المقال يوضح أن حرب غزة الممتدة حولت «إسرائيل» من كيان يتغنّى بالردع والحسم إلى دولة مأزومة عسكريًا، سياسيًا واقتصاديًا، غارقة في انقسامات داخلية عميقة تهدد هويتها ووجودها، فيما تبقى غزة صامدة تعيد صياغة معادلة الصراع.
بعد 23 شهرًا من اندلاع الحرب، يظهر المشهد العسكري والسياسي
«الإسرائيلي»
مُثقلًا بالتناقضات والفجوات بين الشعارات والواقع. فـ«إسرائيل»
التي بنت عقيدتها على الحروب الخاطفة والضربات الساحقة؛ تجد نفسها عالقة في حرب
استنزاف طويلة، متعددة الجبهات، لا تملك فيها القدرة على الحسم ولا أُفقًا واضحًا
للنهاية.
الردع الذي طالما اعتبرته ركيزة وجودها بات آيلًا للسقوط؛ فكل عملية اغتيال أو ضربة
عسكرية تُقابَل بقدرة المقاومة على الرد المباشر أو غير المباشر، لتتكرَّس صورة
فقدان الهيبة.
«إسرائيل»
في حالة استنزاف دائم؛ إذ انتقل ميزان القوة من التفوق الساحق إلى قدرة الخصوم على
فرض معادلات جديدة تُقيِّد حرية القرار
«الإسرائيلي».
سياسيًّا، تعيش
«إسرائيل»
أزمة قيادة حقيقية. الانقسام الداخلي ليس على مبدأ استمرار الحرب، بل على من
يقودها؛ حيث تعيش
«إسرائيل»
في عهد نتنياهو لحظة مأزق تاريخي؛ إذ يُظْهِر نفسه كـ«مَلِك
إسرائيل»
المُطلوب في المحاكم الدولية والداخلية، المَلِك المُتحكِّم بمفاصل القرار، في
كيانٍ هشٍّ يقوم على تلفيق التوازنات لا على ثباتها.
الأزمة ليست مجرد إخفاق سياسي أو أمني، بل أزمة قيادة عميقة؛ فالمجتمع
«الإسرائيلي»
لم ينقسم حول الحرب ذاتها، بل حول أهدافها
«استعادة
الأسرى، الهزيمة الساحقة للأعداء»،
وحول تعريفها
«حرب
وجود أم حرب نتنياهو واليمين المُتطرف؟»
وحول تعريف الدولة بعد السابع من أكتوبر؛ دولة تقودها مؤسسات أم دولة الملك نتنياهو
وزوجته سارة؟
هذا الجدل الداخلي يعكس عمق الأزمة التي تعصف بالكيان؛ في قلب هذه الأزمات يقف
بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة يواجه محاكمات فساد وضغوطًا داخلية، فهو مُتَّهَم
بتمديد الحرب لحماية نفسه وائتلافه. قراراته الكبرى، مثل العودة إلى الحرب في مارس
2025م، لم تكن وليدة اعتبارات عسكرية بحتة، بل نتيجة مباشرة لحسابات الكنيست
والميزانية والائتلاف.
المفاوضات مع المقاومة أو مع الوسطاء الإقليميين لم تُستخدَم كبوابة إلى حلّ سياسي،
بل كورقة تكتيكية لكسب الوقت وتخفيف ضغوط إطالة أمد الحرب، ليحتمي من المحاسبة
السياسية والقضائية. مما أفضى إلى تآكل ثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية وبالجيش
ذاته، الذي فقد صورة
«الحصن
المنيع»
أمام خصومه. الصدع لم يَعُد فقط بين اليمين واليسار، بل بين مكونات المشروع
الصهيوني ذاته: صهيونية دينية تريد فرض هيمنتها على هوية الدولة ومؤسساتها، ونُخبة
علمانية-أمنية ترى في ذلك تهديدًا لبقاء
«إسرائيل
الديمقراطية»؛
كما تصف نفسها.
تُضاف إلى ذلك الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية التي تفاقمت بفعل الحرب؛ إذ
يتزايد شعور قطاعات واسعة بأنّ الدولة باتت أسيرة أجندة أيديولوجية ضيّقة يقودها
نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف. ومع كل يوم يمرّ، يبدو أن
«إسرائيل»
لم تَعُد تخوض حربًا ضد عدوّ خارجي فقط، بل ضد تناقضاتها الداخلية المتفجرة، في
مشهدٍ قد يُعيد صياغة مستقبلها السياسي والوجودي على حدّ سواء.
الخطاب
«الإسرائيلي»
الذي كان يتغنَّى بـ«الحسم
والانتصار»
بات يتراجع إلى لغة أكثر تواضعًا وارتباكًا:
«إدارة
التهديد»
و«المعركة
الطويلة»
عبارات تكشف اهتزاز الثقة في قدرة الكيان
«الإسرائيلي»
على استعادة الردع المفقود.
وفي العمق، تتقدم الصهيونية الدينية إلى قلب مؤسسات الجيش والأمن والاقتصاد،
مُحْدِثَة تحوُّلًا بنيويًّا يُغيِّر هوية الدولة المُصطنعة من الداخل، ويقود نحو
انقلاب صامت يُعيد رسم ملامح
«إسرائيل»
بشكل لم تعرفه منذ نشأتها؛ حيث يبقى نتنياهو متمسكًا بالسلطة رغم تحميله مسؤولية
الفشل الأمني والسياسي.
الخطاب السياسي
«الإسرائيلي»
لم يَعُد يتحدّث عن الحسم أو الانتصار كما في بداية الحرب، بل عن
«إدارة
المعركة»
على طريقة المشاريع الناشئة، وهو ما يعكس تآكل الثقة بقدرة الكيان المُخترَع على
استعادة الردع القديم.
الجيش الذي كان رمزًا مقدسًا أصبح مثار جدل وانتقاد واسع. الاستنزاف الطويل،
الخسائر البشرية، وحالة عدم اليقين جعلت المجتمع أقل حماسة للتجنيد وأكثر ميلًا
للهروب من الخدمة؛ حيثُ وجد الجنود أنفسهم مطارَدين مطرودين من ساحات العالم،
تُلاحقهم كاميرات المدنيين، والسؤال: كم طفلًا قتلتَ؟، وتُلاحقهم المحاكم الدولية
باعتبارهم
«جنود
إبادة»
لا
«جنود
دفاع».
هذا التحوُّل في الصورة الخارجية عمَّق الشرخ بين الجيش والدولة؛ إذ بات الجندي
«الإسرائيلي»
يرى نفسه أداة في يد قيادة يمينية متطرفة مرتبكة، أعادت تعريف
«جيش
الدفاع»
إلى
«جيش
الإبادة».
ومع كلّ مشهد ملاحقة أو إدانة دولية، يتَّسع الصدع الداخلي بين المؤسسة العسكرية
والمجتمع، ويضعف الإيمان بدور الجيش كمؤسس للمشروع الصهيوني. أزمة جعلت البنية
السياسية والاجتماعية للكيان مُهدَّدة بالتصدع.
ولأن الشيءُ بالشيء يُذكر، فجَّرت أزمة الإعفاءات من الخدمة العسكرية صراعًا عميقًا
في المجتمع؛ إذ ألغت المحكمة العليا الامتيازات الممنوحة للحريديم، ما أدَّى إلى
انسحاب أحزاب دينية من الائتلاف وتهديد الأغلبية البرلمانية بالانهيار. الاستجابة
كانت هزيلة، فلم يتجاوب سوى أقل من 2% من المطلوبين للتجنيد، ما جعل الجيش في أزمة
قوة بشرية غير مسبوقة. هذه الأزمة لم تكن قانونية فقط، بل كشفت التناقض البنيوي بين
دولة تدّعي أنها
«دولة
يهودية»،
وفي الوقت نفسه تريد توزيع الأعباء بالتساوي بين مكوّنات المجتمع.
فجنود الاحتياط الذين شكَّلوا عصب الحرب الطويلة أبدوا هم أيضًا تململًا غير مسبوق.
بعضهم رفض الاستدعاء علنًا، وآخرون وقَّعوا عرائض تطالب بإنهاء الحرب. القيادة
العسكرية اضطرت إلى فصل ضباط وجنود وقَّعوا على بيانات احتجاجية، لكنَّ هذه
الإجراءات لم تُخْفِ حقيقة أنّ المؤسسة العسكرية نفسها تعاني من الشرخ والإنهاك.
في الشارع، عبَّرت استطلاعات الرأي عن انقسام ممزق: أغلبية تؤيد صفقة تبادل توقف
الحرب مقابل الأسرى، وأغلبية أخرى تؤيد التهجير القسري لغزة. هذا التناقض يعكس حالة
مجتمع مأزوم بين نزعة فاشية متطرفة ورغبة براغماتية في إنهاء حرب استنزاف بلا أفق.
بالنظر إلى قُدرات الجيش
«الإسرائيلي»
وتعريفه على أنه الأقوى في المنطقة، كشفت الحرب المُستمرة منذ 22 شهرًا عدم قُدرته
على خوض حربٍ متماسكة دون غطاء أمريكي كامل، لا في الميدان ولا في السياسة.
فالمواجهة مع إيران في صيف 2025م مثَّلت اختبارًا آخر لأسطورة
«الذراع
الطويلة»؛
إذ لم تستطع
«إسرائيل»
أن تُنْهِي التهديد ولا أن تفرض إرادتها، بل عمّقت صورة الاستنزاف.
ومع تراكم الإخفاقات في غزة؛ لجأت حكومة نتنياهو إلى خيارات متخبّطة؛ من تبنّي خطاب
التهجير القسري استنادًا إلى مقترح ترامب، إلى دعم مليشيات محلية مثل
«أبو
شباب»
في محاولة لخلق بدائل داخل غزة.
غير أن هذه السياسات لم تعكس سوى ارتباك إستراتيجي، بل وصفها خصوم نتنياهو في
الداخل بالفضيحة الأمنية، والدليل على غياب رؤية حقيقية لليوم التالي. هكذا وجد
الجيش نفسه غارقًا في حرب بلا نهاية ولا أهداف قابلة للتحقق، فيما غابت صورة الحسم
وحلَّت مكانها صورة الفشل والعجز.
حتى بدت مقولة الجيش التقليدية عن
«الاعتماد
على الذات»
مجرد وَهْم يتهاوى مع أول مواجهة تتجاوز خمسة دقائق من دون تدخل واشنطن. وهكذا،
تحوَّل الجيش من رمز قوة إلى عبء سياسي وأخلاقي، يجرّ خلفه دولة احتلال مأزومة تقف
على حافة إعادة تعريف ذاتها. هذا التحوُّل البنيوي أفقَد المؤسسة العسكرية مكانتها
الرمزية، وأضعف الرابط بين الجيش والمجتمع المُلفَّق.
في الوقت ذاته، لم تَعُد
«إسرائيل»
قادرة على إقناع الغرب بأنها
«ديمقراطية
ليبرالية»
أمام مشاهد حرب الإبادة ووسط سياسات بوليسية قمعية وتسليح واسع للمدنيين، ما
يُعزِّز مناخ التوحش الداخلي ويُقوّض الصورة التي بَنَتها عن نفسها لعقود.
الاقتصاد يعكس بدوره عمق الأزمة العسكرية والسياسية. الإنفاق العسكري بلغ مستويات
استنزافية غير مسبوقة عالميًّا، فيما انهارت قطاعات السياحة والتكنولوجيا الفائقة،
وتراجعت الاستثمارات الأجنبية. التصنيف الائتماني في أدنى مستوياته، والديون تتضخم
في ظل حرب مفتوحة لا نهاية منظورة لها. هذه المؤشرات تُجمِع على أن الكلفة
الاقتصادية للحرب لا تُقاس بالميزانيات الدفاعية وحدها، بل بما تُخلِّفه من انكماش
في التدفقات، وتآكل في الثقة، وتحوُّل بنيوي في أولويات الدولة. ومع اقتصاد
مُستنزَف، تحت ضغط طويل الأمد، يزيد من هشاشة القرار السياسي وتتعمَّق لدى المجتمع
قناعة بانسداد الأفق ما دامت الحرب
«المفتوحة»
بلا مخرج واضح في ظلّ انعدام أُفق الحل.
في المحصّلة؛ تبدو
«إسرائيل»
بعد عامين من حربها على غزة أكثر هشاشة من أيّ وقتٍ مضى. فقدان الردع العسكري كشف
حدود القوة، والانقسام الداخلي عرَّى هشاشة البنية الاجتماعية والسياسية، فيما
الاقتصاد يترنَّح تحت كُلْفة حرب تجاوزت مئات المليارات، والشرعية الدولية تتهاوى
أمام مشهد الإبادة.
لتكشف الحرب الممتدة أن
«إسرائيل»
لم تَعُد تقف فوق أرض صلبة كما صوّرت نفسها لعقود. فالأزمة لم تَعُد محصورة في
ميدان عسكري يتآكل رَدْعه، ولا في مشهد سياسي يتنازع على القيادة، بل تحوَّلت إلى
أزمة هوية ووجود تتغلغل في عمق المجتمع والاقتصاد والمؤسسات.
«إسرائيل»
اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن تستمر في إدارة حرب مفتوحة تُستنزف فيها قدراتها
وتتفكك بنيتها الداخلية، أو أن تعترف بأن زمن الهيمنة المطلق قد انتهى، وأن واقعًا
جديدًا يفرض معادلات مغايرة لميزان القوى الذي تأسَّس عليه الكيان منذ نشأته.
وهكذا، تصبح الأزمة الراهنة أكثر من حدث عابر؛ إنها لحظة انعطاف تاريخي قد تُحدّد
مصير المشروع الصهيوني.
أما غزة، فبقيت حيّة رغم الإبادة والدمار وأطنان المُتفجّرات، تُعيد صياغة معادلة
الصراع، وتؤكد أن الاحتلال مهما اشتد بطشه يبقى محكومًا بالهشاشة من الداخل، وأن
الشعوب إذا ما امتلكت إرادة البقاء فإنها قادرة على إعادة كتابة المعادلات الكبرى
في التاريخ.