الأحزاب الليبرالية في تونس.. شعارات جوفاء على ورق فاخر
عرفت
تونس منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع بداية التدخل الأوروبي المباشر في شؤون
البلاد، حضوراً لليبرالية الفكرية بأشكال مختلفة دون أن تكون ذات تصور نسقي واضح
أو حضور أيديولوجي تتبنّاه الحركات السياسية والأحزاب بصورة معلنة وصريحة، بحيث
يمكن القول إنه ومنذ بداية الاحتكاك مع النفوذ الأوروبي الممتد بشكله الاستعماري
(أواسط القرن 19 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية)؛ كانت الحرية هي المطلب
الأساسي والحيوي للمجتمع التونسي والعربي عموماً، وهو أمر نلحظه في كتابات رواد
الإصلاح الذين روّجوا لمقولات الحرية السياسية وحق الشعب في اختيار حكامه وصياغة
دساتير تضمن منظومة الحقوق. لقد كان شعار الحرية الليبرالية مرفوعاً لأن الحاجة
تدعو إليه وبصورة ملحة في ظل خضوع المجتمع التونسي (كجزء من المنطقة العربية
الإسلامية) لهيمنة مزدوجة تجمع بين استبداد الحكام وعسف الاحتلال الوافد من الضفة
الغربية للمتوسط، غير أن ما يميز هذه الليبرالية بصورتها الناشئة استنادها إلى
المرجعية الإسلامية بصورة لا يمكن إنكارها، وهي مواقف نراها لدى مصلحين أمثال خير
الدين التونسي.
كما أن الأحزاب السياسية التي ظهرت في ظل
الاحتلال الفرنسي، لم تكن تخفي توجّهها التحرري الذي تجلى في مطالبها المركزية
(المطالبة بدستور ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم إلى الحد الذي تم اتخاذه اسماً لأحد
أعرق الأحزاب التونسية، ونعني به الحزب الحر الدستوري الذي أسسه الشيخ عبد العزيز
الثعالبي سنة 1920، والمناداة ببرلمان وطني منتخب يتولى التشريع وتحديد الحقوق
والواجبات).
الأحزاب الليبرالية في العهد البورقيبي:
لقد كانت المنظومة الليبرالية في النصف
الأول من القرن العشرين، الأكثر انتشاراً في السوق الفكرية العربية، ومنها تونس،
غير أنها لم تكن وحدها ولم تلبث أن واجهت منظومات أخرى منافسة (شيوعية وأخرى قومية
ذات نزعة اشتراكية...)، ورغم النبرة الليبرالية الواضحة بعباءتها الإسلامية عند
التأسيس، إلا أن الحزب الحر الدستوري بجناحه البورقيبي لم يكن أبداً وفيّاً لأصوله
الحقة، حيث لم تكن الحرية التي يرفعها سوى شعار ليس إلا، فما أن تولى السلطة بعد
الاستقلال حتى قام بتأميم الحياة السياسية والإعلامية برمتها لصالح نظام الحزب
الواحد، حيث تم قمع الجناح اليوسفي بشدة، وتم حظر الحزب الشيوعي التونسي، وأوقف
صدور كل الصحافة الحرة التي كانت لا تتساوق سياسياً مع نظام الحزب الواحد، وتحول
النظام البورقيبي بعدها إلى تبنّي ما سماه «الاشتراكية الدستورية».
وفي المقابل لم يكن لشعارات الليبرالية
بأطروحاتها المختلفة الجاذبية الكافية لتستميل العناصر الشبابية في نهاية
الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث ظلت الاشتراكية بأطروحاتها المختلفة الأكثر
فاعلية وتأثيراً، والأشد حضوراً في الأوساط السياسية المختلفة، وظل ظهور حزب
ليبرالي حقيقي مرتهناً بيد الحزب الحاكم الذي مارس الاستبداد والطغيان بصورة
جعلت مصطلح “الليبرالية” مفهوماً مشوّهاً تحتقره الجماهير الصارخة بآلامها،
وتتعالى عنه النخب السياسية التي جعلت من الفكر الليبرالي رديفاً للإمبريالية
والاستعمار والاستغلال بصورة تكشف عن سطحية فجة ومغرقة في الأدلجة والانغلاق
الفكري.
بل في ظل أسوأ ظروف القمع والغلبة التي
يمارسها النظام البورقيبي، لم يكن لشعار الحرية بمعناه الليبرالي حضور في المشهد
السياسي رغم أن الأساس النظري لليبرالية كان يركز على فكرة إحداث التوازن المأمون
بين النزعة الاستبدادية الناتجة عن الحكم المطلق والنزعة الفوضوية الناجمة عن
تسيّب السلطة وشيوع الفوضى في الجسم الاجتماعي، ومن ثم تتمسك الليبرالية بالدولة
باعتبارها الجهاز المؤهَّل لتوحيد المجتمع وعقلنة الأداء السياسي، فالدولة هي عقل
المجتمع (بالمصطلح الهيجلي)، وهي تجسيد إرادته، شريطة ألا تنزلق إلى الاستبداد أو
قذف المجتمع في غياهب الفوضى. لقد كانت المطالبة بالليبرالية السياسية حينها ضرورة
لم يعيها ناشطو الحقل السياسي أمام تغول الحزب/ الدولة، وأصرت الأطراف الحزبية
المختلفة هي بدورها أثناء الزمن البورقيبي على أطروحاتها الشمولية، أي أن يحل
المعارض محل الحاكم في السلطة لكن مع الاحتفاظ بذات جوهر الممارسة.
الأحزاب الليبرالية زمن بن علي:
بعد انقلاب السابع من نوفمبر وتحقيق انفراج
سياسي مؤقت استغله الحاكم الجديد لتوطيد أركان حكمه، ورغم التوجه الاقتصادي الذي
دشنه “العهد الجديد“ القائم على رأسمالية متوحشة تحركها مافيات الاستيراد والتهريب
وتشرف عليها عائلات تحتكر السلطة وتمارس تغولها على الشعب؛ إلا أن الحريات
السياسية كانت حينها ضرباً من الخيال، غير أنه وكنوع من الإيهام “الديمقراطي” تم
منح تأشيرة لحزب ليبرالي للمرة الأولى، ونعني به “الحزب الاجتماعي التحرري” بزعامة
منير الباجي، هذا الحزب الذي كان منخرطاً ضمن ما يعرف بالليبرالية الدولية، لم يكن
إلا جزءاً من الديكور الحزبي الذي يوشح به نظام المخلوع المشهد السياسي، حيث تم
منح الحزب مقعدين في البرلمان الشكلي (سنة 2004)، ولتتواصل مهزلة هذا الحزب
الليبرالي شكلاً بوصول المنذر ثابت إلى رئاسة الحزب، وهو الذي لم يكن يوماً
محسوباً على التيار الليبرالي (من المعروف أنه كان ناشطاً سياسياً تروتسكياً أثناء
دراسته الجامعية).
لقد كانت اللعبة السياسية حينها كما يديرها
بن علي، لا تقبل التعددية الفعلية، وتمارس الوصاية على كل المشهد السياسي، ولم يكن
مصير الحزب الاجتماعي التحرري سوى نموذج لمهزلة التعددية الحزبية في ظل نظام
استبدادي.
الأحزاب الليبرالية بعد الثورة:
شكّل سقوط المخلوع بن علي لحظة تاريخية
فارقة في المشهد السياسي والحزبي في تونس، وفتح المجال لكل القوى الحزبية للإعلان
عن حضورها ومشاركتها في التجاذبات السياسية التي تشهدها البلاد، غير أن وضعية
الأحزاب الليبرالية ظلت تراوح مكانها من حيث الضعف في البناء الحزبي والعجز عن
الاستقطاب السياسي، فقد تم منح التأشيرة لعدد من الأحزاب التي ترفع الشعار
الليبرالي في برامجها، نذكر منها:
- حركة الشباب الديمقراطي: ويقول
مؤسّسوها إنها رأت النور منذ سنة 2008، إلا أن النظام السابق رفض الترخيص القانوني
لها في أجواء الانغلاق السياسي واستحكام منطق الحزب الواحد ورفض الرأي المخالف
والمعارض. ويشير مؤسّسو حركة الشباب الديمقراطي إلى أنهم مدينون لثورة 14 جانفي
التي مكّنتهم من حقهم في العمل الفعلي والقانوني، حيث تحصّلت الحركة على التأشيرة
بتاريخ 2 مارس 2011. وتختصر الحركة برامجها في قضايا التعليم والمسألة الاقتصادية
رغم أنها لم تقدم برامج تفصيلية مقنعة وموضوعية، كما فشلت في الحصول على أي مقعد
في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت بتاريخ 23 أكتوبر 2011.
- حركة الكرامة والديمقراطية:
حصلت على تأشيرة العمل القانوني بتاريخ 11 أبريل 2011، ويرأسها محمد غماض، وجاء في
بلاغ صادر عن هذا الحزب “أنه يرمي بالخصوص إلى الحفاظ على استقلال الوطن وحماية
مكاسب الشعب، لا سيما مجلة الأحوال الشخصية، إلى جانب تكريس حرية الرأي
والديمقراطية المسؤولة. كما سيحرص الحزب الجديد على النهوض بالقطاع الاجتماعي خاصة
من خلال تعصير وإصلاح التعليم وتحسين أجور العمال من أجل القضاء على الرشوة وضمان
المسكن للشباب، وكذلك تعزيز اقتصاد البلاد عبر النهوض بالسياحة وبعث مناطق صناعية
مندمجة ومناطق حرة للخدمات والتجارة“[1].
وعلى عادة كثير من الأحزاب الناشئة بعد الثورة، قدم الحزب برامج شعبوية وغير قابلة
للتطبيق، مثل: الحديث عن سعر منخفض لرغيف الخبز (150 مليماً فقط بينما سعره الحالي
ورغم الدعم الحكومي يصل إلى 250 مليماً)، وأيضاً الوعد بتوفير 125 ألف موطن شغل في
سنة واحدة، إضافة إلى تخفيض ساعات العمل من 40 إلى 35 ساعة أسبوعياً، مع الحفاظ
على ذات الرواتب، وهي على ما تبدو وعوداً طوباوية غير قابلة للتحقق[2].
ورغم ترشيح الحزب عدداً من القوائم لانتخابات المجلس التأسيسي، فإنه لم يحقق سوى
نتائج صفرية برّرها رئيس الحزب بافتقاده الدعم المالي، متهماً الأحزاب التي فازت،
خاصة حركة النهضة، “بتلقي الأموال الطائلة وكسب الأصوات بهذه الأموال، وتوزيع كثير
من المواد الغذائية من أجل كسب الأصوات”[3].
ويظل هذا الموقف مجرد تبرير لفشل انتخابي متوقع لحزب عجز عن تقديم البدائل أو
توفير الكفاءات السياسية القادرة على إقناع الناخب التونسي.
- الاتحاد الوطني الحر: تأسس
هذا الحزب بتاريخ 19 مايو 2011 على يد رجل الأعمال سليم الرياحي، الذي عاد من
ليبيا ولديه استثمارات واسعة في مجالات الطاقة والعقارات، ويقدم الحزب نفسه
باعتباره ”حزباً تقدمياً ليبرالياً يعمل في نطاق الشرعية الدستورية والنظام
الجمهوري، ويحترم ويدافع عن الهوية العربية الإسلامية وحقوق الإنسان، ويسعى إلى
تكريس مبادئ الوسطية من خلال محاربة الفوارق الطبقية“[4].
وقد خاض الحزب حملة دعائية واسعة وأنفق مبالغ طائلة في حملته الانتخابية، وقد
وجّهت له اتهامات بشراء أصوات الناخبين، ورغم كل الجهود التي بذلها الحزب فقد جاءت
نتائجه مخيّبة لآمال أنصاره، حيث لم يفز إلا بمقعد واحد محققاً نسبة من الأصوات لا
تزيد على 1.27 في المائة، قبل أن يتمكن لاحقاً من شراء مقاعد في المجلس التأسيسي
ليصبح عدد ممثليه 5 نواب. وشهد الحزب استقالات عديدة أبرزها: الناطق الرسمي باسمه
محسن حسن. وتعود حالة الاضطراب الداخلي التي عرفها الحزب إلى ارتكازه على شخصية
رئيس الحزب سليم الرياحي الذي حاول أن يصنع لنفسه هالة جماهيرية عبر شراء وسائل
إعلامية ومن خلال رئاسته أحد أكثر الفرق الرياضية التونسية شعبية وهو “النادي
الإفريقي”. وتمكن الحزب لاحقاً من “إقناع 7 أحزاب صغيرة في الانصهار فيه رغم
مشاربها الأيديولوجية المختلفة، وتتمثل هذه الأحزاب في كل من: حزب الخيار الثالث،
حزب اليسار الحديث، حركة المواطنة، الحزب الليبرالي التونسي، حزب البديل
الديمقراطي، حركة المواطنة والعدالة، وحزب صوت الإرادة.
وصرّح الرياحي بأن عملية الاندماج تندرج في
إطار إطلاق مبادرة سياسية لتشكيل حزب وسطي وطني، مشيراً إلى أن المبادرة مفتوحة
على أحزاب أخرى”[5].
- حركة الديمقراطية
والتنمية: يرأس هذا الحزب عبد الرحمن البهلول، وقد
حصل على تأشيرة العمل القانوني بتاريخ 24 مايو 2011، ويعلن في برامجه الرسمية أن
غايته “بناء دولة مدنية تحتكم إلى المؤسسات والقوانين المعبّرة عن إرادة الشعب،
سواء عبر الانتخاب أو الاستفتاء، لبناء تنمية وطنية على أسس متينة وصلبة“[6].
وقدم الحزب ثلاث قوائم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي ولم يفز بأي مقعد، ولم
تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 0.15 في المائة.
- حزب الأحرار التونسي: ظهر
بوصفه انشقاقاً عن الحزب الاجتماعي التحرري بعد خلافات داخلية حادة دعت عدداً من
الناشطين إلى تأسيس حزب جديد “رأوا أنه يستجيب إلى تطلعاتهم المستقبلية ويمثل ثورة
تصحيحية للمبادئ الليبرالية التي يؤمنون بها”[7].
وقد حصل حزب الأحرار التونسي على تأشيرة العمل القانوني بتاريخ 8 مارس 2011. ويرفع
هذا الحزب جملة من الشعارات السياسية، أبرزها: تبنّي “فكرة الأمة التونسية ذات
الهوية المتعددة المنفتحة التي انصهرت فيها حضارات وثقافات عظيمة من الأمازيغ،
مروراً بقرطاج والعرب“[8]،
كما يؤكد عدم إيمانه بوجود إسلاميين معتدلين، ويؤكد مجموعة من الثوابت لديه،
أبرزها: “عقوبة الإعدام عقوبة متخلفة، نعم للمساواة في الإرث، ضد تجريم المثلية
الجنسية، ضد كل أشكال التمييز“[9].
ولا يتمتع هذا الحزب بأي انتشار شعبي، ويبدو امتداداً لأجندات غربية موغلة في
العلمنة أكثر مما هو حزب قادر على تقديم برامج أو على المنافسة الانتخابية.
- الحزب الجمهوري المغاربي (الحزب الليبرالي المغاربي سابقاً): حصل
على التأشيرة بتاريخ 22 مارس 2011، ويتولى الرئاسة فيه محمد البوصيري بوعبدلي،
ويعلن الحزب عن نفسه بوصفه “حزباً وسطياً ديمقراطياً اجتماعياً“ غايته
“إيجاد منوال تنمية ملائم لمجتمعنا ولثقافتنا، قادر على الاستجابة
لمقتضيات العولمة”، وهو ما يقتضي اعتماد قيم الحداثة والتقدم باعتبار ”أنّ
مشروع الحداثة والتقدّم الاجتماعي المؤسّس على تشجيع الحريّات والمؤسّسات
الديمقراطيّة، وعلى بناء مجتمع العدالة والازدهار والتضامن والحداثة؛ لهو الضامن،
في نظر باعثي الحزب الجمهوري المغاربي ومناضليه، للشروط الكفيلة ببروز إنسان جديد”[10].
وشارك الحزب في انتخابات المجلس التأسيسي وفاز بمقعد وحيد ولم تتجاوز نسبة الأصوات
التي حصل عليها 0.32 في المائة.
- حزب آفاق تونس: حصل هذا الحزب على
التأشيرة القانونية بتاريخ 28 مارس 2011، وأسهم في تأسيسه بعض الإطارات ذات
التكوين الغربي، واتسم في طابعه الغالب بنوع من النخبوية المفرطة. ويعلن الحزب عن
نفسه في الميثاق الذي أصدره بوصفه “حزباً ليبرالياً اجتماعياً“ قائماً على “اختيار
نموذج حداثي وحضاري ديمقراطي وطني يهدف إلى إلحاق تونس بمصاف الدول المتقدمة“[11].
وشارك الحزب في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وفاز بأربعة مقاعد مع نسبة تصويت
بلغت 1.89 في المائة من إجمالي الأصوات المصرح بها.
وخاض الحزب تجربة الانصهار مع مجموعة من
الأحزاب الأخرى، أبرزها: الحزب الديمقراطي التقدمي، ليتم بعدها الإعلان عن تأسيس
الحزب الجمهوري بتاريخ 9 أبريل 2012، غير أن هذه التجربة لم تعمّر طويلاً، إذ
سرعان ما حصل الانشقاق وأعلن ياسين إبراهيم، المدير التنفيذي لحزب آفاق تونس، في
ندوة صحفية بتاريخ 28 أغسطس 2013؛ انشقاقه عن الحزب الجمهوري وعما أسماه “عودة
الروح لحزب آفاق تونس“، مبرراً هذا الانفصال “بفشل الحزب الجمهوري في تحقيق
الأهداف التي بعث من أجلها، وظهرت بوادر الضبابية وغياب الأولويات منذ حادثة
اغتيال شكري بلعيد[12]،
كما لاحت بعض التجاذبات الحزبية بين أكثر من طرف؛ لذلك أفرزت آخر استطلاعات للرأي
حصول الحزب على 4 في المائة من نوايا التصويت مقابل 7 في المائة للأحزاب المنصهرة
خلال الانتخابات الفارطة“[13].
غير أن ما يميز هذه الأحزاب جميعها، هو جملة من الأزمات التي يمكن
اختصارها على النحو التالي:
- هي أحزاب نخبوية ترفع شعارات لا تجد لها
جذوراً داخل الوجدان الشعبي، وهذا ما يفسر فشلها الواضح في إقناع الناخبين رغم
تمويلاتها الضخمة وحملاتها الدعائية الواسعة.
- تظهر هذه الأحزاب الليبرالية كأنها
استجابة لحاجة خارجية فرضتها علاقاتها مع المراكز المالية والثقافية الغربية أكثر
مما هي تلبية لرغبة اجتماعية حقيقية أو استجابة لمطالب شعبية عبّر عنها الشباب الثائر
أثناء احتجاجه على نظام الحكم السابق.
- ظلت هذه الأحزاب تراكم فشلها بسبب خضوعها
لمنطق الزعاماتية المفرطة، وهو ما أفشل كل محاولاتها في إيجاد قطب ليبرالي واسع
وموحد.
- غياب التجربة السياسية عن رؤساء هذه
الأحزاب، إذ إن أغلبهم لم يُعرف عنه معارضته لنظام الحكم السابق أو نضاليته مقارنة
بقادة أحزاب أخرى (مثل حزب حركة النهضة، أو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية).
- تعاني مجمل الأحزاب الليبرالية التونسية
مما يمكن تسميته «العمى الأيديولوجي»، فهي تعلن الانتساب إلى مذهب سياسي ما لكنها
لا تحدد بالضبط مدلول اختيارها المذهبي هذا؛ فهي لا تدرك من الليبرالية سوى أنها
دعوة صريحة إلى الحرية الاقتصادية أو المبالغة في بعض الحريات الفردية، لكنها
تفتقر فعلياً إلى برامج سياسية حقيقية تنبئ عن فهم للواقع السياسي والاجتماعي
المتغير في البلاد إثر ما شهدته من تغيرات سياسية حادة لا يمكن إنكارها.
بقي أن نشير إلى أن كثيراً من الأحزاب التي
لا تعلن عن نفسها بوصفها تتبنّى المنظومة الليبرالية، تظل في النهاية تقبل ببعض
الجوانب الليبرالية، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، لكنها تظل من الناحية
السياسية رهينة توجّه أيديولوجي تنتسب إليه.
إن أزمة الأحزاب الليبرالية في تونس (وربما
الفكرة الليبرالية ذاتها)، تعود في جانب منها إلى الأزمة التي تعرفها المنظومة
الحزبية باعتبار أن الأحزاب التونسية بعد الثورة لم تصل بعد إلى درجة النضج.
وفهم معنى الحزب السياسي في بنيته العميقة
باعتباره بالدرجة الأولى مدرسة للتربية السياسية للمواطن ينخرط فيها ليتدرب على
مساهمته في الشأن العام وعلى ممارسة حقوقه السياسية الأساسية، لكن تحقيق هذه
المهمة بصورتها المثلى ليس بالأمر اليسير في ظل حالة الاضطراب التنظيمي الذي تشهده
غالبية الأحزاب السياسية وحالات الانشقاق التي تعرفها، إضافة إلى ما تعرفه من
ارتحال لناشطيها بصورة تذكرنا بانتقالات لاعبي كرة القدم. وما يزيد المشهد قتامة
هو انبناء كثير من الأحزاب على منطق الزعيم الأوحد، ما يجعلها أشبه بالشتات الذي
تجمعه المصلحة الآنية أكثر مما هي تنظيم ذو بنية واضحة وأهداف محددة (نداء تونس
نموذجاً)؛ فالحزب الحقيقي كتنظيم عقلاني للفعل السياسي، وإن كانت تتجاذبه في أحيان
كثيرة جماعات الضغط والمصالح، فإنه يهفو دائماً إلى النموذج العقلاني الأمثل، قوام
هذا النموذج العقلاني السعي لتحويل الحزب السياسي إلى بنية جماعية متآلفة عضوياً،
أي إلى عقل جماعي يتناقش فيه جميع الأعضاء حول قضايا الشأن العام.
إن السؤال المركزي في ظل حالة الانفلات
الحزبي (المبررة بحكم الواقع وحداثة التجربة الديمقراطية) لم يعد هل لدينا أحزاب
ليبرالية في تونس، وإنما هل يضم المشهد السياسي أحزاباً فعلية تنطبق عليها التسمية
وتتساوق مع المفهوم كما تحدد في العلوم السياسية؟
:: مجلة البيان العدد 324 شعبان 1435هـ، يونيو 2014م.
[1] بلاغ صادر عن حزب “الكرامة والديمقراطية“
نقلته “وكالة تونس إفريقيا للأنباء” بتاريخ 22 أبريل 2011.
[2] محمد غماض، ندوة صحفية نشرتها جريدة
“التونسية“ بتاريخ 7 يوليو 2011.
[3] محمد غماض، تصريح لقناة “روسيا اليوم“
بتاريخ 19 يناير 2012.
[4] ندوة صحفية للحزب نقلاً عن “وكالة
تونس إفريقيا للأنباء“ بتاريخ 1 أكتوبر 2011.
[5] ندوة صحفية عقدها سليم الرياحي، نقلاً
عن الموقع الإلكتروني “باب نات“ بتاريخ 7 مارس 2013.
[6] برنامج “حركة الديمقراطية والتنمية”،
جريدة “الشروق“، بتاريخ 21 أغسطس 2011.
[7] جريدة “الشروق“ التونسية بتاريخ 13
شباط 2011، مقال بعنوان “تأسيس حزب الأحرار التونسي لتصحيح مسار المبادئ
الليبرالية”.
[8] مبادئ الحزب كما يعلنها على موقعه
الإلكتروني:
http://www.parti-liberal-tunisien.org/
[9] مبادئ الحزب كما يعلنها على موقعه
الإلكتروني:
http://www.parti-liberal-tunisien.org/
[10] تقديم الحزب الجمهوري المغاربي كما
ورد على موقعه الإلكتروني:
http://www.prmtunisie.org/presentation.php.
[11] ميثاق آفاق تونس، وثيقة حزبية واردة على
موقع الحزب الإلكتروني:
http://www.afektounes.tn/
[12] شكري بلعيد: سياسي تونسي شغل منصب
الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وتم اغتياله بتاريخ 6 شباط
2012، وخلّف مقتله أزمة حادة بالبلاد.
[13] ندوة صحفية عقدها ياسين إبراهيم بتاريخ
28 أغسطس 2013، نقلاً عن جريدة “الشروق“ التونسية بتاريخ 29 أغسطس 2013.