التفاؤل شعور وعمل
مما لا شك فيه أَنَّ ما يجري في
العالم على وجه العموم، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، مِنْ حرب على الإِسلام
وإبعاد لأهله - خاصة عندما يكون له التأثير والفاعلية - بتحدٍّ واضح لمشاعر
المسلمين وبشكل مكشوف مفضوح؛ ليحتاج إِلى قلب مطمئن بالإيمان، عامر بالثقة بالله
ونصره، ينظر إلى الأمور دائماً نظرة التفاؤل، ويعد أَنَّ هذه الأحداث إنما هي لحكم
جليلة وكثيرة، مِنْ أهمها: أَنْ يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق،
والصادق من الكاذب؛ كما قال جل شأنه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ} [آل عمران: ١٧٩].. فهذا النص - كما يقول صاحب
الظلال - يقطع بأنه ليس من شأن الله - سبحانه -، وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من
فعل سنته؛ أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى
الإيمان ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام. فقد
أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً،
ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً ونظاماً جديداً.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء
والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر
يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدَّره الله
لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
وكل هذا
يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط
عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز
الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة
العظيمة[1]!. ولَمَّا كان هذا التكالب الذي يدور على
المسلمين من القريب قبل البعيد يحتاج إِلى أَنْ يقابَل بشحذ الهمم والعزائم
واستثارتها؛ فقد مَسَّتْ الحاجة إِلى التذكير بالتفاؤل باعتباره الصفة التي تأخذ
بالهمة إلى القمة، وتضيء الطريق لأهلها، وذلك في الجمل التالية:
- التفاؤل: يعني
انشراح القلب وتوقّع الخير، وفوائده لا تحصى، فهو اقتداء بسيد الخلق الذي كان يبث
روح التفاؤل في أحلك الظروف وأقساها، فحين أتاه الصحابي الجليل خَبَّابُ بْنُ
الْأَرَتِّ رضي الله عنه يشتكي له ما لقي من المشركين ويطلب منه الدعاء قائلاً:
أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ - يريد الإسلام - حَتَّى يَسِيرَ
الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ، والذِّئْبَ
على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وفي غزوة
الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المنافقون الظنون
بربهم تبارك وتعالى؛ فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب الفأل أمام أصحابه، وقال
لهم وهو يفتت الصخرة: «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، اللَّهُ
أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ
الْيَمَنِ».
ومِنْ
أطايب كلامه: «وأنا مُبَشِّرُهم إذا أَيِسُوا»، «سدّدوا وقاربوا، وأبشروا»،
«بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا». وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل ويكره
الطِّيَرَةَ والتشاؤم.
- ومِنْ فوائد التفاؤل أيضاً أَنَّه
يقوي العزم، ويبعث على الجدّ، ويُعِين على إِدراك الهدف، ويجلب
الطّمأنينة وسكون النّفس، ويُمَكِّن الإِنسان مِنْ إِدارة أزمته بثقة وهدوء؛ فيحصل
الفرج بعد الشّدّة، كما أَنَّه يقوي الروابط بين الناس، فالمتفائل يحبّ من يبشّره
ويستأنس به، وفيه إِحسان الظّنّ بالله تعالى، وحُسْن الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ
العبادة.
- ويكفي في مدحه أَنَّ أضداده: التشاؤم
واليأس والإِحباط والانهزامية والقنوط، وكلها مِنْ أَعمال أَهْلِ الشِّرْكِ؛
تَجْلِبُ ظَنَّ السُّوءِ باللَّه، وتورث الاتكال على من سِوَاهُ، كما أَنَّ كل
واحد منها كفيل بأَنْ يصيب الإنسان باضطراب النّفس وبلبلة الفكر، ويحرمه الإبداع
والتّفوّق، ويسهل عليه البطالة والكسل، ويجعله عبداً للخزعبلات والدّجل والإِشاعات
المغرضة، ويوقعه فريسة للأمراض بشهادة ذلك الحكيم الذي يقول: «إِنَّ قرحة المعدة
لا تأتي مما تأكل، ولكنها تأتي مما يأكلك»، في إِشارة واضحة إِلى الثمرة الْمرَّة
لمضادات التفاؤل. وكاد أَنْ يصيب كبد الحقيقة مَنْ وصف المتشائم بأَنَّه «مَيِّت
الأحياء»، وقد صدق.. ألا يكفي أَنَّه مطعون في قوة يقينه وإِيمانه! إِنَّه يستجدي
الزمان أَنْ يأتيه بكل ما عنده من مِحَن ولسان حاله يقول:
«إِنْ كان
عندك يا زمان بَقِيَّة
مما يُهَانُ به الأنام فَهَاتِهَا»
أما
المتفائل فشعاره: «إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ
عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي»، و«لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ».
- أما كيف نزرع التفاؤل في داخلنا؟
فأقول:
أَوَّلاً: جُلْ بقلبك
في حنايا التاريخ مستصحباً معك ما أسميته ميثاق التفاؤل: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ
وفي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى
يَغْرِسَهَا فَلْيَغرسها»، إِنَّه حث على التفاؤل والعمل وإنْ لم يبق مِنْ الدنيا
إلا دقائق، لتبقى عامرة إلى آخر أمدها المعدود عند خالقها.
ثَانِياً: تذكر نبأ
(ثاني اثنين إِذْ هُمَا في الغار).. في تلك الحالة الحرجة الشديدة، وقد انتشر
الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر
على البال. وقصة يوسف النبي - الكريم ابن الكريم - الذي بدأ حياته بالسجن وختمها
بملك مصر.. لم يُؤَهله لهذا المنصب حسب ولا نسب، وإِنَّمَا أَهَّلَهُ حِفْظهُ
وعِلْمهُ، فالعلم إشارة إلى الإتقان والكفاءة، والحفظ إشارة إلى الثقة.
ثَالِثاً: لا تنسى
موسى الكليم الذي جعل الله هلاك فرعون على يديه، والذي زكَّتهُ ابنة الرجل الصالح
بعد ما شاهدت مِنْ نشاطه ما عرفت به قوته، وشاهدت مِنْ خلقه ما عرفت به أمانته،
فأصدرت حكمها لأبيها «إِنَّ خير من استأجرت القوي الأمين». ويا له مِنْ حكم صائب؛
لأن مَنْ يجمع بين إِتقان العمل والأمانة يكون موفقاً مسدداً، ولا يكون الخلل في
أمر ما إلا بفقدهما أو فقد أحدهما.
رَابِعاً: كُنْ على
ذُكْر من قصة الثلاثة الذين أواهم المبيت إلى الغار، وحادثة الإفْك، ودعاء حبيبك
طلعة كل صباح: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ. وَمِنْ
الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ». وإِذا كان واقعنا اليوم - وما فيه مِنْ أَنواع الْمِحَنِ
والرزايا - يستدعي إحياء صفة التفاؤل؛ إِلَّا أَنَّ ذلك ينبغي أَلا يكون وَاقِعاً
ملموساً ومُسْتَنِداً إلى سنن الله في خلقه وكونه، لا أَنْ يكون مجرد تخدير
للمشاعر والعواطف أو شعوراً مصحوباً بالقعود، فالتفاؤل والعمل قرينان وصِنْوَان لا
يفترقان، فلا يسمى المرء متفائِلاً إلا إذا بَلَغَ بالأسباب إلى منتهاها وعمل ما
في وسعه، فالمتفائل الحق:
- يستشعر المسؤولية العظمى المنوطة
به تجاه دينه، ويقدر واجبه نحو النهوض بأمته ومداواة عللها وتضميد
جراحها وإصلاح أحوالها، ويعلم أَنَّ الظروف الاستثنائية تحتاج إلى جهود وأساليب
استثنائية يرتقي بها إلى مستوى خطورة المرحلة التي نَمُرُّ بها، فيتكيف مع ظروف
العمل في الشدة، وبدلاً من أَنْ يلعن الظلام يوقد شمعة.
- لا يخلط بين التواضع واحتقار
الذات، فهو يضع في حسبانه أَنَّه هو الرجل الذي سينفع الله
الأمة بمجهوده، أياً كان موقعه وحجمه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
«طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بِعِنَانِ فَرَسه في سبيل اللَّهِ، أشعثَ رأسُهُ، مُغَبَّرةٍ
قَدَمَاهُ، إِنْ كان في الْحِرَاسَةِ كان في الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كان في السَّاقة
كان في السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَع لَمْ يُشفَّعْ»،
والمعنى أَنَّه خامل الذكر لا يقصد حب الظهور، فهو في جِدٍّ واجتهاد سواء اختار هو
العمل أو حُدِّدَ لَهُ.
- يبعث مفهوم الأمة الذي تجتمع به
القلوب، وتشعر بشعور الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، ويحيي
مفهوم الأخوة الإيمانية ولوازمها - بعيداً عن الإقليميات الموهومة -؛ بحيث يرى
التكافل واجباً لم تقم الأمة به بعدُ كما ينبغي؛ فمهما قُدِّم لإخواننا فذلك جزء
من واجب الأخوة، ولا يجوز أَنْ ننظر إليه على أَنَّه تفَضُّل أو مِنَّةُ، وأين نحن
من قوم أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الذين امتدحهم سيد الخلق في قوله: «إنَّ الأشعريِّينَ
إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ - أي نَفِدَ زادهم - وقَلَّ طَعَامُ عِيالهم بالمدينة:
جَمَعُوا ما كان عندهم في ثَوْب واحد، ثم اقْتَسَمُوا بينهم في إناء واحد
بالسَّويَّةِ، فهم مِنِّي وأنا مِنْهُم»، فمدحهم صلى الله عليه وسلم بالإيثار
والمواساة، وأضافهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غايه الْكَرم، فَقَالَ: «هم مِنِّي»،
يَعْنِي بأفعالهم وَإِن لم يَكُونُوا من أَقَاربه، كما قَالَ الشَّاعِر:
فَقُلْتُ:
أَخِي، قَالُوا: أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ!
فَقُلْتُ لَهُمْ: إنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ
نَسِيبِي فِي
رَأْيِي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي
وَإِنْ فَرَّقَتْنَا فِي الْأُصُولِ الْمنَاسِبُ
- لا يتسرع أو يتعجل في تحصيل
النتائج، ويوقن أَنَّه ليس شرطاً أَنْ يتحقق نصر الإسلام على
يديه، فهذا مَرَدّهُ إلى الله، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فَحَسْب،
مُتَأَسِّياً في ذلك بخاتم الرسل ورسول الله للعالمين الذي خاطبه ربه بقوله: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: ٤٨]، والمعنى:
إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ بأَنْ تُبْلِغَهُمْ رسالة الله إليهم، فإذا أديت ما عليك،
فقد وجب أجرك على الله، سواء استجابوا أم أعرضوا.
- يقطع العلائق بالخلائق ويلتجئ إلى
رب الأرض والسماء، ويعتمد عليه وحده، مُوقِناً أَنَّ الله لن
يُخَيِّبُ سَعْيَهُ، ولِلَّهِ دَرُّ الإمام ابن القيم الذي يقول: ومن ظن بربه
أَنَّه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأله، واستعان به وتوكل عليه؛
أَنَّه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله.
ومن ظن به
أَنَّه يسلط أعداءه على أوليائه وحزبه وجنده تسليطاً مستقراً دائماً، بحيث تكون
العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.. زاد
المعاد في هدي خير العباد (3/ 209) بتصرف واختصار.
وأخيراً: علينا ألَّا نيأس، فخَلْف الغيوم نجوم، وتحت الثلوج
مروج، فلا تَظُنَّنَ بربك ظَنَّ سوءِ، فإِنَّ الله أولى بالجميل.
:: مجلة البيان
العدد 322 جمادى الآخرة 1435هـ،
إبريل 2014م.
[1] في ظلال
القرآن (1/ 525).