العمل بدون نية هباء، ومع الرياء سبب لهلاك لصاحبه وحرمانه من الأجر، فيجب على المتعلمين والمعلمين تحقيق النية الصالحة؛ المُعلِّم ينوي نفع غيره بالتبليغ ابتغاء وجه الله، والمتعلم ينوي التعلم ورفع الجهل عن نفسه ابتغاء مرضاة الله
العِلْم الشرعي من أهمّ الدُّرَر التي ينبغي لطلاب العِلْم الحرص على تحصيلها، فالعِلْم نور في الظلمات، وهداية من الضلالات، وتقويم للاعوجاج، ونجاة من الفتنة والأزمات.
ولقد أشاد الله بمكانة العِلْم، ورفَع مكانة أهله؛ فقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: ١١]، وجعل فرقًا واسعًا بين أهل العلم ومن سواهم؛ فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩].
ولم يأمر بالدعاء بالمزيد من شيء إلا العِلْم؛ فقال -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم سببًا لتسهيل دخول الجنة؛ فقال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ، وَيَتَدارَسُونَهُ بيْنَهُمْ؛ إِلّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ»[1].
لذلك ينبغي الحرص على نَشْر العلم النافع بين الناس، وتبليغه في بقاع الأرض؛ فتبليغ العِلْم من أهمّ المهمات ومن أفضل الطاعات؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[2].
ولأجل هذا الأجر العظيم والفضل الكبير للتبليغ؛ ورد في الشرع الحثّ على إبلاغ العلم؛ فقال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة: 122]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بَلِّغُوا عني ولو آية»[3].
ولأهمية تبليغ العلم ودعوة الناس؛ جَعَل الله الدعوة إلى الإسلام من أفضل الكلمات وأرقى الأعمال؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣].
ويؤكد ابن القيم على الأهمية العظيمة للتبليغ فيقول: «تبليغ سُنَّته إلى الأُمَّة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدوّ؛ لأن تبليغ السهام يَفعله كثيرٌ من الناس، أما تبليغ السُّنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أُمَمهم. جعلنا الله تعالى منهم بمَنّه وكرمه»[4].
وتبليغ الناس العلم النافع إعانة الناس على الطاعة وأداء العبادات وفقًا للمنهج الصحيح وتجنبًا للبدع والمخالفات، وتخلصًا من المشكلات، فلا تنشأ المشكلات إلا بالانحراف عن الشرع علمًا وعملاً، لكن كيف يكون هذا البلاغ؟
البلاغ بحاجة لفِقْه ومنهجية صحيحة، ليكون أداة بناء لا مِعْول هدم، فالحكمة في التبليغ تُجَنِّب العثار وتَحْفظ من الزلل، وتَقِي المتعلمين الفهم الخاطئ للنصوص والتصوُّر المِعْوَج للمسائل.
لذلك جاء هذا المقال لطلاب العلم والدعاة والعلماء؛ ليقفوا على الفقه الصحيح في بلاغ العلم الشرعي؛ لتُؤتِي جهودهم أُكُلها، ويحمدوا صُنْع ما فعلوا.
أولًا: النية الصالحة في التلقي والتبليغ
العمل بدون نية هباء، ومع الرياء سبب لهلاك لصاحبه وحرمانه من الأجر، فيجب على المتعلمين والمعلمين تحقيق النية الصالحة؛ المُعلِّم ينوي نفع غيره بالتبليغ ابتغاء وجه الله، والمتعلم ينوي التعلم ورفع الجهل عن نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وهذا أصل الأصول؛ فالإخلاص سبيل النجاة، والسير في التعلم والتعليم بدون إخلاص سببٌ للفساد في العمل والعِلْم ومحق للبركة.
ثانيًا: معرفة حال المتعلّم
ينبغي للمُعلِّم أن يعرف حال الطالب ومستواه في التعلُّم والفهم؛ حتى يعرف ماذا يحتاج من أصول العلم، ويعرف كيف يُوصِّل له المعلومة، فالطلاب يَختلفون في المستويات والمَدارك، فينبغي أن تُخاطَب كلّ فئة وفقًا لمستواها، فلا يُعلّم المبتدئ مسائل المتقدمين، ولا يُعلّم المنتهي مسائل المبتدئين، فلكلّ مقام مقال.
وعدم مراعاة ذلك الأمر يَجُرّ على الطلاب خطأً كبيرًا، ويُوقِعهم في مشكلات كبيرة، فتلقين المبتدئين ما لا يصلح لهم قد يُجرِّؤهم على إطلاق أحكام الكفر والفسق والبدع على الناس، دون أن يكون لديهم آليات ذلك من العلوم التي تُؤهِّلهم لهذا الأمر العظيم.
ثالثًا: لا يتصدَّر للتعليم إلا لمن لديه عِلْم
منصات التواصل الحديث جعلت للجميع القدرة على التحدُّث في أمور الدين والتصدي للنصح والتعليم، وهذا خطر عظيم، مما فتح الباب على مصرعيه للقول على الله بلا علم، وإضلال الناس وإفتائهم بالشاذ من المسائل والضعيف من الأقوال.
فيجب ألّا يتحدّث في دين الله ولا يتصدر لتعليم الناس إلا مَن لديه عِلْم، ولو كان علمًا قليلاً. والمسألة التي لا يُحسنها المرء عليه أن يتجنَّب الخوض فيها؛ فالتحدُّث في دين الله وتعليم الناس دون تعلُّم مظنة للوقوع في إثم القول على الله بغير علم، ولقد حذَّر الله من ذلك؛ فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣]؛ فلِعِظَم القول على الله بلا علم قرَنه بالشرك بالله.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: ١١٦]؛ فتحريم الحلال كتحليل الحرام كلاهما مِن القول على الله بلا علم، فلْيحذر المسلم ذلك السبيل الخطر.
رابعًا: التركيز على ما يَنفع المتعلّم لا المعلم
مِن الخلل أن يُلقي المُعلِّم العِلْم على بعض طلابه، لا لينفعهم، وإنما لينتفع هو بمذاكرة ما يُعلِّم، وقراءة ما لا ينشط لقراءته بمفرده، مع أن أكثر تلك المسائل تفوق أفهام طلابه وعقولهم، وهذا وإن كان فيه نفع للمعلم، إلا أنه خلاف للنُّصح للمسلم المأمور به شرعًا.
فالنصح للمتعلم يقتضي أن يُلقِّنه ما هو بحاجة إليه، ويقوى على فهمه واستيعابه، وقيام المُعلِّم -خلاف ذلك- بتعليمه ما هو فوق فَهْمه وعقله مُضِرّ بالطالب ويَحْمله على النفور من التعلم والعلم.
وفي هذا نوع من الغش للطالب، والشرع نهى عن الإضرار بالمسلم، فإن أراد المعلم مُدارَسَة العلم الذي لديه، فلْيطلب لذلك طلابًا يستوعبون ما لديه من علوم، ولْيضف لنية المذاكرة نية التعليم، فيزداد بذلك خيرًا على خير.
خامسًا: الحرص على تقريب العلم لأفهام طلابه
ينبغي لكلّ مُعلِّم تعلُّم فنّ تقريب العلوم وتبسيط المسائل، وهذا الفنّ من أهم فنون التعليم، ومن أهمّ ما يُشجّع الطلاب على الأُنس بالعلم والترقّي في مداركه.
ومما يُعين على تقريب العِلْم: تصوُّر المعلّم للمسائل وإتقانها جيدًا قبل شرحها، ومذاكرتها مع نفسه مرارًا، وضرب الأمثلة كثيرًا، وتوضيح الغامض من الكلمات، فينبغي للمعلم كتابة درسه، ثم قراءته ليراه واضحًا قبل بثّه أم لا.
وبعد قيامه بإلقاء الدرس، يحرص على اختبار فَهْمهم، وذلك عَبْر سؤالهم عدة أسئلة؛ حتى يَعرف مدى صحة تصوُّرهم للمسائل، فمن أكبر الخلل الذي يكون لدى الطلاب التصوُّر الخاطئ للمسائل، فليحذر المعلم أن يكون سببًا في ذلك.
سادسًا: حُسن سياسة الطلاب
وهذا باب مُهِمّ لكلّ مَن تصدَّى لتعليم الناس؛ فينبغي للمعلم معرفة فنّ سياسة الطلاب، فيعرف متى ينشطون فيُقبِل عليهم، ومتى يُعْرِضُون عن التلقي، فيَكُفّ عن التلقين، ولا ينبغي أن يقيسهم على نفسه، فقد تكون لديه همة في الثريا وهِمَم طلابه في الثرى.
ولْيتعلم السبل التي تُجدِّد نشاطهم، وتُشجّعهم على الطلب والترقي في العلم، ولْينصحهم بما يدفع عن نفوسهم السأم والملل، وليعلمهم سبل الترفيه المباحة، حتى يستعينوا بالراحة والترفيه على مواصلة الطلب.
سابعًا: التوسط بين تحصيل العلم والتصدر لتعليمه
وردت نصوص عن السلف في التحذير من التصدُّر قبل التأهل، وهذه النصوص ينبغي أن تُفهَم على وجهها الصحيح بدون مبالغة، فينبغي أن يَفْهَم طالب العلم هذه المسألة جيدًا، فليحذر من أن يمكث في طلب العلم سنوات من غير أن ينفع الناس ولو بخطبة أو درس أو منشور على منصات التواصل؛ حذرًا من التصدر قبل التأهل، وقد يكون تعليم الناس سببًا لطلب العلم، فيحمله على البحث ومراجعة المسائل ومذاكرتها.
فإذا كان لديه عِلْم يثق بتعلمه له، فلا يتكاسل عن بثّه ونَشْره، ولكن باعتدال، فليعرف قَدْر نفسه، فلا يتصدّر للمسائل التي لا يُتقنها، ولا يغترّ بنفسه فيُقْحِم نفسه مكان العلماء الراسخين، فلا يتصدَّى للمسائل الكبار التي كان يجمع الفاروق لها أهل بدر.
ومع ذلك فلا ينغمس في الدعوة والتعليم حتى يمنعه ذلك من التعلم والسير في دروب التلقّي والمُضيّ في سبل تعلُّم العلم، فالنجاح في العلم لا يكون إلا لمن أعطى العلم كثيرًا من وقته مذاكرةً وبحثًا.
ثامنًا: اغتنام منصات التواصل في الدعوة والتعليم
منصات التواصل الحديثة، -مثل: الواتساب والفيسبوك ومنصة إكس، واليوتيوب...-، من الغنائم الباردة في الدعوة والتعليم، استخدامها سهل وميسور، ووسيلة تصل للملايين، فصوت الداعية يصل لبقاع الأرض وهو في بيته.
لكن ينبغي الحذر في استخدام تلك الوسائل[5]، فالداعية عندما يتحدَّث لا يدري بجميع مَن يستمع له، فمستوياتهم وأفهامهم وعقولهم وثقافاتهم مختلفة، فينبغي أن يكون حديثه واضحًا ومحددًا دون لَبْس ولا غموض.
ولا يقول كلمة تحتمل معنيين، فليكن الخطاب واضحًا كالشمس يفهمه القاصي والداني والذكي والبليد، وليبعد عن المسائل المشكلة التي لا يفهمها جميع الناس، حتى لا تكون فتنة لبعض الناس.
وإذا أراد الحديث في قضايا محددة لا يستوعبها كلّ أحد فليكن ذلك الحديث في قنوات مغلقة، لا تصل إلا لمن يعرف مستواه في العلم والفهم.
في الختام، إنّ بثّ العِلْم النافع من أعظم الأعمال وأشرف المقامات، وهو وسيلة نجاح وسبيل للنهضة والترقي بالأُمَّة، فينبغي أن نعتني به وفقًا للحكمة وأُسس المنهج الإسلامي كما ذكرنا.
وفَّقنا الله واياكم لمرضاته.
[1] صحيح مسلم (٢٦٩٩).
[2] صحيح مسلم (٢٦٧٤).
[3] صحيح البخاري (٣٤٦١).
[4] أحكام أهل الذمة، طبعة عطاءات العلم، ٢/٣٥٥.
[5] ذكرتُ في مقال (حتى تكون منصات وتطبيقات التواصل وسائل دعوية ناجحة) عددًا من الضوابط المهمة؛ فليراجعها مَن شاء في العدد رقم 448 من مجلة البيان الغراء.