مثارات الغلط في الفتوى

مثارات الغلط في الفتوى

 

مقصود العنوان التفتيش عن مظان الغلط في الفتوى، والبحث عن الأسباب الموجبة له.

قال الكفوي: مثار الشَّيْء بِالْفَتْح: مدركه ومنشؤه[1].

فلو صيغ سؤال عن هذه القضية فإن نصه كالتالي:

من أين ينشأ الغلط في الفتوى؟

هناك عبارة يرددها من في قلبه إحنة[2] على أهل العلم والفتوى، فيقول: كانوا يفتون بتحريم كذا فما بالهم اليوم يفتون بحله؟ أو العكس، ثم يتخذ ذلك ذريعة يدلف من خلالها للنيل من أهل العلم من جهة، وللتملص من أحكام الشرع من جهة أخرى.

ولو تجرد هذا للحق، ورام البحث عن الصواب؛ لهداه الله إليه، لكنه ركب رأسه، واستهواه شيطانه، فصال وجال بغير حق، وخاض في الأعراض دون علم، وولغ في النوايا وليس له حق، وعاث يميناً وشمالاً بلا تعقل ولا روية إلا حاجة في نفس مأزوم نفثها صدره، وأظهرها لسانه، وما تخفي صدورهم أكبر، وليت هؤلاء خصصوا ولم يعمموا، وكنوا ولم يصرحوا، فحينها قد يهون الأمر، لكن أنى لهم ذلك وفي قلوبهم مرض.

وتجلية لهذا الخلط، وتعرية لهذه الجرأة على الله ورسوله وأوليائه، وتبرئة للذمة؛ فإني أسطر هنا وقفات تكشف لنا مثارات الغلط في الفتوى.

الوقفة الأولى: مجال الفتوى أوسع من مجال الحكم الشرعي المجرد في مقام التعليم، كذلك هي أوسع مجالاً من مقام القضاء، ومن مقام الحسبة، ومن مقام التوجيه والإرشاد؛ إذ الفتوى ينظر فيها إلى حال السائل، والواقع الذي ورد فيه السؤال، ولذا يطلق عليها: نازلة ومشكلة ومستجدة ونحو ذلك.

فمثلاً: الحكم الفقهي المجرد في مسألة اشتراط الطهارة للطواف، هو اشتراطها لصحته.

غير أنه في الواقعة المعينة لا يكتفي بهذا، بل يراعي مقتضى الحال، وقواعد الضرورة وما في حكمها من الحاجيات، وما تتطلبه سياسة الخلق بالشرع، فإنه حينها لن يجد بداً من تصحيح بعض الصور التي طاف فيها من طاف بغير طهارة[3].

ومثال آخر: اختلاف القضاء عن الفتوى: ذكر صاحب الدر المختار[4] عبارة: المفتي يفتي بالديانة والقاضي يقضي على الظاهر. قال ابن عابدين شارحاً لها: مثلاً: إذا قال رجل: قلت لزوجتي: أنت طالق قاصداً بذلك الإخبار كاذباً، فإن المفتي يفتيه بعدم الوقوع، والقاضي يحكم عليه بالوقوع[5].

ومن هنا منع بعض الفقهاء من أن يفتي القاضي في المسائل القضائية، بعد اتفاقهم على أن له أن يفتي فيما لا مدخل له في القضاء كالعبادات ونحوها.

وذهب آخرون إلى أن له أن يفتي مطلقاً بلا كراهة في جميع المسائل، ورجحه النووي وابن القيم.

وإنما منع من منع وفرق بين الموضعين؛ لأنه موضع تهمة، ووجهه أنه إن أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة إذا ترجح عنده ضده، فإن حكم بخلاف ما أفتى به طرق الخصم إلى تهمته والتشنيع عليه، وقد قال شريح: أنا أقضي ولا أفتي. وقال ابن المنذر: تكره الفتوى - أي للقاضي - في مسائل الأحكام الشرعية[6].

وعليه؛ فإن العامي عليه إدراك الفرق بين المقامين، وهل هو صادر عن إفتاء أو قضاء؟ فإنه إذا لم يفرق مرِج عليه الحال واختلط عليه الأمر وأساء الظن بأهل العلم.

الوقفة الثانية: عدم وضوح محل الإشكال لدى السائل نفسه، بحيث يصعب عليه تحديد المشكلة إما لقلة بضاعته العلمية أو لسوء تعبيره، أو نحو ذلك، فتأتي الفتوى على نحو ما جاء في طريقة عرض السؤال، وهنا يكمن وقوع اللبس والخلط بين الفتوى وما يريده السائل.

الوقفة الثالثة: تصور الفقيه للنازلة[7] إن استوفى أركانه آتى ثماره، وإن اختل اعتل، كما في مسألة التصوير مثلاً وهل ما جاء في النصوص يشمل الفوتغرافي والمتحرك ونحوه، فيأخذ حكمه أو يختلف فيعطي حكماً آخر؟

وليست قضية تصور النازلة بالأمر السهل، فقد يشكل أحياناً بسبب تعقد بعض المسائل وتداخل عناصرها وربما ارتبطت بأكثر من جهة كالطب والاقتصاد ونحوهما، ما يحتاج معه إلى أهل الاختصاص، ومن هنا يفضل في هذه القضايا الاجتهاد الجماعي، أو لا أقل أن يُسأل المختصون.

الوقفة الرابعة: التفاوت في القدرة على التكييف الفقهي للنازلة، والتفاوت في الإحاطة بالأصول والقواعد الفقهية.

قال القرافي: وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف[8].

والمراد بالتكييف الفقهي للنازلة: تحريرها وبيان انتمائها إلى أصل معين معتبر[9]، وهذا الأصل المعين المعتبر يشترك في معرفته الفقيه مع غيره من الفقهاء، لكن الشأن في انتزاع وجه الشبه بين النازلة وذلك الأصل واندراجها تحته.

قال ابن القيم: خاصية الفقيه إذا حدثت به حادثة أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره[10]. مثاله: الإيداعات البنكية هل هي في حقيقتها قروض فتأخذ حكم القرض في الفقه الإسلامي أم هي مجرد إيداع فتأخذ حكم الوديعة في الفقه الإسلامي؟ ذلك أن البنك يتصرف في هذا المبلغ ويضمنه بكل حال حتى لو تلف من غير تعدٍّ أو تفريط، وهذا من أحكام القرض لا الوديعة التي من أحكامها أنها لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، وعليه؛ فالعلاقة بين العميل والبنك هي علاقة مقرض ومقترض، فتكييفها على أنها قرض أكثر دقة من تكييفها على أنها وديعة، ومن ثم يترتب على سلامة التكييف صحة التوصيف، فإذا أخطأ فيه نشأ الغلط في الفتوى.

الوقفة الخامسة: قد يصدر المفتي فتواه سياسة في بعض الأحوال، وقد يسكت عنها لذلك. فمهما كان القول لديه راجحاً فإنه قد لا يفتي به بل يتركه ليفتي بما هو مرجوح لديه بغية كف الفتنة مثلاً أو منع الإفضاء إلى مفسدة، فإنه لا تلازم بين الراجح والمفتى به، بل قد يسعه السكوت عن الفتوى أصلاً بناء على قاعدة: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

وقد نص الفقهاء على أنه إن تهيب المفتي الفتوى فله ترك الجواب[11]، وكذا له أن يترك الفتيا إن خاف أن يستغلها الظلمة أو أهل الفجور لمآربهم، قال الشاطبي: ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم؛ فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص[12].

وجاء في حاشية ابن عابدين عبارة: وهذا شيء يعلم ولا يفتى به كي لا يطمع الظلمة في أموال الناس[13].

وللمفتي أن يتشدد في الفتيا على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، فإذا رأى المفتي شخصاً متساهلاً في هذه المعاصي فهنا يسلك معه مسلك التشديد، وكذلك له أن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو على غيره؛ ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط، وهذا من باب النظر إلى الفتوى سياسة لا صناعة[14].

الوقفة السادسة: بعض من يفتي يستهويه تتبع الرخص،

وقد تدفعه لذلك المجاملة لمن حوله من سلطان، أو مصلحة، أو قرابة، أو تأثر بضغط الواقع، وهذا لا يجوز، وقد عدّه العلماء فسقاً في المفتي؛ لأن الراجح في نظر المفتي هو في ظنه حكم الله تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة استهانة بالدين، شبيه بالانسلاخ منه، ولأنه شبيه برفع التكليف بالكلية، إذ الأصل أن في التكليف نوعاً من المشقة، فإن أخذ في كل مسألة بالأخف لمجرد كونه أخف فإنه يفضي إلى أنه يُسقط في الزكاة مثلاً: زكاة مال الصغير، وزكاة مال التجارة، وزكاة الفلوس وما شابهها، وزكاة كثير من المعشرات، ويسقط تحريم المتعة، ويجيز النبيذ، ونحو ذلك، قال أحمد: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقاً. وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. وقال ابن سريج: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مؤلف هذا الكتاب زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد بإحراق هذا الكتاب.

على أن الذاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح، قال ابن القيم بعد أن ذكر تتبع المفتي الرخص لمن أراد نفعه: فإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج، جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة، قال: فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبحها ما أوقع في المحارم[15].

الوقفة السابعة: رجوع المفتي عن فتياه. فإن رجع المفتي عن فتياه، أو تبيّن خطؤه، فليس للمستفتي أن يستند في المستقبل إليها في واقعة أخرى مماثلة؛ لأن ما رجع عنه يسمى شاذاً.

نقل الزركشي عن غيره في تعريف الشذوذ، قال: هو أن يرجع الواحد عن قوله، فمتى رجع عنه سمي شاذاً، كما يقال شذ البعير عن الإبل بعد أن كان فيها يسمى شاذاً[16].

الوقفة الثامنة: بعض من يفتي قد يكون مشهوراً بالشذوذ في الفتوى، والمراد بشذوذه في الفتوى أن يكون ذلك القول أو تلك الفتوى مخالفة لما هو مقطوع به في الشريعة، أو يكون المفتي ماجناً أو مشهوراً بالتساهل والتوسع في الرخص، أو يقول بالقول لهوى في النفس ليرضي غيره، أو ليحمد من الناس وينال الغلبة على أقرانه عند الحكام ونحو ذلك؛ فهذا ينبغي الإنكار عليه ومنعه.

قال ابن حزم: حد الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم والجماعة والجملة هم أهل الحق ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة[17].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه قد أخطأ، فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك؛ وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين؛ فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم، والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين، فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم[18].

وليس من الشذوذ في الفتوى ما قاله ذلك العالم أو قضى به القاضي وفق النصوص الشرعية وإن خرج عن أقوال الأئمة الأربعة؛ فإن أقوال الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم ليست حجة لازمة ولا إجماعاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الأيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين ولم يخالف كتاباً ولا سنة ولا معنى ذلك؛ بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشرعية - كالاستدلال بالكتاب والسنة -؛ فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به، ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده. ومن قال: إنه يسوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة؛ بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله[19].

هذه بعض الوقفات الدالة على ما وراءها، وبالتأمل والمراجعة قد نقف على أكثر من ذلك، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

:: مجلة البيان العدد  323 رجب 1435هـ، مايو  2014م.


[1] الكليات ص: 874.

[2] الإحنة: الحقد في الصدر [تهذيب اللغة للأزهري (5/ 166)]، وقال الشاعر:

 إِذا كان فِي صدر ابن عمك إحْنَة ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها [جمهرة اللغة لابن دريد الأزدي (1/ 424)].

[3] من الصور أن تحيض المرأة قبل أن تفيض وتخشى فوات الرفقة إن هي انتظرت حتى تطهر، فهذه الصورة وأمثالها من الضرورات تبيح الطواف، راجع إعلام الموقعين لابن القيم 3/20 - 21.

[4] الدر المختار للحصفكي شرح فيه كتاب تنوير الأبصار للتمرتاشي.

[5] رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، 5/ 365، الطبعة الثانية - دار الفكر.

[6] المجموع للنووي 1/ 42، وإعلام الموقعين 4/ 220، وصفة الفتوى لابن حمدان ص 29.

[7] المقصود بالنازلة المسألة المستجدة التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي والاجتهاد في تنزيله عليها.

[8] الفروق: 1/3.

[9] معجم لغة الفقهاء ص: 143.

[10] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/161.

[11] شرح المنتهى 3/483.

 [12] الموافقات 1/269. وقد ضرب هناك أمثلة رائعة على هذا الأصل وساق الأدلة عليه فراجعه فإنه نفيس.

[13] حاشية ابن عابدين (4/ 189).

[14] العلم بقواعد الاستنباط وآلة الاستدلال هو صناعة الفتوى، لكن الأخذ بقرائن الأحوال والمقاصد الشرعية والحيل المباحة والمخارج الشرعية كل ذلك من سياسة الفتوى.

[15] الموافقات 4/ 118، وما بعدها 134 - 140 - 155 - 259، والبحر المحيط 6/ 324 - 327، وإرشاد الفحول ص 272، وإعلام الموقعين 4/ 222، والمجموع للنووي 1/ 55.

[16] البحر المحيط 3/560.

[17] الإحكام في أصول الأحكام 5/87.

[18] مجموع الفتاوى 35/ 382.

[19] مجموع الفتاوى 33/ 133.

أعلى