• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نظرات تيميّة في النفس الفرعونية

نظرات تيميّة في النفس الفرعونية

«قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر»[1].

هذا النَفَس الفرعوني اتسع خرقه، وتفاقم شرّه عند بني آدم، كما كشفه ابن تيمية بقوله: «إن فرعون طلب أن يعبد من دون الله.. وفي نفوس سائر الإنس شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبدَ ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون بحسب الإمكان.

وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرّف نفسه والناس وسمع أخبارهم؛ رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته.

فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة بحسب إمكانها؛ فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه.. والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية، وجحود الصانع.

وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان، إن كان مطاعاً مسلماً، طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها معصية لله.. وهذه شعبة من حال فرعون...»[2].

هذه النظرة العميقة لأبي العباس ابن تيمية استوعبت فقه النصوص الشرعية، وسبرت غور النفس البشرية، فنصوص الكتاب والسنة قررت أن الإيمان يتبعض، فهو شعب متعددة ومتفاضلة، وكذا ما يقابله من الكفر والنفاق فإنه يتبعض، وكذا يقال في «الفرعنة» فهي شعب متفاوتة، ودركات متعددة.

ويبهرك درايته بكمائن النفوس وآفاتها، وغوائل الأهواء ودقائقها، فهذا الداء (حبّ الرياسة والعلو) تجده حاضراً في واقع عموم الناس، حتى قال سفيان الثوري: «الرياسة أحبّ إلى القرّاء من الذهب الأحمر»[3].

وقال سفيان أيضاً: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب، فإن نوزع أحدهم الرئاسة ناطح نِطاح الكباش[4].

وبالجملة فالناس في حب الرياسة ما بين مستقل ومستكثر، ومستخْف بذلك ومجاهر، وعاجز وقادر.

وكما هو معتاد عند أبي العباس، أنه إذا كشف عن تلك الأدواء والعاهات، فإنه يتبعها بما يدفعها ويرفعها، فقد بيّن - رحمه الله - أن العبد إذا حقق الإخلاص لله تعالى في عبادته، فإنه يتحرر من رقّ حب الرياسات، فيخرج من قلبه تألّه ما سوى الله، فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، فأما إذا لم يكن مخلصاً لله، فإن قلبه يصير مستعبداً للرياسة أو المال[5].

- ومن نظراته الثاقبة، وإشراقاته الرائعة في توصيف النفسية الفرعونية قوله: «كل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة.. وإن كان عبداً لغير الله يكون مشركاً، وكل مستكبرٍ فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة الله، وكان مشركاً.. قال تعالى: {وَقَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله، كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو مقصود قلبه»[6].

هذا التقرير البديع لأبي العباس يظهر منهجية علمية تأصيلية في غاية الاطراد والاتساق، ويجلي فقهاً متيناً لنصوص الوحيين، ويكشف معرفة بطبائع النفوس، واستقراءً دقيقاً لأحوال البشر في سائر الأمم.

فطالما قرر ابن تيمية أن كل شخص مفتقر إلى غاية يقصدها، ومفتقر إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، فهو حارث همام؛ فالقلب فقير إلى الله تعالى من جهة العبادة (العلة الغائية)، ومن جهة الاستعانة (العلة الفاعلة)، ولا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات غاية يقصدها، كما لا يصلح أن يعتمد على المخلوق، فلا صلاح للعبد إلا بأن يكون الله معبوده ومقصوده، كما لا صلاح له إلا بالاستعانة بالله واعتقاد النفع والضر بيد الله وحده لا شريك له.

فإذا أعرض عن عبادة الله والاستعانة به، فلا بد أن يعبد غيره ويستعين بمن سواه، فهذا أمر حتم لازم، وكلما تفاقم إعراضه عن عبادة الله تفاقم شركه كما هو حال فرعون ونظرائه.

وهكذا ينطلق أبو العباس من قاعدة مستقرة مطردة، وهي أن من أعرض عن عبادة الرحمن أقبل على عبادة الشيطان، ومن استكبر عن عبادة الواحد القهار اشتغل بعبادة الأصنام والأحجار، كما كان فرعون وأشباهه.

- جزم ابن تيمية أن قصة موسى وفرعون أعظم قصص الأنبياء، وأكثرها اعتباراً، فقال رحمه الله: «قصة موسى هي أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن، وهي أكبر من غيرها، وتُبسط أكثر من غيرها»[7].

وقال في موطن آخر: «قصة موسى وفرعون أعظم القصص، وأعظمها اعتباراً لأهل الإيمان وأهل الكفر»[8].

ثم إن المقصود من قصص القرآن هو الاعتبار، فهي قصص عظة وعبر، وليست سمراً[9]، وكما قال رحمه الله: «لم يقصّ علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول»[10].

وتحقيقاً لهذا الاعتبار فقد احتفى ابن تيمية بقصة فرعون، وبسط الكلام على آراء فرعون ودعاويه، وأن لتلك الآراء الفرعونية امتداداً وأثراً وتأثيراً في جملة من مقالات الفرق الإسلامية، ويمكن تلخيص ذلك فيقال: إن أصول البدع والضلال التي تعود على الدين بالنقض والإخلال ترجع إلى أصلين: أحدهما: تعطيل الصانع، والإخلال بالتوحيد؛ فقد كان فرعون أشد الناس تعطيلاً ونقضاً لأصل التوحيد، فقد جحد الصانع وادّعى لنفسه الربوبية والألوهية، ثم إن مقالة نفاة الصفات الإلهية تؤول إلى قول فرعون، وأشنع من ذلك أن مقالة وحدة الوجود هي عين قول فرعون، حتى ادّعى زنادقة الاتحادية إسلام فرعون، ونصروه وعظّموه[11]!

وهذه المسائل جاءت مبسوطة في مواطن متعددة من كتب ابن تيمية، ومن ذلك قوله: «وهم (الجهمية) في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية، فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته[12].

وقال أيضاً: «أن هؤلاء الذين يدّعون التحقيق والوَلاية القائلين بوحدة الوجود، أصل قولهم من الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم، وأن هؤلاء من جنس فرعون»[13].

الثاني: جحد النبوة، وإنكار الرسالة، فقد كان فرعون في غاية الكفر بالرسالة «وموسى في غاية الحق والإيمان من جهة أن الله كلّمه تكليماً لم يجعل الله بينه وبينه واسطة من خلقه»[14].

وبهذا يُعلم أن الخائضين في الكلام الإلهي بالنفي والتعطيل، وبالتأويل المذموم والتحريف، فيهم شعبة من فرعون في جحده للكلام الإلهي.

وأخيراً: فإن ضلال بني آدم لا حدّ له ولا قرار، فطالما انتكست الفطرة، أو انكسف العقل، أو غاب النقل، فلا تسل عن انسلاخ الآدميين، واجتيال الشياطين، فهذا الحاكم العبيدي - مثلاً - ادّعى الألوهية، كحال سلفه فرعون ونحوه - حتى قيل: «إنه رُفع إليه أسماء بضعة عشر ألفاً يعتقدون فيه الإلهية»[15].

فأي ضلال أشنع! وأي بهتان أعظم ممن يدّعي الإسلام ويجاهر بأنه على قول فرعون[16]! أو يصرح قائلاً: إن عبّاد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى[17]!

ومن ذلك الضلال المبين: ما عاينه أبو العباس في مصر، حيث قال: «قاضي القضاة» آنذاك: ما في القرآن ما يدل على أن فرعون كان كافراً.

فأجابه أبو العباس قائلاً: «معلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من دين المسلمين واليهود والنصارى، والقرآن مملوء من الدلالات على ذلك، نحو من أربعين موضعاً يبيّن عذابه في الدنيا والآخرة»[18].

إن فراسة أبي العباس ونظرته وبصيرته تكشف عما يخامر النفوس من الجهل الكثيف والظلم العظيم.. فقال: «والناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث»[19].

بل حكى ابن تيمية أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة، قد تغرّب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر[20].

ومهما يكن فإن عمايات الجهل، وغيوم الغفلة سرعان ما تنقشع وتزول، إذا جدّ الدعاة إلى الله في تبليغ رسالات الله، فعلّموا الجاهل، وذكّروا الغافل.

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ 6 وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 7 تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: ٦-٨].

قال ابن تيمية:

«فالآيات المخلوقة والمتلوة، فيها تبصرة، وفيها تذكرة، تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة، فيبصر من لم يكن عرف حتى يعرف، ويذّكر من عرف ونسي»[21].

والحاصل أن تحريرات أبي العباس كواشف صادقة وصواعق حارقة لفراعنة الطغاة الذين يدّعون الإلهية بلسان المقال أو الحال.

كما أن هذه التقريرات زواجر ومواعظ للهمج الرعاع والمصابين بالولع والغلو في آدميين مثلهم! كما هو ظاهر في غلاة الشيعة والصوفية.

:: مجلة البيان العدد  331 ربيع الأول  1436هـ، يناير  2015م.


[1] الفتاوى (8/217)، (14/324).

[2] الفتاوى (14/323-325) باختصار، وينظر: الفتاوى (8/218).

[3] كتاب الورع للإمام أحمد (ص91).

[4] ينظر: جامع المسائل لابن تيمية (1/53).

[5] ينظر: العبودية لابن تيمية (ص139-142).

[6] العبودية (ص111-114) باختصار.

[7] شرح العقيدة الأصفهانية (ص693).

[8] الفتاوى (12/9)، وينظر: الفرقان بين الحق والبطلان (ص506).

[9] ينظر: الإيمان (ص176).

[10] الفتاوى (8/216)، وينظر: الفتاوى (13/20).

[11] ينظر: الردّ على الشاذلي (ص155).

[12] الفتاوى (12/351).

[13] الصفدية (2/262)، وينظر: بيان تلبيس الجهمية (3/68)، والفرقان بين الحق والبطلان (ص479)، والفتاوى (2/191)، درء تعارض العقل والنقل (7/72، 8/243).

[14] الفتاوى (12/10)، وينظر: (12/351، 14/42).

[15] الردّ على الشاذلي لابن تيمية (ص177).

[16] ينظر: الفرقان بين الحق والبطلان (ص562)، والفتاوى (2/359)، والردّ على الشاذلي (ص159).

[17] ينظر: بيان تلبيس الجهمية (3/67).

[18] بيان تلبيس الجهمية (8/372)، ولأبي العباس «جواب في كفر فرعون والرد على من لم يكفّره»، ينظر: العقود الدرية (ص94).

[19] الفتاوى (27/363).

[20] ينظر: الفتاوى (18/297).

[21] الإيمان (ص223)، وينظر: الرد على المنطقيين (ص341). 

أعلى