• - الموافق2025/06/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كيف ارتمت الشعوب  في غـرام العربية؟

إنَّ العربية قد أثَّرت تأثيرًا قويًّا، وبعيد المدى في اللغات الأخرى التي عاصرت نزول القرآن، وكان هذا التأثير بالإحياء والاستمرار، كما حدث للغات: التركية والفارسية والسواحلية، أوْ بالإفناء والإبادة كما حدث في اللغات: القبطية والسريانية والعبرية


عاشت اللغة العربية عصرًا كانت فيه لغة الحضارة، بينما كانت اللغات الأخرى -لا سيما الأوروبية في وضع متخلِّف جدًّا-، تتلقَّى فيه عن العربية ثروتها العلمية واللفظية، وبعبارة موجزة: ثروتها الحضارية، فقد كانت «العربيــة» هي اللغة الحضارية الأولى في العالَم.

 وعن هذه الحقبة؛ يتحدث «بيير جييرو» في كتابه (الكلمات الأجنبية Les Mots Etrangers) قائلًا: «منذ النصف الأول من القرن السابع الميلادي، مدَّ الخلفاءُ العربُ سلطانهم إلى مصر وسورية وفارس، وفي القرن الثاني بسط الأمويون نفوذهم شرقًا حتى الهند، وغربًا حتى المغرب وإسبانيا، وكذلك استقر العرب في سيشل، وبقوا فيها إلى القرن الحادي عشر. فالإسلام لم يكن القوة السياسية والعسكرية الكبرى في العصر الوسيط فحسب، بلْ كان أيضًا المصدر الثقافي.

 لقد امتدَّ تأثير الإسلام في عهد «هارون الرشيد» منذ (القرن الثاني الهجري- الثامن الميلادي)؛ ليصبح مصدرًا للازدهار الأدبي والعلمي والتقني، حتى أصبح أعظم الأسماء في ميادين الأدب والفلسفة والعلم عربًا مسلمين؛ مثل ابن سينا، وابن رشد، والخوارزمي، والخيَّام، والبتّاني. والكيميائيين مثل خالد بن يزيد، وجابر بن حيان، والرازي. وأصبح العربُ أصل العلم الحديث، وبخاصة في علوم الطب والكيمياء والرياضيات والفلَك، وكانوا هم همزة الوصل مع الشرق، بوساطة فارس والروم. وكانوا نَقَلة علوم الملاحة والتجارة إلى الغرب. كما أنَّ ثقافتهم الخاصة قد قدَّمت موضوعات ونُظُمًا في مجال الفن العسكري، والعمارة والنسيج... وهذه التأثيرات بارزة فيما نجد في لغاتنا من ألفاظ مقترَضة».

 كما تشهد المستشرِقة الألمانية «زيجريد هونكه» في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب)[[1]] بأنَّ تأثير العربية قد امتدَّ إلى الألمانية، وقد ملأت كتابها بالكلمات التي ترى أنها عربية الأصل في اللغة الألمانية، وقد خصَّصتْ ملحقًا في الكتاب ضمَّ أكثر من مائتين وخمسين كلمة.

 ولم تكن «الإنجليزية» بعيدة عن أن ينالها التأثير العربي، ففيها قدر كبير من الكلمات ذات الأصول العربية على نحو ما قرَّره العلَّامة دوزي في كتابه (قائمة بالكلمات الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية).

 أثر العربية في اللغات الشرقية

 أمَّا الكلمات العربية في اللغات الشرقية (الفارسية والتركية والأوردية والمالاوية والسنغالية) فأكثر من أن تُحصَى، فقد الْتقت العربية بالفارسية والسريانية والقبطية والبربرية، وكان عندها أسباب القوة، فهي لغة القرآن، وتتميز ببناء مُحكَم، وتملك مادة غزيرة.

لقد حملت رسالةَ الإسلام؛ فغنيَت بألفاظ كثيرة جديدة للتعبير عمَّا جاء به الإسلام من مفاهيم وأفكار ونُظُم وقواعد سلوك، وأصبحت لغة الدِّين والثقافة والحضارة والحُكْم في آنٍ واحدٍ.

 فالعربيــة غزت اللغات الأخرى، فأدخلَت إليها حروف الكتابة، وكثيرًا من الألفاظ، وكان تأثيرها في اللغات الأخرى عن طريق الأصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب.

وأدَّى احتكاك العربية باللغات الأخرى إلى انقراض بعضها، وحلول العربية محلها كما حصل في العراق والشام ومصر، وإلى انزواء بعضها كالبربرية، وانحسار بعضها الآخَر كالفارسية.

 بلْ أصبحت لغات الترك والفرس والملايو والأوردو تُكتَب جميعها بالحروف العربية، وكان للعربية الحظ الأوفر في الانبثاث في اللهجات الصومالية والزنجبارية؛ لرجوع الصلة بين شرق إفريقيا وجزيرة العرب إلى أقدم عصور التاريخ.

 وحول هذا المعنى، يقول سليمان البستاني: إن «العربية» أطول اللغات الحية عمرًا، وأقدمها عهدًا، والفضل في ذلك راجع إلى القرآن الكريم، فالإلياذة وبلاغتها وسائر منظومات هوميروس، وهسيورس على علوّ منزلتهما، لم تُقِم للغة اليونانية دعامةً ثابتةً حتى في بلادها، ولمْ تقوَ على مقاومة التيار الطبيعي، ولكنَّ القرآن وحَّد لغة قريش في بلادهم، وأذاعها في جميع البلدان العربية، وفي سائر البلاد، أو حيث كثرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار الأرض للجهاد والتجارة. ولا الماهابهارتا السنسكريتية، ولا كتاب تاو للأوتسة، ولا كتاب كونفوشيوس في اللغة الصينية، ولا التوراة ولا الأناجيل، قامت اللغات التي كتبت بها مقام القرآن للغة العربية.

 فلولا «القرآن الكريم» لكان العرب اليوم يتخذون لهجاتهم وسائل إلى التعبير عن وجدانهم وأفكارهم ومجتمعاتهم، ولأصبحت أُمّتنا العربية شعوبًا تتكلم لغات مستقلة كالألمانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية.

 ثمَّ إنَّ العربية قد أثَّرت تأثيرًا قويًّا، وبعيد المدى في اللغات الأخرى التي عاصرت نزول القرآن، وكان هذا التأثير بالإحياء والاستمرار، كما حدث للغات: التركية والفارسية والسواحلية، أوْ بالإفناء والإبادة كما حدث في اللغات: القبطية والسريانية والعبرية، أوْ بدخول مئات من الكلمات إليها، كما حدث للغات الغربية: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وفي بحث للبروفيسور (إبيان) أحد أعلام الاستشراق، قال: «إن مجموع ألفاظ اللغة الأرمنية عشرون ألف كلمة، يوجد بينها (1500) كلمة عربية، تُستخدم في تلك اللغة».

 عِشْق لغــة القــرآن

 لقد حفلت لغات الشعوب الإسلامية (الفارسية، والتركية، والأردية، وغيرها) بحظٍّ وافر من الألفاظ العربية؛ مِمَّا دعا الدكتور حسين مجيب المصري[2] إلى القول: «إنَّ من نصوص تلك اللغات ما لا وجود فيها منها إلَّا الرابطة أوْ الفعل، بينما سائر الألفاظ مستعارة من لغة العرب». فقد نظر أبناءُ هذه الشعوب عقب الفتوحات الإسلامية إلى العربية نظرة إجلال وتقديس؛ لأنها اللغة الشريفة التي نزل بها القرآن الكريم، والتي حملت عوامل القوة والبقاء والحيوية دون سائر لغات العالم، فتعلّقوا بها، وأبدعوا بها روائعهم، وفضّلوها على لغاتهم المحلية.

 أجل، فاللغة -أيّ لغة- إنما تتأثر بحضارة الأمة التي تنتسب إليها، وبتقاليدها وأعرافها المتوارثة، وعقائدها ونوعية ثقافتها، وكذلك بيئتها الجغرافية، وكل تطوُّر يلحق بناحية من هذه النواحي؛ لا بدَّ أن تتردَّد أصداؤه في اللغة؛ ولذلك تُعدّ اللُّغات أصدق سِجِلّ لتاريخ الشعوب، فمن خلال الأطوار التي تجتازها اللغة يمكن الوقوف على المراحل التي مرَّ بها أهلها على امتداد تاريخهم، وهذا ما يلزم أن تدخل اللغة مفردات جديدة عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس، وهو ما حدث في اللغات: الفارسية والتركية والأردية والهوسا والسواحلية والبنغالية.

 ثم إنَّ طبيعة أهل اللغة -أيّ لغة- والتي جُبِلوا عليها، تتجلَّى في أسلوبهم، وطريقة تفكيرهم، وهذا يُذكّرنا بما قيل مِن طبيعة الشعوب وأساليبهم في التفكير، التي تتباين في وضوح؛ فمِمَّا يُقال: إنَّ الشعوب السامية كالعرب -على سبيل المثال- يَصفون ما يقع تحت أعينهم، كما هو بحذافيره، فلا يكادون يُضيفون إليه شيئًا بخيالهم، في تعبيرهم عنه إلاَّ إذا كانوا شعراء! لكنَّ الشأن يختلف عند الآريين كالفُرس، فهم شغوفون بالتمثيل والتّخيُّل، في شِعرهم وكلامهم.

 نصف اللغة الفارسية أصلها عربي!

 وقد احتوت (اللغـة الفارسيــة) على كثير من الألفاظ العربية، فقد أحصى أحد الباحثين عدد المفردات العربية في بعض نصوص التراث الفارسي؛ فقال: «إن في الصفحة الأولى من تاريخ البيهقي، استخدم الكاتب مائة وخمسًا من الكلمات العربية، من مائتين وستة وخمسين كلمة فارسية!».

 ويرى الدكتور «محمد نور عبد المنعم» أنَّ مؤلف كتاب «قابوس نامه» أورد ثماني عشرة كلمة عربية من مائة وعشرين كلمة فارسية. بلْ إنَّ منهم مَن أحصى اثنتين وأربعين كلمة عربية في نصّ واحد، في إحدى خُطب شاه إيران من مائة وعشرين كلمة فارسية»[[3]].

 ويؤكد الدكتور «مجيب المصري» أنَّ كثرة الألفاظ العربية في الفارسية شيء مُلاحَظ في النصوص القديمة والحديثة على حدّ سواء. وأن هذه الكثرة تتفاوت، كما أن هذه الألفاظ منها ما دلَّ على معنى جديد، لم يكن في العربية، أو منها ما استُخْدِم بمعناه في العربية. وفي الإمكان متابعة هذه الألفاظ العربية في تزايدها في الفارسية على امتداد القرون.

 ويَضرب أمثلة لِمَـا يقول: «ففي مُستهل العهد الساماني «261هـ- 389هـ» كان عدد الألفاظ العربية في الفارسية محدودًا، ولا يتجاوز خمسة أوْ عشرة ألفاظ في مائة لفظ فارسي، أمَّا في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فأصبحت خمسين في المائة، وفي القرون: السادس والسابع والثامن الهجرية زادت كثيرًا ألفاظ العربية حتى بلغت ثمانين في المائة».

 لقد تأثر الفُرْس بألفاظ العرب لحبّهم للعربية فأدخلوا تعابيرها في جسد لغتهم؛ لكيْ تتطور وتنمو، وتُصبح لغة عالمية، كالعربية؛ لغة دِين وأدب وفكر، ومنهج حياة.

وفي ألفاظ لغة الفُرس، التي يتألف اللفظ فيها من مقاطع، وهذه المقاطع تُؤلّف صورة بيانية، يُعبِّرون عن أسلوبهم في التفكير والتّحضُّر.

 ويسوق الدكتور حسين المصري -عميد الأدب الإسلامي- أمثلة وشواهد من الألفاظ التي استعارها الفُرْسُ عن العرب، وطوّروا معناها، في لغتهم؛ مستجيبين لسليقتهم؛ فكلمة (انقلاب) في الفارسية، بمعنى الثورة، بمعناها المتعارف المألوف، وهي الخروج عن طاعة الحاكم، وإعلان العصيان عليه، والرغبة في خَلْعه، وتغيير نظام حُكمه. فالكلمة في معناها الحِسِّي عند العرب، تدلّ على حركة، قد تكون بمعنى السقوط مِن عَلٍ، أوْ تغيير الوضع من جانب إلى جانب مُضادّ، وهذا كل ما يتحصّل من معناها الحِسيّ.

ولقد صدق ما قيل عن الفرس: بأنَّ الفارسي يتكلم بالمجاز والخيال، ويميل إلى التصوير، وذلك في اتصال ودوام، حتى فيما يأخذ بأطرافه من أحاديث بينه وبين مَن يُحدِّثه في كل يوم!

 كما أنَّ الفارسية تحتوي على كلمات أُخِذت عن العربية، وصاغوها صياغة خاصة. فتدلُّ على معنى جديد، ليس له من وجود في العربية، مثال ذلك كلمة «ذو حياتين»؛ فالعربي لا يفهم منهما شيئًا. أمَّا الفارسي فيقصد بهما الحيوان البرمائي: كالتمساح والضفدعة.

 امتزاج العربية بالتركية

 أمَّا عن الألفاظ العربية التي دخلت (اللغـة التركيــة) فقد دخلتها عن الفارسية المتأثرة أصلًا بالعربية؛ فقد امتزجت العربية بالتركية، كما امتزجت العربية بالفارسية. على أنَّ الألفاظ العربية المتعلقة بالدِّين لم يتغير معناها في الفارسية والتركية والأردية عن الأصل العربي. فالأتراك يطلقون كلمة «علاج» على الدواء؛ لقيام الصلة بين الدواء والداء، وإنْ كانوا لا يقصدون كلمة التداوي العربية، في معناها العربي، على أن الترك لا يستخدمون كلمة «علاج» أصلًا؛ فكأنهم استعاروها من العربية، واستخدموها على نحو خاص بهم. وعندهم كلمة «مدهش» بمعنى «مُخيف»؛ حيث أخذوا عن الفرس كلمة «دهشت» التي طوّروها عن العربية، وصاغوها صياغة عربية، بَيْد أنهم استعاروا هذه الكلمة عن العربية كذلك، بمعناها في لغة الضاد، وهي لا تعني الخوف، وغيّروا بنيتها وجعلوها تركية؛ فقالوا «دهشتلي» مُضيفين اللام والياء، وهما علامة النِّسبة، وهم بذلك أميل إلى الواقع من الفرس، واستطاعوا إقامة فارقًا بين المعنيَيْن.

 كذلك فرَّق الترك كلمة «قِيمت» عن معناها الأصلي؛ فقد استخدموها بمعنى ذي القيمة؛ فقالوا «قيمتلي» وجعلوها صِفة للصديق العزيز الحبيب؛ فخرجت خروجًا بعيدًا عن معناها في العربية. وإذا كانت كلمة «نفيس» في اللغة العربية تُرادف كلمة «ذا القيمة»، فجدير بالملاحظة أنهم يريدون بها «لذيذ الطعم». ونوضّح أن العزيز المُخلص قد يُعدّ شيئًا قيّمًا، ولوْ على سبيل التشبيه.

 وهكذا يُغيِّر الترك في دلالة الألفاظ العربية؛ ولكن على نحو خاص بهم دون غيرهم... لكن هناك من علماء الترك من يقول: إن أخذ التركية عن العربية ألفاظًا انصرفت عن معناها إلى معانٍ أخرى، يُعدّ مشكلة من المشكلات التركية. وإنَّ مجموعة من الألفاظ العربية التي دخلت التركية تُغيِّر معناها فيها، بلْ ربما لم تُسمع عند العرب بهذا المعنى!

 فكلمة (إحساس) في العربية، تأتي بهذا المعنى، وتأتي بمعنى (احتساس) في التركية.

 وكلمة (استمزاج) وكلمة (مدرر) في التركية، تَغيَّرت بِنيتها، ولا وجود لها في معاجم العربية!

 ومن الإنصاف القول: إنَّ النصوص التركية الزاخرة بالألفاظ العربية، هي التي شكّلت أدب الخواص، لا أدب العوام.

 أثر العربية في اللغة الأُرديَّة

 كذلك؛ تأثرت (اللغة الأُردية) بالعربية أولًا، ثمَّ بالفارسية، وهي لغة بلاد الهند الإسلامية، التي غزاها الفرس في القرن الرابع الهجري، والتي عبّرت عن حضارة الإسلام في شبه القارة الهندية، وكان من الطبيعي أنْ تتسرب إليها ألفاظ عربية من الفارسية.

 ولقد راعى الهنود المسلمون تطوُّر المعنى لكلمات العربية التي دخلت لغتهم الفتية، واندمجت فيها. وقد اهتموا أولًا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأردية؛ فكانت النقلة الكبرى في لغتهم، والتي أمدَّتهم بزادٍ وفير من الألفاظ العربية.

 الخلاصـة: إن العرب حملوا الإسلام إلى العالَم، وحملوا معه لغة القرآن، واستعربت شعوب غرب آسيا وشمال إفريقية بالإسلام، فتركت لغاتها الأولى، وآثَرَت لغة القرآن؛ أيْ: إنَّ حُبّهم للإسلام هو الذي عرَّبهم، فهجروا دِينًا إلى دِين، وتركوا لغةً إلى أخرى. بلْ شارك الأعاجم -الذين دخلوا الإسلام- في عبء شرح قواعد العربية وآدابها للآخَرين، فظهر منهم أشهر علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع... ولازالت الأمة كلها عالة على مُصنَّفاتهم وروائعهم التي ملأتْ الدنيا، وشغلت الناس.

 


 


[1] شمس الله تسطع على الغرب، زيجريد هونكه، دار المعراج، 2023م.

[2] أثر المعجم العربي في لغات الشعوب الإسلامية، د. حسين مجيب المصري.

[3] اللغة الفارسية د. محمد نور عبد المنعم.

أعلى