تقرير مصير السودان .. لا مصير الجنوب
يُظهِر تفحُّص العنوان الذي اختاره الساسة والإعلاميون
لمتابعة تطورات وأحداث السودان، أن زاوية النظر في كل المتابعات قد تحددت سلفاً،
وأن العنوان قد جرى تحديده بعناية لتعميق حالة الخداع لدى المتلقين وحرف الأنظار
عن المخاطر التي تحيط بهذا البلد.
إن العنوان الذي جرى اختياره والإلحاح عليه في كل تصريحات
الساسة والتغطيات الإعلامية هو (تقرير مصير الجنوب)، أو (أن الاستفتاء المزمع انعقاده في 9 يناير 2011م، سيقرر مصير
الجنوب بين الوحدة والانفصال)... إلخ، بينما الاستفتاء سيجري لتقرير مصير السودان
كله بأيدي بعض المواطنين السودانيين في الجنوب، دون غيرهم من مواطني الجنوب ومن باقي
مواطني السودان؛ إذ السودان سينقسم دولة وجغرافيا ومجتمعاً، ولأن هذا الفصل للجنوب
سيكون بمثابة المفجر البادىء لحالة انفجار شاملة للمجتمع والدولة السودانية،
وسيكون بداية لأعمال تفجير مشابهة في إفريقيا وفي الدول الإسلامية الأخرى.
إن العنوان الذي جرى اختياره للحدث وكافة مترتباته، هو: تقرير
مصير الجنوب، وكأن الجنوب محتل ومستعمَر من بلد آخر، تنطبق عليه قواعد حق تقرير
المصير التي استقرت خلال المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية بشأن الدول
المستعمَرة، بينما الجنوب ليس إلا جزءاً من «دولة» مرَّ على استقلالها موحَّدة
ومنضـوية تحت راية الأمم المتحـدة ما يزيد على نصف قرن.
وهو عنوان يُظهِر تقرير المصير هذا وكأنه يجري في فراغ، وليس فعلاً
انفصالياً وتقسيماً لدولة ومجتمع متكامل، لن تتأثر جراءه أوضاع الجنوب فحَسب؛ بل
ستتغير من خلاله أحوال السودان في الأعم الأغلب؛ ذلك أن انفصال الجنوب ليس فعلاً
ينتج عنه تأسيس دولة جديدة، بل هو طلقة البداية، لإطلاق عملية تفكيك للسودان كله،
وقد ظهرت أُولَى المؤشرات بالفعل من خلال المطالبة بجعله حقاً ينطبق على بقية
أقاليم السودان؛ إذ أعلنت حركة العدل والمساواة الانفصالية في دارفور، عن بدء
سعيها لنيل حق تقرير المصير لكلٍّ من إقليمي (دارفور وكردفان)، وهو ما يعني نهاية
السودان الحالي فعلياً.
وفي اتجاه آخر، لا تبدو كلمات الرئيس التشادي (إدريس دبي) بأن
انفصال جنوب السودان سيكون بمثابة كارثة لكل إفريقيا، مجرد كلمات مجاملة للرافضين للانفصال،
بل هي وصفٌ لمخاطر هذا التقسيم للسودان على قارة تعيش حالة واسعة من التفكك في
مجتمعاتها وتعاني دولها من ضعف المشروعية وضعف القدرات على الحفاظ على تماسك
المجتمعات واستقرارها.
وعلى الجانب العربي والإسلامي يبدو واضحاً أن فعل تقسيم
السودان سيكون السابقة التي ينتظرها كثير من الانفصاليين في الدول العربية
والإسلامية؛ إذ قطع مخطط تقسيم وتفكيك كثير من الدول والمجتمعات شوطاً كبيراً
بالفعل.
وسؤال اللحظة الآن هو: هل الحكم والمجتمع السوداني، سيُقبِل
على إتمام المخطط المرسوم للسودان بالتقسيم والتبدد (والحال نفسه بالنسبة للدول
الإسلامية الأخرى)؟ أم أن اتضاح المخاطر على نحو لا يقبل الجدل، صار دافعاً للأخذ
بخطط أخرى لمواجهة هذا الخطر؟ وكيف سيتحرك السودان في مواجهة تركيز الضغوط المكثفة
عليه في الفترة الراهنة لإنجاز هدف تفتيته؟ وما هي الخيارات المتاحة للخروج من المأزق؟
أولاً: إن المرحلة التي يمر بها السودان مرحلة خيار مصيري. والخيار المصيري هو ذاك الوضع الذي تواجه فيه دولة أو مجتمع
تحدياً أو تحديات يترتب على طريقة التعامل معها حدوث تغييرات في هوية المجتمع
والدولة والحدود الجغرافية ومناطق السيادة الأساسية... إلخ. وفي مثل تلك الحال تتعلق
النتائج بطبيعة الاستجابة لهذا التحدي؛ فهناك دول ومجتمعات قررت الرفض والمواجهة
وانتصرت على التحدي، وهناك دول ومجتمعات أخرى قابلته بالضعف والتردد، فتحولت من
حال موحدة إلى حالٍ أخرى.
فمثلاً لقد واجهت الولايات المتحدة تحدي انقسامها بين شمالٍ
وجنوبٍ في بداية تشكُّلها، ونجحت عبر الحرب الأهلية في توحيد ولاياتها والقضاء على
المحاولة الانفصالية. والشعب الفلسطيني كذلك واجه تحدي تغيير الهوية والاستيلاء على
أرضه وطرد السكان واختار المقاومة، وهو لا يزال على مدار قرن من الزمان يرفض الاستسلام
للتحدي المفروض عليه؛ وذلك على الرغم من نجاح القوى الغربية في إجلاء بعضٍ من
السكان وتغيير هوية مساحة كبيرة من فلسطين وإعلان دولة الصهاينة. وهكذا الحال في
أفغانستان والعراق؛ إذ يواصل الشعبان (الأفغاني والعراقي) تحديَ الاحتلال الذي
فُرِض على بلديهما عبر الغزو الأمريكي المباشر.
وفي مقابل ذلك فإن ثمة مجتمعات أخرى واجهت تحديات مشابهة بالاستكانة
والخنوع وعدم مواجهة الخطر فانتهت وتغيرت أوضاعها، كما هو حال حضارة الهنود الحمر،
وكذلك عملية تقسيم إندونيسيا بظهور دولة (تيمور الشرقية) النصرانية داخل جغرافيتها
ومجتمعها، وإثيوبيا التي تحقَّق تقسيمُها بظهور دولة إريتريا... إلخ.
والآن يدخل السودان حالة من حالات الخيارات المصيرية؛ فإذا
قَبِل التحدي المفروض عليه انتهى إلى وضع آخر، وإذا واجه التحدي يكون قد حسم
خياره، وعاد إلى حالة المواجهة. ففي مواجهة التحدي المصيري يكون عامل الإرادة هو
العامل المحدِّد لتطورات الأحداث؛ فماذا لو رفض السودان هذا التحدي؟
ثانياً: في الوضع الراهن يبدو المجتمع والدولة السودانية في وضع حرج؛
إذ يبدو أن السودان مقيَّد بضرورة إنفاذ اتفاق نيفاشا الذي تعهد نظام الحكم
بمقتضاه بإعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير، وهو يدرك أن عدم إنفاذ الاتفاق سيجلب
عليه ضغوطاً أشد مما يعانيه، وقد يصل الأمر حدّاً أكثر من اشتعال الحرب الأهلية؛
إذ ثمة سيناريوهات تتحدث عن احتمال إعلان الجنوب انفصالَه من طرف واحد بالاستفتاء
أو غيره، وطَلَبِ دعم عسكري من عدة دول وهو ما قد ينجم عنه تعرُّض السودان إلى
هجوم عسكري أمريكي بريطاني صهيوني، بشكل غير مباشر على رأي بعض المحللين ومباشر عند
بعضهم الآخر.
وفي الجانب الآخر، فإن مخاطر انفصال الجنوب وإنفاذ الاتفاقية
باتت تظهر على نحو مجسَّد، وهو ما ذهب بكل الحجج والمبررات التي جرى تداولها
كثيراً خلال مرحلة إقرار اتفاق نيفاشا كأساس لقبول تقسيم السودان. وكان ثمة تصـور
أن توقيع الاتفاق سيوقف الضغوط الغربية على السودان، لكن ما حصل أنها تكثفت؛ إذ لم
تكتفِ الولايات المتحدة باستمرار حصارها السياسي والاقتصادي للسودان، ولا باستمرار
إدراجه على قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل دفعت المحكمةَ الجنائية الدولية عبر
مجلس الأمن الدولي، لتشويه سمعة الرئيس السوداني عمر البشير ومطاردته باتهامات
الإبادة والتطهير العرقي. وكان متصوراً أنَّ توقيع هذا الاتفاق سيمنح السودان (مجتمعاً ودولة) مدة خمس سنوات من الهدوء والاستقرار، لكن
تحركت الشياطين الأمريكية والصهيونية والغربية وحركة الجنوب الانفصالية لتفتح
معركة في إقليم دارفور بهدف إنهاك المجتمع والدولة وإدارتهما بأزمة أشد خطراً حتى يأتي
موعد انفصال الجنوب، فتكون في حالة من الضعف والاستسلام. وكان متصوراً أن طمأنة
الجنوبيين إلى مستقبلهم وإدماجهم في الحكم وإعطائهم نصيباً من الثروة النفطية أكبر
من وزن الجنوب السكاني، قد يوقف دورهم التخريبي في الحياة السياسية، فحدث العكس
وصاروا ناصرين في كل مواقفهم وتحركاتهم للغرب وضغوطه ومؤامراته على السودان من
جهة، وداعمين لكل الحركات الانفصالية والتفتيتية في عموم السودان. وكان ثمة تقدير
بأن مدة السنوات الخمس كافية لتغيير التوجهات الانفصالية بين النخب الجنوبية فظهر
العكس؛ إذ صار الشغل الشاغل لتلك النخب هو تعميق حالة الانفصال على الصعيدين
(الرسمي والشعبي) وكسب أنصار جدد لها في الإقليم وعلى الصعيد الدولي. وكان ثمة
رؤية أن الأمور إذا وصلت حدَّ الاستفتاء والانفصال، فإن الشمال سيكسب الراحه والبناء
المستقر، في ما بقي من جغرافيةِ السودان ومجتمعِه، فتأكد الآن أن الانفصال سيأتي
بدولة معادية على الحدود، تماثل الكيان الصهيوني في دوره وأهدافه؛ سواء في المذابح
التي ستجري للمسلمين في الجنوب أو في الدور التفكيكي للسودان الباقي.
باختصار: لقد ظهر أن الانفصال سيكون كارثة، وأن الحرب التي
توقفت لخمس سنوات في الجنوب اشتعلت في دارفور، وأن القادم المخطَّط له: أن تصبح
دولة الجنوب نقطة انطلاق لإشعال الحرائق في كل أنحاء السودان.
ثالثاً: هل يجابه السودان هذا التحدي، ويقف الآن موقف الرافض
والمقاوم؟ أم يستسلم لقَدَره فيتفكك انطلاقاً من الجنوب؟
في التقدير العام، يمكن القول بأن الرؤية العقلانية توجب الآن
إعادة تقدير الموقف، والخروج سريعاً جداً من حالة التردد الراهنة. وفي ذلك يبدو
الحساب والتقدير الإستراتيجي للبيئة الدولية والإقليمية والداخلية، قد تغير لمصلحة
السودان الآن على خلاف الأوضاع التي أدت إلى توقيع الاتفاق.
ففي أثناء توقيع الاتفاق عام 2005م لم يكن العنصر الحاسم في
الضغط على الحكم في السودان للتوقيع على اتفاق جائر هو عامل القوة العسكرية
للمتمردين، بل على العكس من ذلك؛ إذ كان الجيش السوداني قد شارف على إنجاز مهمة
تطهير أرض الجنوب من حالة التمرد. وكان الضغط الدولي والإقليمي وحاجة الحكم
للاستقرار والتنمية هي العوامل الحاسمة، حتى يمكننا القول بأن العنصر الإستراتيجي الحاسم
لم يكن للتمرد نفسه وقوَّته دور فيه.
وكانت الولايات المتحدة في حالة الخيلاء بقوَّتها العسكرية،
فغزت أفغانستان والعراق واحتلتهما، وصارت تهدد سوريا وليبيا والسودان بطبيعة
الحال؛ حتى إن أطرافاً إقليمية نقلت للسودان وقائع محددة عن حشدٍ لقواتٍ على حدوده
واستعدادها للعدوان عليه. وفي ذلك لم يكن الموقف الأوروبي ملحَقاً بالموقف الأمريكي
فقط، بل أظهر استعداداً لفعل عدوان «منفرد» ضد السودان.
في تلك المرحلة لم يكن للأطراف الدولية الأخرى عوامل قوة وتأثير
في مواجهة القرارات الأمريكية.
وفي الوضع الإقليمي لم يكن التأثير الأمريكي قوياً فقط في
ضغطه على قرارات دول الإقليم، بل كان الوضع الإقليمي نفسه في حالة تعبئة ضد الحكم
في السودان؛ إذ كانت العلاقات السودانية مع مختلف الدول في وضع كان الأسوأ فعلياً.
أما الأوضاع الداخلية السودانية، فكانت في وضع الخطر، بسبب
انتقالية الحكم في السودان بعد انشقاق الحركة الإسلامية الحاكمة وخروج الترابي من
الحكم وتشكيله حزب المؤتمر الشعبي المعارض لحزب المؤتمر الوطني الذي مثَّل الحكم في
الحركة السياسية. وكذا لأن أطراف المعادلة السياسية في مركز الحكم (أو الأحزاب
الشمالية حسب وصف كثير من المحللين) كانت في بداية العودة لمباشرة حقوقها السياسية
بعد مرحلة كانت قد تحالفت فيها مع حركة التمرد الانفصالية في الجنوب. وعلى الصعيد
الاقتصادي والتنموي كان السودان في بداية الخروج من حالة الارتباك الاقتصادي التي
كان يعيشها بفعل الحصار الدولي عليه، إلى حالة التنمية، استناداً إلى عائدات
البترول.
في ظل تلك المعطيات، قَبِل الحكم في السودان التوقيع على
اتفاقية نيفاشا، وَفْقَ آمالٍ تبددت جميعها بفعل استمرار الضغط الأمريكي والغربي،
وعمق الفكرة الانفصالية داخل النخب الجنوبية، وحالة الاضطراب في داخل مركز الدولة.
رابعاً: مرت مرحلة إنفاذ اتفاقية نيفاشا بحالة صراع عميقة، كان الوصف
الأدق لها: أن الغرب صار يصارع الحكم داخل السودان باستخدام الشريك الجنوبي في
الحكم، مع تكثيف عوامل الضغط من الخارج. وتمثلت عوامل الضغط والإرباك من الخارج
باستخدام وسائل القوة الناعمة من خلال الإبقاء على العقوبات وفتح ملف دارفور في
مجلس الأمن الدولي وفتح معركة ضد الرئيس البشير، أو ضد موقع الرئاسة المهيمن في النظام
السياسي السوداني؛ إذ الرئيس هو رئيس الحزب الحاكم ورئيس الوزراء والقائد الأعلى
للقوات المسلحه، وهو رمز الوطن السوداني، فإذا جُرِّم أو أطيح به، تحققت خطوة في
تفكيك هذا البلد.
وفي الضغط من الداخل جرى تعظيم قوة حركات التمرد في دارفور
وتضخيمها، والتدخل في لعبة الأطراف الداخلية لحشدها في مواجهة الحكم. وتحويل معركة
المحكمة الجنائية الدولية إلى معركة داخلية في السودان. وكان الأمر الأشد بروزاً
هو التحول بالعلاقات السياسية مع السلطات الجنوبية إلى طابع العلاقات بين الدول،
والتشديد على الاستعداد للاعتراف الدولي بدولة الجنوب فور انفصالها. وكان المشهد
الختامي في تلك المرحلة من الصراع هو مشهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ حيث
مارست خلاله الولايات المتحدة والغرب أكثف الضغوط على الحكم في السودان، وإن كان الحرص
بادياً على اتمام الانتخابات لأهداف عديدة أهمها: إنجاز الخطوة الأخيرة لما قبل
استفتاء الانفصال، وتثبيت تمثيل الحركة الانفصالية لأبناء الجنوب.
خامساً: لقد تغير الوضع الآن لمصلحة السودان، إذا قارناه بما كان
عليه وقت توقيع اتفاقية نيفاشا؛ فالولايات المتحدة والغرب لم تعد لهم درجة الهيمنة
ذاتها علــى القــرار الــدولي - على الأقل - بسبب الأزمة المالية والاقتصادية
التي ضربت الاقتصاد الغربي، كما أن الولايات المتحدة قد تعمقت حالة تدهورِ أوضاعها
السياسية والعسكرية بسبب تورطها في حربَي أفغانستان والعراق، وفي عشرات الأزمات
المتفاعلة في المنطقة والعالم، ومعظمها صراعات تهدد باندلاع حروب. كما أن دولاً
أخرى ظهرت بتأثيرها على ساحة القرار الدولي، وهو ما يضعف القدرة الأمريكية
والغربية والصهيونية عن حالة التصرف الانفرادي السابقة.
أما في الوضع الإقليمي، فقد تغيرت أوضاع الحكم في السودان ولم
يعد على حالة الحصار السابقة؛ فإريتريا تغيرت مواقفها من السودان وانقلبت من عداءٍ
للحكم في السودان إلى موقف الداعم، وإثيوبيا في حالة اشتباك في الصومال وفي الداخل
ومع إريتريا، وكذا أوغندا باتت تشعر بتهديد بعد التفجيرات في داخلها، وتشاد صارت
حليفاً للسودان بفعل تبادل طرد الحركات المتمردة من كِلا البلدين وكان كلاهما مصدر
تعزيز لحركات التمرد ضد الآخر. والعلاقات المصرية مختلفة عن أوضاع ما بعد محاولة اغتيال
الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا. (
وأما على الصعيد الداخلي في السودان فقد تغيرت الأوضاع
الاقتصادية خلال السنوات الخمس وتحسنت أوضاع تسليح الجيش السوداني بعد دخول
السودان مجال إنتاج الأسلحه. والأوضاع في دارفور تغيرت على الأرض فعلياً لمصلحة
الحكم في السودان، بسبب قطع الدعم التشادي عن المتمردين وطردهم من الأراضي
التشادية، ولإجراء انتخابات تشريعية عينت ممثلين لأهالي دارفور في مؤسسات الحكومة،
وهو ما نزع الشرعية عن حركات التمرد، وبسبب توقيع بعض الاتفاقيات مع بعض الحركات
أيضاً، وهو ما أدى إلى عزل الأخريات وأضعف نفوذها ودورها. والأهم من ذلك أن الوضع
الشعبي صار رافضاً بشكل كبير لقضية التقسيم، وتفكيك السودان، ويشعر بالخطر الجدي
على مستقبل السودان.
لقد تغير كثير من المعطيات التي فرضت التوقيع على اتفاقية
نيفاشا، وإن كان طرف الحركة الشعبية الانفصالية قد حصل بالمقابل على دعم تسليحي
بفعل موارد النفط، كما حققت الانتخابات لها شرعية في الحكم وتمثيلَ مواطني الجنوب،
إلا أن الأوضاع في الجنوب شهدت تنامياً في حالات الصراع القبلي والسياسي ضد هذه
الحركة، وصلت حدَّ الأعمال العسكرية على نحو مؤثر.
سادساً: إذا أقر الحكم والقوى الرئيسة التي تمثل عصب المجتمع وتشكِّل
العقل الجمعي للقرار الإستراتيجي في مواجهة التحدي كما تشي بعض مؤشرات الحركة في
الآونة الأخيرة، فإن الأمر يتطلب عملاً عاجلاً، لتحقيق أوسع حالة إجماع داخلي
ممكنة ضد انفصال الجنوب، باعتباره خطراً داهماً على السودان كله، على أن يشمل
التحرك قوى جنوبية وشمالية، تحت شعارات إنقاذ السودان ومنع الجنوب من الانزلاق إلى
فتنة تدمِّره وترتكب فيها المذابح.
ولذلك يبدو أنه من المهم، أن يجري إطلاق حركات شعبية خارج
الأطر التقليدية، تتحرك لبلورة مواقف شعبية واضحة رافضة للانفصال، مع بقاء الحكم
(إعلامياً وسياسياً) في موقع الضابط لإيقاع وحدة البلاد إعمالاً لمهامه الدستورية.
كما يتطلب الأمر تحركاً مكثفاً لتعبئة المواقف الإقليمية وحشدها ضد الحركة
الانفصالية، وإخراج المواقف الرسمية من حالة «الكلام المكتوم» إلى حالة الرفض
السياسي والإعلامي المباشر. ولتحقيق حالة من توفير الجهد والقوة وتوجيه القدر
الأعظم منها للضغط على الطرف الأخطر في المرحلة الحـالية، ينبغي حسـم معركة دارفور
بأسـرع ما يمكن عبر صياغات تضع خطر انفصال الجنوب أولوية. وكذا ينبغي وضع خطة
إعلامية مكثفة، لإنهاء الفجوة المعرفية لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي
حول قضايا دارفور والجنوب، والتحول نحو هجوم إعلامي مضاد لتحركات الإعلام الغربي
على الأقل في الساحة العربية.
والقصد أن ثمة ضرورة لخطة تحرُّك عاجلٍ، ينتقل بالسودان من
الموقف الدفاعي الذي ساد لمرحلة طويلة مضت إلى الموقف الهجومي؛ فلم يعد هناك وقت.