتل القراء وخوف ضياعه. ويمكن تسمية هذا الاتجاه باللغة الإدارية: إنتاج (مادة)؛ حيث أصبح لديهم القرآن مجموعًا كتابة بمعايير معينة، وهذا ما لم يكن موجودًا من قبل، وهو إنتاج محسوس.

الاتجاه الثاني: تكوين قاعدة عريضة من القراء المتقنين والمجودين. وهذا ما حدث في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث انتشر تعليم القرآن في الأمصار والمدائن، وأصبح حملة القرآن في كل مكان. ويمكن تسمية هذا الاتجاه باللغة الإدارية: خط إنتاج جديد (خدمة)، حيث أصبح في مدائن الإسلام الأعداد الغفيرة من الذين يحفظون القرآن الكريم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم. وبهذا حُفَظ القرآن من جانبين: حفظه مكتوبًا ومحفوظًا في الصدور.

الاتجاه الثالث: سدّ ثغرات وحل مشكلات وتهذيب من الشوائب التي لحقت بالاتجاهين الأولين - وهو أمر طبيعي - للوصول بالقرآن الكريم إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه من الاستقرار والإبداع. حيث ألغيت أحرف القرآن ونسخ القرآن إلا حرفًا واحدًا ومصحفًا واحدًا اعتمده الصحابة واتفقوا عليه، وكان الباعث إلى هذا الاتجاه: اختلاف القراء جرّاء التعليم المختلف في الأمصار. ويمكن تسمية هذا الاتجاه باللغة الإدارية: «تحسين المنتج»؛ حيث أصبح القرآن الكريم مجموعًا في مصحف واحد وبحرف واحد بدلًا من كونه مجموعًا في رقاع وصحف، وبعدّة أحرف.

وأيًّا كانت اتجاهات المشاريع القرآنية: إنتاجًا (سواء كان الإنتاج مادةً أو خدمة) أو تحسينًا، فإن على المؤسسات القرآنية اليوم أن تفكّر بهذه الطريقة: ما هي حاجة المجتمع منها؟ وما هي أدوات قياس حاجات المجتمع؟ وما هو الاتجاه المناسب والأفضل لعمل المشاريع؟ هل هي مشاريع إنتاج مواد أم إنتاج خدمات أم تحسين منتجات؟ كما ينبغي أن تنتدب من يوثق بهم من الشباب لإدارة هذه المشاريع ويتقنوا مهاراتها وأدواتها، لتكون بإذن الله خطوات في خدمة القرآن الكريم الخدمة الحقيقية.

وفي واقع الأمر، هناك بعض المؤسسات القرآنية أدركت مسؤوليتها في حفظ القرآن الكريم بالمعنى الشمولي للحفظ، فعملت مشاريع قرآنية احترافية تُعدّ فخرًا لها، ونفع الله بها البلاد والعباد، لكنها قليلة جدًا. والمأمول من سائر المؤسسات المعنية بكتاب الله أن تنحو هذا النحو، وتتجه هذا الاتجاه، فإن مشروعًا واحدًا بمنهجيته السلفية وتقنياته الإدارية خيرٌ من كثير من الجهود والأوقات المهدرة في أهدافٍ ضعيفة أو أعمال لم يُنظر فيها إلى المآل نظرة علمية.

يا روّاد المؤسسات القرآنية!

بين يديكم نماذج لمشاريع نوعية واتجاهاتها، وعرض لحاجات المجتمع منكم، وسمات المشاريع الرائدة؛ تأملوها وأعيدوا النظر فيها، وأروا الله في كتابه من مؤسساتكم خيرًا وأنتم أهلٌ لذلك.

والله الموفق.

:: مجلة البيان العدد  333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.


[1] فتح الباري 8/627.

[2] صحيح البخاري 3/337، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث رقم 4986.

[3] فتح الباري 8/630.

[4] مباحث في علوم القرآن ص127.

[5] انظر: عصر الخلافة الراشدة ص269.

[6] انظر: عصر الخلافة الراشدة ص272.

[7] سنن الدارمي 1/146 المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن رقم 566.

[8] سير أعلام النبلاء 1/486.

[9] عصر الخلافة الراشدة ص272.

[10] البخاري 3/338،كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث رقم 4987.

[11] فتح الباري 8/634.

[12] فتح الباري 8/634.

[13] فتح الباري 8/634.

[14] عصر الخلافة الراشدة 281.

[15] التبيان في آداب حملة القرآن ص 18، والحديث أخرجه البخاري 3/346، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلّم القرآن وعلمه، حديث رقم 5207.

[16] أخرجه الترمذي 5/44، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[17] انظر صحيح البخاري 2/60، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، حديث رقم 2010.

[18] أخرجه أبو داود عن جابر رضي الله عنه 2/182، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 1905.

أعلى