• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العولمة واقتصاديات الوطن العربي

العولمة واقتصاديات الوطن العربي

 

ما من شك في أن العالم دخل القرن الحادي والعشرين في ظل نظام اقتصادي يعد أبرز سماته تفعيل الحرية الاقتصادية، وتدفق المعلومات، وإزالة العوائق أمام حركة التجارة السلعية والخدمية والاستثمارات الخارجية، والاتجاه نحو إقامة التكتلات الاقتصادية الدولية في ظل سوق تنافسية عالمية واسعة. وقد خلق هذا الواقع تحدياً أمام دول العالم كافة، خاصة النامية منها، والتي اصطلح على تسميتها بدول العالم الثالث؛ فبدأت بانتهاج سياسات جديدة للتنمية الاقتصادية، واعتماد آليات السوق، وتدعيم هياكل الميزانيات الحكومية، وتحسين القدرة على اجتذاب التمويل الداخلي والتمويل الخارجي، ودعم وإصلاح الإدارة الاقتصادية والنظم القانونية، والتوجه نحو خصخصة المؤسسات العامة.

فمن المؤكد أن عالم اليوم يمر بمتغيرات عدة في مختلف النواحي: الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن الواضح أنه ينتقل من عصر الرأسمالية التقليدية إلى عصر العولمة المتميز بالأسواق المفتوحة والتدفق الحر للموارد. وقد ظهر مفهوم العولمة كمصطلح يصف عمليات التغيير في مجالات الحياة المختلفة التي تركت انعكاساتها على الوضع العربي بصفة خاصة، فتشير العولمة في ناحيتها الاقتصادية إلى وضعٍ تزيد فيه أهمية الصفقات بين الدول دون أي عوائق أمام حركة السلع والخدمات ورأس المال. وهذه المتغيرات الدولية التي تواكب عولمة الاقتصاد لها انعكاساتها على الدول النامية بصفة عامة، وعلى الدول العربية بصفة خاصة؛ نتيجة للتطور الواضح في السياسات الاقتصادية والتجارية للدول النامية المتميزة بالاتجاه نحو تطوير الكفاءات الاقتصادية لديها من خلال تحرير أسواقها الوطنية وفتحها للتجارة والاستثمارات العالمية، وارتفع نتيجة لذلك عدد الدول التي أزالت القيود أمام التبادل التجاري من 35 دولة إلى 135 دولة خلال الفترة 1970 - 1998م، كما انخفضت التعريفات الجمركية في العالم إثر إنشاء منظمة التجارة العالمية من 6٫3 ٪ إلى 3٫8 ٪ في الدول الصناعية، ومن 15٫3 ٪ إلى 12٫3 ٪ في الدول النامية.

إن التطورات التي حدثت في الصناعات الثلاث الكبرى: الحاسب الآلي، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات؛ أحدثت ثورة جديدة ساعدت على ربط العالم وتحويله إلى ما أصبح يعرف اليوم باسمالقرية الكونية الصغيرة، وأدى هذا التقريب بين الأسواق في العالم وتحريرها إلى زيادة الرفاهية العالمية؛ فزاد الإنتاج العالمي بنحو عشرة أضعاف من 3 تريليونات دولار إلى 30 تريليون دولار خلال السنوات الخمسين الماضية، إضافة إلى تضاعف متوسط دخل الفرد في الكرة الأرضية مرتين ونصف تقريباً، إلا أن توزيع هذه الرفاهية لم يكن متساوياً بين مناطق العالم ودوله، فالدول المتقدمة حققت نجاحات تفوق الدول النامية، فأدى ذلك إلى زيادة الفوارق بين أكثر الدول تقدماً وأقلها نمواً.

وهو ما سيعرّض مسيرة حركة العولمة لبعض المشاكل ما لم يجرِ تدارك ذلك، ولعل أبرزها: تصاعد البطالة وضياع فرص العمل نتيجة لانتشار العولمة، وازدياد حدة المنافسة، وتكثيف استخدام التكنولوجيا الجديدة، فإن طرق الإنتاج الجديدة، والسلع المتطورة، وأشكال التنظيم الصناعي الحديثة؛ ستؤدي إلى الاقتصاد في الوظائف، كما ستعمل العولمة من خلال سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتطور تقنيات المعلوماتية، والتقدم في مجال تكنولوجيا الاتصال؛ على تنامي ظاهرة الفقر؛ لأنه مثلما سبق أن أوضحنا قد ترتب على النهضة الصناعية التي تشهدها الدول المتقدمة أن ازدادت الفوارق بينها وبين الدول الأقل نهضة، نتيجة للازدياد الهائل في حجم التدفقات المالية عبر الحدود وتحريك رؤوس الأموال بين الدول وهجرتها إلى الدول المتقدمة.

في الوقت الذي يعطي فيه البنك المركزي الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية؛ أهمية كبرى للعولمة كعامل أساسي وفاعل في مكافحة الفقر؛ لأنهم يرون أن العولمة والتحرير المالي والتجاري التام وغير المقيد هو الطريقة المثلى للنمو الاقتصادي والقضاء على الفقر، غير أن الكثيرين يشكّكون في تلك المقولة التي تلقى رواجاً لدى دول الغرب بشكل خاص؛ لأن توزيع الثروة يتسم بعدم المساواة، فالطبقات الفقيرة في الدول التي شهدت فترات نهضة ونمواً اقتصادياً، لا تتمتع بكثير من مغانم النمو، في حين أنها تدفع الثمن في فترات التراجع، وليس أدل على ذلك مما تعرضت له الطبقات الفقيرة من مصاعب في الأحداث التي شهدها انهيار النظام المالي العالمي، خاصة في عام 1997م حين نشبت الأزمة المالية في جنوب آسيا، فالعولمة شكل جديد من أشكال الاستعمار، وفرض التبعية الاقتصادية على دول العالم الثالث من خلال تكريس الفقر وعدم المساواة.

والخطورة الواضحة في فكرة العولمة إزاء العقل العربي أنها تتمركز حول الغرب وحضارته، فقد أفادت تجارب الماضي في العلاقات الغربية - الشرقية بأن نزعة التمركز حول الذات هي التي تشكل العقلية الغربية، كما أن الماضي يشير أيضاً إلى تاريخ مُحبط للحضارة الغربية باتجاه تاريخ الشرق وحضارته، ويشير مفهوم العولمة إلى أن الغرب لا يزال يسير على نفس المنهج التدميري للثقافات الأخرى وأنه لم يغير من أنماط سلوكه تجاه الشعوب الشرقية، وقد ظهرت في الغرب دعوات واضحة إلى تدمير الثقافة العالمية، وتنصيب الحضارة الغربية كحضارة واحدة ووحيدة للعالم، وهذه الدعوات على اختلاف أشكالها واتجاهاتها تثير مخاوف الفكر العربي من العولمة، وما ارتبط بها من دعوات لا تصلح لإقامة علاقة متكافئة بين الغرب والشرق، وذلك بالانتصار للحضارة الغربية على الحضارات الأخرى، وبالقضاء على الثقافات الوطنية والإقليمية والتبعية العامة للنموذج الغربي ثقافياً واقتصادياً.

والعالم العربي يقف في حيرة بشأن العولمة، فهي شأن عالمي يؤدي إلى ربط البلاد بنظام عالمي موحد، وهذا الربط إن لم تتوافر له المؤهلات اللازمة يمكن أن يصبح مجرد تبعية مطلقة للنظام الغربي المسيطر على العولمة والمحرك للنظام العالمي الجديد. والحقيقة أن معظم الأقطار العربية لا تملك مؤهلات الدخول إلى عالم العولمة، ولأنها مضطرة اضطراراً لدخوله فهي معرضة لفقدان حريتها الاقتصادية بحيث تصبح دولا تابعة اقتصادياً للدول العظمى، وغير قادرة على الانتفاع بالنظام العالمي الجديد على قدم المساواة مع الدول الغربية؛ ذلك لأن العولمة ليست إلا غزواً اقتصادياً للعالم يقوده الغرب بزعامة أمريكية خالصة، تقصد من ورائها انتصار النمط الأمريكي للسيطرة على وسائل الإنتاج، والعمل على اندماج الآخر في هذا النمط الاقتصادي الغربي الأمريكي، وهي احتواء للعالم على المستوى الاقتصادي يؤدي بالضرورة إلى احتوائه ثقافياً.

والسؤال الواقعي الذي يجب أن يتم طرحه الآن هو: كيف يمكن أن تواجه الدول العربية الآثار المترتبة على العولمة؟ إن هذا يتطلب تغييراً جوهرياً للنظام العربي الراهن يقوم على التزام حقيقي غير زائف من قبل الدول العربية لبلورة أسس جديدة تبنى على التكافل والتعاون فيما بينها لتحقيق المصلحة المشتركة، ويجب على جميع الدول العربية السعي الحثيث للتغلب على مصالحها الآنية لمصلحة الوطن العربي كله. إن هذا التغيير المطلوب ليس مستحيلاً، فقد أثبتت التجارب مرات عدة أنه ليس من الصعب جداً أن تقوم أغلبية الدول بالتوافق على جهد مشترك، وأن تعمل معاً، وأن توفر التمويل اللازم للتغلب على خطر ما. إن بذل جهود حثيثة لمحاربة المشكلات التي يعانيها العالم العربي، لا شك سيجعله أكثر تحدياً ومواكبة للتطورات العالمية التي تفرضها العولمة، وسيجعل منه أكثر أماناً ورفاهية وأقل عوزاً وعنفاً، ويؤسس به أرضية صلبة لنظام يوازن بين مصالح الجميع، ويضمن الاستقرار الاقتصادي والسياسي في جميع دوله الغنية والفقيرة على حد سواء، فلا بد من أن تتبنّى المجموعة العربية نهجاً جديداً مبنياً على إدارة أفضل لمواجهة عملية العولمة، يهدف إلى مكافحة الفقر، وعدم المساواة، والبطالة.

كما يجب عليهم فتح حوار بين الحضارة العربية والحضارات الأخرى، وبصفة خاصة الحضارة الأوروبية العلمية والتكنولوجية، فهذا الحوار ضروري. وهذا الحوار لا أقصد به القضاء على الخصوصيات الثقافية للحضارة العربية، وتكريس التبعية الاقتصادية والتقنية للعالم الغربي المتقدم، بل أقصد به اقتحام ميادين العلم والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق تنمية بشرية متكاملة، وفي الوقت نفسه نحافظ على الإقليمية والمحلية والخصوصية العربية، لكن بلا انغلاق؛ فالعولمة من خلال السياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمد عليها، إنما ترسم لنا صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق المتوحش للرأسمالية، فالزعم بأن العولمة قد أدت إلى انصهار مختلف الاقتصاديات الوطنية والإقليمية في اقتصاد عالمي موحد بعد أن صار العالم سوقاً واحدة؛ قول غير صحيح تماماً؛ وذلك لأن الاقتصاديات الوطنية والإقليمية سيكون لها دورها الكبير في مواجهة التزايد المطرد في الحرية الاقتصادية، وإزالة العوائق أمام حركة التجارة السلعية والخدمية والاستثمارات الخارجية في ظل سوق تنافسية عالمية واسعة. إنها متطلبات ليس من المستحيل تنفيذها، وإن كانت تحمل في طياتها بعض الصعوبة، لكنها في نهاية الأمر ممكنة التحقيق، خاصة أننا عرفنا الآثار التي ستترتب على العولمة في اقتصاديات العالم العربي.

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.

 

أعلى