بالإضافة إلى ما سبق، فإن إيران تحتفظ بخبرات واسعة تُمكّنها من إعادة بناء جوانب البرنامج التي تضررت، فالبرنامج النووي الإيراني قائم منذ عقود، ويعتمد على خبرة محلية إيرانية كبيرة
بعد مسيرة خداع ومواجهة استمرت لعقودٍ بين الدولة العبرية وإيران، نجح أخيرًا رئيس
الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بإقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقصف
المنشآت النووية الإيرانية، ورغم عدم وضوح نتائج الضربة واكتفاء الإعلام العالمي
بالاعتماد على التصريحات الأمريكية والصهيونية كشواهد على نجاح الضربة الأمريكية؛
إلا أن هناك مَن قلَّل مِن حجم الضرر، واعتبر الأمر جزءًا من المعركة الإعلامية
لترامب وبنيامين نتنياهو.
فصحيفة الغارديان اللندنية نقلت عن منظمة الطاقة الذرية الإيرانية تأكيدها وقوع
هجمات، لكنّها نَفَت فاعليتها في إيقاف البرنامج النووي الإيراني.
كما أشارت جمعية الهلال الأحمر الإيراني إلى عدم وجود وفيات خلال عملية القصف،
الأمر الذي أكَّد إخلاء المنشآت قبل الغارات الأمريكية؛ وفقًا لما ترمي إليه
الصحيفة البريطانية.
وتقول وزارة الدفاع الأمريكية: «إن تقييم الأضرار نتيجة الضربة لم يُحْسَم بعدُ».
وبحسب إفادتها فإن الضربة استهدفت بشكل رئيسي منشآت تخصيب اليورانيوم في فوردو، وهي
الأصعب من بين المواقع الإيرانية؛ لكونها مدفونة تحت جبال زاغروس، وبحسب الروايات
المختلفة فإنها مدفونة أسفل طبقات صخرية بعمقٍ يتراوح بين 45 و90 مترًا، معظمها من
الحجر الجيري والدولوميت.
وتكمل الصحيفة بأن بعض الخبراء لديهم رأي علمي يؤكد أن طبقات الصخور الرسوبية من
شأنها أن تُوفّر نوعًا من الحماية الجيولوجية ضد الانفجارات، وتجعل من الصعب تضرُّر
أجهزة الطرد المركزي.
وقد نفَّذت واشنطن الهجوم الذي أطلقت عليه «مطرقة منتصف الليل»، بواسطة سبع قاذفات
شبحية من طراز «بي2»، انطلقت من الولايات المتحدة عبر المحيط الهادي، بالتزامن مع
موجة صواريخ توماهوك أطلقتها غواصة أمريكية وسفن راسية في المحيط جنوب إيران.
تقول الرواية الأمريكية: إن القنابل المستخدَمة لديها القدرة على اختراق تحصينات
خرسانية قادرة على مقاومة ضغط يصل إلى 5000 رطل. لكنّ الخبراء الذين اعتمدت عليهم
الغارديان يشيرون إلى أن إيران ربما استخدمت طبقات أكبر مقاومة. تنقل صحيفة نيويورك
تايمز عن مسؤولين صهيونيين قولهما بأن الأضرار جسيمة، لكن موقع فوردو لم يُدمَّر
بالكامل. من جانبه قال رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي: «فيما
يتعلق بتقييم مدى الضرر تحت الأرض، لا يمكننا الجزم بذلك. لا نحن ولا أيّ شخص آخر
يستطيع تحديد حجم الضرر».
تقول إيران: إنها أخلت المنشآت النووية قبل الضربة الأمريكية بعدة أيام، وقال حسن
عابديني نائب رئيس الشؤون السياسية في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية: «إن
إيران أخلت المواقع الثلاثة -نطنز وأصفهان وفوردو- منذ بعض الوقت». وقال: إن
«احتياطيات اليورانيوم المخصب تم نقلها من المراكز النووية، ولم يتبقَّ فيها أيّ
مواد من شأنها أن تُسبِّب الإشعاع أو تَضُرّ بمواطنينا؛ في حال تم استهدافها».
وزعم رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي هذا الشهر أن إيران تمتلك
موقعًا آخر للتخصيب «في مكان آمِن ومنيع» يمكن أن يضم أجهزة الطرد المركزي.
تعقيبًا على العملية الأمريكية يقول ماثيو سافيل مدير العلوم العسكرية في المعهد
الملكي البريطاني: إن نجاح الهجوم الأمريكي ليس واضحًا، فلا يوجد الكثير من المشاهد
والصور التي تؤكد تضرُّر أجهزة الطرد المركزي، لذلك ستعتمد كلّ من واشنطن وتل أبيب
على المعلومات الاستخباراتية من داخل النظام الإيراني.
بدَوْرها تشير داريا دولزيكوفا -وهي باحثة في نفس المعهد-، إلى أن العمل العسكري
وحده لا يكفي لتأكيد إحباط مشروع إيران النووي، فمن شِبْه المؤكد أن تكون إيران قد
غيَّرت مكان تخزين مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب، كما أنه من غير الواضح ما
هي المنشآت السرية المُحتملة داخل إيران التي قد تُستخدَم لاستكمال مشروعها النووي.
فالحديث هنا يدور عن منشأة في عمق جبل «كولانغ غاز لا» بعيدة عن نطنز ويقال: إنها
أعمق من منشأة فوردو.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن إيران تحتفظ بخبرات واسعة تُمكّنها من إعادة بناء جوانب
البرنامج التي تضررت، فالبرنامج النووي الإيراني قائم منذ عقود، ويعتمد على خبرة
محلية إيرانية كبيرة.
أما من الناحية السياسية، فلطالما كانت طهران تسعى لتتويج توسُّعها في المنطقة بقوة
ردع نووية للحد من أيّ هجمات أمريكية أو صهيونية تستهدفها في سياق منافستها الشديدة
في المنطقة، وربما الهجمات الأمريكية المباشرة الأخيرة تزيد من دافعية إيران للحصول
على الردع النووي باعتباره الخيار الوحيد الذي يمكن الرهان عليه لمواجهة القوة
الأمريكية، وربما ذلك يُفسِّر ضعف ردة الفعل الإيرانية وعدم فتح مواجهة شاملة في
المنطقة ردًّا على الهجوم الأمريكي في سياق استكمالها لسياسة الصمت الإستراتيجي،
وترك واشنطن وتل أبيب تحتفيان بالإنجاز الإعلامي الكبير من ضرب منشآت نووية مهجورة.
يؤكد معهد الأمن القومي الصهيوني للدراسات أن الرئيس ترامب كان يهدف من الضربات إلى
إنهاء الحملة العسكرية بسرعة، وتتويجها باتفاق دبلوماسي يُلزم إيران بقبول صفقة
شاملة تشمل وقف التخصيب وتفكيك برنامجها النووي. وهذا الرأي يؤكده إلداد شافيت،
رئيس برنامج الأبحاث الأمريكي في المعهد، ويشير إلى أن واشنطن غير مستعدة لمواجهة
شاملة في المنطقة، ولن تهاجم إيران مرة أخرى، إلا في حال قيامها باستهداف القواعد
الأمريكية في الخليج، وهذا الرأي يرجّح استمرار الصدام بين إيران والدولة العبرية
بوتيرتها المعتادة.
من جانبه، يقول داني سيتروينوفيتش، وهو باحث أول في برنامج أبحاث «إيران والمحور
الشيعي»: «من المهم أن نتذكر أن إيران كان لديها وقت كافٍ للاستعداد للضربة
الأمريكية، لذلك يجب الأخذ بالاعتبار أنها على الأرجح أخلت بعض أجهزة الطرد المركزي
والمواد المخصَّبَة من أصفهان، ولا تزال تحتفظ ببعض القدرات النووية حتى بعد هذه
الضربة.
فإيران في سياق احتياجها العسكري للردع في المنطقة، وعقب خسارتها لأبرز حلفائها في
المنطقة، مثل حزب الله، والنظام السوري السابق، وكذلك ضعف ميليشياتها في العراق؛
سوف تسعى بكل ثِقَلها للحفاظ على النظام القائم الذي يُعدّ أحد أهداف الحرب التي
أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك في سياق منافستها التقليدية في المنطقة
مع الدولة العبرية وتركيا.
وبعد انتهاء الحدّ السياسي لطموحات بنيامين نتنياهو المُحرّك الفعلي للهجوم على
إيران؛ تبقى طهران صانع القرار الفِعْلي في المرحلة المقبلة، فهي أمام خيارين:
أوّلهما:
الحفاظ على صمتها الإستراتيجي، وتجنُّب توسيع دائرة الهجوم، والاكتفاء بمهاجمة
الدولة العبرية بالصواريخ الباليستية، وهي ذات نتائج اقتصادية وأمنية فعَّالة على
المدى الطويل، ونتائجها بالنسبة لواشنطن مقبولة.
والآخر:
توسيع دائرة الحرب، واستهداف القواعد الأمريكية، وإغلاق مضيف هرمز، وهي بذلك تزيد
من الأعداء في محيطها، وخصوصًا دول مجلس التعاون الخليجي التي ستكون أكثر المتضررين
في هذه المعركة، بعد أن قطعت طهران شوطًا كبيرًا في تحسين علاقتها معها في الفترة
الأخيرة.
وبذلك تخطو طهران خطوة نحو تحفيز واشنطن على دعم حملة عسكرية لتغيير النظام في
طهران، وهي بذلك تُعطي دفعة لرضا بهلوي -الذي يعمل مع الدولة العبرية من خلف
الكواليس-، لإقناع أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بشنّ حملة لتغيير النظام في طهران،
لكن يبقى السؤال المطروح هو: هل لواشنطن مصلحة في إضعاف النفوذ الإيراني الشيعي
لصالح نفوذ أكبر لتركيا السُّنية في المنطقة؟