ابن تيمية مدرسة دعوية
«أنا إن قُتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني
كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوتُ أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان
لي معبداً، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف»[1].
كان أبو العباس ابن تيمية نسيج وحده في مقام
الدعوة إلى الله؛ فهو إمام رباني يؤتم به في شأن الدعوة تنظيراً وتأصيلاً، وعملاً
وتنفيذاً.
ومن ذلك أنه «لما دخل الحبس وجد المحابيس
مشتغلين بأنواع من اللعب كالشطرنج والنرد ونحو ذلك من تضييع الصلوات، فأنكر الشيخُ
ذلك أشد الإنكار، وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة،
والتسبيح والاستغفار والدعاء، ورغّبهم في أعمال الخير، وحضّهم على ذلك، حتى صار
الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيراً من كثير من المدارس، وصار خلق كثير
من المحابيس إذا أُطلقوا يختارون الإقامة عنده...»[2].
ومن جهوده الدعوية أنه ناظر ودعا أقواماً من
غلاة الصوفية أهل وحدة الوجود، حتى استقاموا وصاروا دعاة للسنة، كما حكى ذلك بقوله
- رحمه الله -: «فلما يسّر الله أنّي بيّنت لهم حقائقهم، وكتبت في ذلك من المصنفات
ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم، وتبيّن لهم بطلانه بالعقل الصريح، والنقل
الصحيح، رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم،
ويردونهم إلى الحق»[3].
ولما لقي ابنُ تيمية عبدَالسيد قاضي اليهود،
بيّن له بطلان دينهم، وما هم عليه وما بدّلوه من كتابهم.. فعندئذ أسلم عبدالسيد،
وحسن إسلامه، وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم[4].
إن هذا النَّفَس الدعوي لدى ابن تيمية مبني على أصلين كبيرين:
•
العلم بالحق، والفقه في دين الله، والدراية بأحكام الشريعة، وبرد اليقين ورسوخ
الإيمان.
•
الرحمة بالخلق، والإشفاق عليهم، والحرص على هدايتهم، وقضاء حوائجهم، والشفاعة لهم،
وفكاك أسيرهم، وتعليم جاهلهم، وتذكير غافلهم، وجهادهم لأجل هدايتهم.
وقد نال ابن تيمية أرفع الأحوال وأعلى
المقامات في الجمع بين العلم بالحق والرحمة بالخلق؛ فالجمع بينهما نادر جداً، لكن
أصحاب القلوب الكبيرة يضمّون ذلك كله، وأهل العقول الكاملة يستوعبون ويجمعون علماً
ورحمة؛ إذ يغلب على طوائف من العبّاد إيثار العزلة، والانقباض عن خلطة الناس، كما
أن الكثير من المشتغلين بنفع الناس وقضاء مصالحهم، قد يلحقهم قصور عبادة أو رقة
ديانة.
وقد أشار ابن رجب إلى تعسّر الجمع بين حق
الرب وحق العبد فقال عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «وخالق الناس بخلق حسن»[5]:
«هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا
به، وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي
القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنصّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فكثيراً
ما يغلب على من يعتني بحقوق الله إهمالُ حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها،
والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكُمّل من
الأنبياء والصدّيقين»[6].
•
طالما أكد ابن تيمية على أن سياسة الخلق ورعايتهم لا تحصل إلا بالشجاعة والكرم؛
فجميع بني آدم يتمادحون بالشجاعة والكرم[7]،
والدعاة إلى الله لا يمكن أن يسوسوا المدعوين إلا بالشجاعة والإقدام، والكرم
والسخاء؛ فإن ترويض النفوس على قبول الاستقامة لا يتحقق إلا بشجاعة وجود، وابن
تيمية ذو شجاعة «خالدية» بهرت علماء زمانه وحكام عصره، فإن شجاعته وقوة قلبه فأمر
يتجاوز النعت ويفوق الوصف[8]،
كما كان ذا كرم ونفع منقطع النظير حتى قال عنه الذهبي: «له محبّون من العلماء
والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبّه، لأنه
منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه»[9].
لقد كان لشجاعة أبي العباس وكرمه أعظم النفع
وأكبر الأثر في ظهور دعوته واندراس البدع والضلالات.
ومع هذه الشجاعة والإقدام فإن أبا العباس
يحضّ على الرفق واللين في تبليغ رسالات الله، فهي شجاعة لا تنفك عن رفق ولين، فلا
تهوّر ولا عنف، ولا جبن ولا هلع، وكما عبّر - رحمه الله -: «رفق ولين يُوصِل به
إلى المخاطبين حقيقة البيان، والرفق في الجهاد باليد واللسان»[10].
وقال - في موطن آخر -: «والقيام بالواجبات
من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يُقام بها...»، وذكر منها: «الرفق ليسلك
أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود»[11].
•
عرّف أبو العباس الدعوة إلى الله بتعريف واضح جامع؛ فقال: «الدعوة إلى الله هي
الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما
أمروا»، إلى أن قال: «فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادة
الله وحده ولا شريك له»[12].
فهذا تعريف واضح بيِّن[13]،
ويجمع بين أصلي الدعوة، وهما: الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له (الإخلاص)،
والدعوة على بصيرة، وفق شرع الله وسبيل المرسلين (الاتباع)، كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
•
فأما الإخلاص فقد قرر ابن تيمية أن جميع الرسل عليهم السلام يقولون: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] ،
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86]، وقال:
{قُلْ
مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]؛
فهو يُعلّم ويهدي، ويدل
القلوب على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض، وأن هذا سبيل من اتبعه، كما قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
وأما المخالفون للرسل فحالهم كما قال
سبحانه: {إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]»[14].
وقال - رحمه الله -: تعليم القرآن والعلم
بغير أجرة، هو أفضل الأعمال، وأحبّها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين
الإسلام... إلى أن قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا
ديناراً ولا درهماً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر، والأنبياء
صلوات الله عليهم إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة...»[15].
وأما عن شرط الاتباع لرسول الله صلى الله
عليه وسلم في الدعوة، فقرره المؤلف بقوله: «ودعوته إلى الله هي بإذنه، لم يشرع
ديناً لم يأذن به الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 45 وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإذْنِهِ
وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب:54 - 46]؛ خلاف
الذين ذمّهم في قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: ١٢]»[16].
وبهذا يُعلم أنه لا يجوز دعوة الناس إلى
الله تعالى بوسيلة بدعية، فإن الله تعالى أتمّ الدين وأكمله، وما لم يكن يومئذ
ديناً فليس اليوم بدين.
وهذا ما بيّنه ابن تيمية لما سئل عن شيخ
صوفي يتوّب العصاة بطرق بدعية، فقرر ابن تيمية أن هذا «الشيخ جاهل بالطرق الشرعية
التي بها تتوّب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة
والتابعين كانوا يدعون من هو شرٌ من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق
الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.
فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية
التي بعث الله بها نبيّه ما يتوّب به العصاة، وأمصار المسلمين وقراهم قديماً
وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبّه الله ويرضاه بالطرق
الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية»[17].
- بيّن المؤلف أنه إذا تعسّر سلوك الطريق
الشرعية إلا بنوع من الإحداث والابتداع، لأجل غياب القائم بالطريق الشرعية المحضة،
فإنه يسوغ ذلك، وعلله قائلاً:
«فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه
ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور
بالكلية»[18].
كما أشار المؤلف إلى تأليف القلوب[19]،
وحاجة النفوس إلى حظوظ دنيوية حتى تقبل الحق[20]،
وأن أهل الحق يتدرجون في دعوة الناس إلى الله شيئاً بعد شيء»[21].
وأخيراً فإن تراث ابن تيمية وسيرته مدرسة
دعوية متكاملة، قائمة على تأصيل علمي ورسوخ شرعي، دراية بالنفوس وآفاتها وأحوالها،
ورحمة بالخلق وإشفاق، فرحم الله أبا العباس.
:: مجلة البيان العدد 330 صفر 1436هـ، نوفمبر 2014م.
[1] الجامع لسيرة ابن تيمية (ص94).
[2] العقود الدرية لابن عبدالهادي (ص
331).
[3] منهاج السنة النبوية (8/26).
[4] ينظر: البداية لابن كثير (14/19، 75)،
وينظر: الفتاوى (2/359، 13/187)، الرد على الشاذلي (ص 155).
[5] جزء من حديث أخرجه أحمد (5/153)،
والترمذي (ح 1987)، والدارمي (2/32).
[6] جامع العلوم والحكم (1/454).
[7] ينظر: الفتاوى (28/291)، وجامع
المسائل (2/308، 8/97)، والإيمان (ص 4).
[8] ينظر: العقود الدرية (ص 329)، (ص
397).
[9] العقود الدرية (ص 169).
[10] جامع المسائل (4/390).
[11] الفتاوى (15/167)، وينظر: الاستقامة
(2/233).
[12] الفتاوى (15/157، 158)، باختصار.
[13] وازن بين هذا التعريف الجلي الشامل
وبين تعريفات بعض المعاصرين، والذين عرّفوا «الدعوة» بما هو أخفى، وحدّوا الأظهر
بالأخفى؛ يبدو أن هاجس الحد على طريقة المناطقة والهروب من «الدور» أوقعهم في هذا
الغموض في التعريف!
[14] ينظر: الفتاوى (16/314-316).
[15] الفتاوى (30/204، 205)،
وينظر: مختصر الفتاوى المصرية (ص 386).
[16] الفتاوى (15/161).
[17] الفتاوى (11/624، 625)،
باختصار.
[18] الفتاوى (10/364)،
وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/616).
[19] الاستقامة (2/262).
[20] ينظر: الفتاوى (28/366).
[21] ينظر: بيان
تلبيس الجهمية (3/510).