برهنت المعركة القائمة على أهمية التصنيع المحلي للسلاح الثقيل والرادع؛ وهو ما راكمته إيران خلال عقود، ولولا ذلك لما وجدت طريقًا للانتقام من اليهود، ولما تجرأت دولة على تزويدها بالسلاح حتى من حلفائها الكبار
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
أما بعد:
فهناك مسألتان ظاهرتان لمن استعرض أحداث التاريخ والحضارات، فضلًا عمَّن تتبّعها:
الأولى:
لأهل الأرض نصيبهم من مكر الليل والنهار، وجهدهم في العمل، لكنّها في النهاية أسباب
تَرِد عليها الاحتمالات كلها، ويبقى التدبير النهائي ربانيًّا بيد العزيز القهار،
وقد تكون النتيجة المكتوبة في القدَر المخفي، عكس المسار الأرضي الذي بالغ الأقوياء
أو الأذكياء في رسمه! وصدق الله -سبحانه-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
الأخرى:
كم من حماقة أو حماقات كانت سببًا في تغيير الخرائط والموازين، أو أضحت هي القشّة
التي قصمت ظهر البعير الضخم، فصار ما بعدها مُباينًا لما كان قبلها!
لقد تفاجَأ العالم بتحوُّل المناوشات الكلامية بين «إسرائيل» وحاميتها أمريكا من
جهة، وبين إيران من الجهة الأخرى، إلى حرب بالمُسيَّرات والصواريخ والهجوم
السيبراني والقاذفات الثقيلة جدًّا والمُدمّرة، حتى تجاوزت الأهداف المنشآت
العسكرية، إلى مقرات مدنية مثل مباني أجهزة الإعلام، والمستشفيات، وكلّ طرفٍ يدّعي
أنه يقصف هدفًا عسكريًّا فوق الأرض أو تحته، ويرفع الطرف الآخر عقيرته بالصياح من
جراء العدوان على الإنسان والمدنية، وكأن هذه الأطراف بريئة من انتهاك حقوق الإنسان
ولوازم المدنية، بدءًا من الحياة، وانتهاء بالكلمة الحرة!
ولا زالت الحرب قائمة، بل مستعرة بين أمريكا وخادمتها «إسرائيل»، وبين إيران،
والاحتمالات جميعها واردة، فربما تستمر الحرب وتتصاعد بدخول أطراف أخرى، أو حدوث
مفاجآت تخصّ الإشعاعات النووية أو المضائق، وقد تهدأ وتيرتها أو يُصار إلى هدنة
يتبعها اتفاق طويل، ومن غير المستبعَد أن يصبح من آثاره تغيير أنظمة، وغياب أسماء،
وبروز بدائل أخرى، وعودة مُبعَدين، وإبرام اتفاقات جديدة.
لكن على أيّ حال لا مناص من ذِكْر بعض ما استبان من هذه الحرب أو عنها، وسيبقى
المجال مفتوحًا للتصحيح والإضافة مع ظهور الحقائق، وانكشاف المخبوء، فمن ذلك:
سعت الدولتان المتحاربتان إلى بسط نفوذهما على المنطقة، وإن اختلفت الحكومات بين
صقور وحمائم، أو ملابس إفرنجية وعمائم! وبالتالي فأساس هذه الحرب وغايتها هو إعلان
السيادة المتفردة على المنطقة، وضمان الهيمنة والتوسُّع الحرّ على حساب الآخرين
المساكين.
لم يشتبك جيشَا الدولتين في هذه الحرب من أجل قضية عادلة، حتى لو جعلوها رافعة
لمشروعاتهم المُعلَنة، ومُلمّعة لسُمعتهم، وإنما نشبت الحرب بينهما لمصالح أمنهما
القومي فقط، فلطالما اعتدى اليهود على فلسطين ولبنان وشعبيهما دون نكير إيراني، وما
أكثر صرخات إيران ضد دولة الاحتلال التي لم تُحرّك ساكنًا ضد طهران ذات الصراخ حتى
ورجالاتها يذرعون البلاد القريبة منهم ذرعًا بلا غطاء.
لم يشفع لإيران عند الغرب مفاوضاتها السرية، فضلًا عن العلنية، ولا تواطؤها ضد عدة
دول عربية وإسلامية، ولا المنزلة التي تبوأتها لإخافة جيرانها، ودَفْعهم لعقد صفقات
التسليح والأمن والحماية بمبالغ تفوق موازنات عدة دول.
مهما انغمست الدول الإسلامية في مشروع غيرها، وفي خدمته، وفي الانفصال عن محيطها
وحضارتها، فلن يرضى اليهود والنصارى عنها، ولن يقبلوا منها الاستقلال وامتلاك أسباب
القوة ووسائل الردع؛ فذاك في عُرفهم مستحيل، وهو حُلم بعيد المنال، حتى وإن لوَّحوا
به للمتآمر، وأغروه به، فنهجهم هذا مثلما يصنع العابثون بكلبهم حين يرمون له عظمة
فيها شيء من فتات اللحم؛ لكي يطيع ويخدم ويصطاد، وينبح عند اللزوم.
وَلَغَت الدولتان المتصارعتان في دماء المسلمين بالاحتلال، والتخريب، والتحريش،
والاغتيال، والتفجير، والتخريب، وبكل خزي وجدوا إليه سبيلًا، فالأيدي اليهودية
الصهيونية، والفارسية الباطنية، مُلطّخة بدماء العرب والمسلمين، مسؤولة عن إزهاق
أرواح بريئة لا تُحصَى كثرةً، وملوّثة بالتدمير والإفساد. وعليه فالتوبة النصوح غير
واردة منهم إلّا في حال ردعهم بالقوة فقط؛ ولن تكون توبة حقيقية، وإنما جُبنًا
وذلةً.
مع اندلاع الحرب، دبَّ الذُّعر في المحيط العربي المجاور لطرفي النزاع؛ خشيةَ
امتداد الصراع أو التصفيات إلى داخل ذلكم المحيط، أو تسرُّب الآثار الناجمة عن
القصف إلى الماء أو الهواء أو حركة الملاحة والتجارة، فضلًا عن مفاصل الاقتصاد،
ومصالح الدول الكبرى فيها، وتلك مصيبة يندى لها الجبين، حينما يتعارك اثنان، ويكون
خوف الثالث على نفسه أشدّ من خوف المتعاركين نفسيهما!
كشفت الحرب عن مدى اختراق جهاز الاستخبارات في «إسرائيل» للداخل الإيراني الرسمي
الذي من سمته التكتم، وتبدّت إيران أمام العلن هشَّة رخوة ضعيفة تستحق الرأفة، وهي
التي كانت تتبختر وتزمجر.
أظهرت هذه الأحداث أهمية تماسك الجبهة الداخلية، خاصةً إبَّان الأزمات؛ فاليهود على
شتاتهم وشقاقهم تحلّقوا حول مُجرمهم وحزبه، بينما تطالعنا الأخبار بالخيانات داخل
إيران، وتقبض الحكومة على جواسيس وأوكار عدوان وتصنيع أسلحة. إن العدل والحرية
لَمِن أُسس هذا التماسك، وهما مَطْلبان لا ترتاح لهما الأنظمة الديكتاتورية.
استبان بعد اشتعال نيران هذه المعارك الخطر الكبير الذي تُمثّله التنظيمات الداخلية
المرتبطة بأعداء الخارج، ولا علاج لمثل هذه المشكلات مثل إحقاق الحق، ودَحْر الظلم،
والتيقُّظ، مع قوة أجهزة الأمن والاستخبارات، وقطع دابر أيّ ولاء للأعادي.
برهنت المعركة القائمة على أهمية التصنيع المحلي للسلاح الثقيل والرادع؛ وهو ما
راكمته إيران خلال عقود، ولولا ذلك لما وجدت طريقًا للانتقام من اليهود، ولما تجرأت
دولة على تزويدها بالسلاح حتى من حلفائها الكبار.
شاهَد العالم أن معاقبة الباغي والمعتدي أمر وارد وممكن، مهما نسَج هالةً من الزيف
حول تحصيناته وقواته وقببه، وغيرها، فمن قوي قلبه، وقويت عزيمته، وصنَع القوة،
واستعملها؛ لا بد أن يُصيب من خصمه وعدوّه المقاتل أو المواجع.
تؤكد هذه الواقعة القوية على أن مصير الأُمَّة الإسلامية واحد، وأن تحالُفها المتين
هو ما ينطلق من عقيدتها ومصالحها، ويُبنَى على قواسمها المشتركة. ويتضح هذا الأمر
أشد الوضوح مع تراخي الحلفاء الأباعد، وصدور إشارات من المعتدين تشير إلى أن
العدوان القادم سيكون على دول إسلامية كبرى.
أبانت التصفيات السريعة المتتالية لرموز النظام الإيراني عن قوة الضعفاء الذين
يجاهدون ضد دولة يهود منذ عقود، وعن إخلاصهم لقضيتهم؛ إذ لم يُفلح الكيان الغاصب في
الوصول إلى القادة إلَّا بعد عناء ومحاولات، ولم ينجح في اختراق كبير، مع أن الساحة
أمامه مفتوحة بلا عوائق أو سواتر، هذا غير تصاعد المقاومة مِن قِبَل عُزّل
مُحَاصرين ممنوعين حتى من الطعام والشراب! وتلك فضيلة لفلسطين، وغزة على وجه
التحديد.
مع كل حرب إبادة ضد المسلمين، أو تحطيم قوة، وقصقصة أجنحة، تتوالى الأدلة على أن
الكفر مُلّة واحدة، يعين بعضهم بعضًا على كثرة اختلافاتهم، فمتى تُصبح الأمة
المُقسَّمة أُمّة واحدة كما أرادها الله، وكما تخبرها، بل وتجبرها الثقافة،
والجغرافيا، والتاريخ، والاقتصاد؟
سيكون من الضروري لبلدان المسلمين فَحْص نشاطات الغرباء المقيمين فيها، خاصةً أولئك
الذين يعملون في مَواطن حرجة أو إستراتيجية، أو بجوار أُناس مؤثرين، وفي أجهزة
تُوصَف بأنها «سيادية».
من الحكمة الواجبة على بلاد المسلمين أن تَعتني بتحصيل القوة التقنية، وتفعيل
الذكاء الاصطناعي، فهو من أبواب إعداد القوة.
حتى وإن تطوَّر العالَم في حروبه، فلا مناص له من استعمال الحرب النفسية، والحِيَل،
والكذب في الوعود والمواعيد، وإن تحصين الجبهة الداخلية بالإيمان والاستعلاء
المتوازن لَمِن الحكمة.
ليس من الحسن أن يغفل العالم الإسلامي عن أوراق القوة الضاربة التي يمتلكها،
ويتركها، بل يهجرها لاهيًا بالتسكع في أروقة الغرب الباغي ومنظماته المنحازة؛ ومَن
عرف مكامن قوّته أخاف غيره، وإن كان وحشًا ضاريًا.
عارٌ يبلغ الغاية حينما تقف الأمة عاجزة تنتظر من دول غريبة ومؤسسات مريبة أن
تنجدها أو تقترح الحلول الناجعة لما تقع فيه الأُمَّة من مِحَن، فالحلّ ينبع من
الداخل للخارج، والخوّار الضعيف هو مَن يرتجي العكس أو ينتظره.
سيبقى الدين عاملًا حاضرًا ولن تُخفيه التصريحات، بل يبين عن نفسه في فلتات وكلمات
وإشارات ومسميات، فواعجبًا ممن هجر دينه بينما يقاتله الآخرون بسببه، ولا يرضون منه
أقصى درجات الميوعة والحيدة عنه.
من سنن الله أن يُسلِّط على الظلمة مَن هو منهم أظلم وأشنع وأفتك، وقد عانت مجتمعات
إسلامية من خبث بعض الأجهزة الإيرانية، وتشرذمت دول بسببها، وسالت دماء، ...، وها
هي إيران اليوم تُواجه مصيرًا مشابهًا من أعداء قد لا تطيق أمامهم صبرًا. وبالمقابل
أذاق الله اليهود طعم الخوف والهرب بذعر وهلع، كما دأبوا على ارتكابه ضد أهل
فلسطين، خاصةً في السنوات الأخيرة.
كل هذه الأحداث يجب ألَّا تُلهينا عن براءة قسم من شعوب إيران الكثيرة مما اقترفته
بعض أجهزتها وحكوماتها، ونسأل الله لهم الحماية والحفظ والظفر على عدوّهم الذي بغى
عليهم، وعلى الظلمة الذين اقترفوا المآثم باسمهم، وقسم منهم براء لا علاقة لهم بها.
إن رفع أُهبة الاستعداد المادي والمعنوي لَمِن أوجب الواجبات، خاصةً حين حلول
المدلهمات، واقتراب القوارع من الديار، ويكون ذلك بالركون للأصول الشرعية، ورفع
الوعي، والالتفاف حول المصالح المرعية، وبناء القوة واكتسابها بعد فعل أسبابها.
نسأل الله القدير أن يحفظ المسلمين وبلادهم وخيراتهم ووحدة كلمتهم، وأن يُذِلّ
الكافرين ويردّهم على أعقابهم خاسرين خائبين مفضوحين. ونسأله -سبحانه- أن يُجلّي
سبل النجاة والرشاد، خاصةً حينما تلتبس أمور، وتتشابك مدخلات مع مخرجات، ويختلط
الخير مع الشر، والحق مع الباطل؛ فإن المشكلة الحقيقة ليست في أن تكون الكرة في
ملعبك -كما يقال في التعبير الشائع-، وإنما المشكلة -بل المعضلة العويصة- حين تكون
تلك الكرة ملتهبة جدًّا، والإحراق الكبير نتيجة محتومة لها، سواء التقطتها أم
تركتها! وفوق ذلك لا يمكن حَسْم الرأي بسهولة نحوها؛ فاللهم ارفع الغُمّة عن
الأُمّة، ودُلّنا على الصواب والحق، واحفظ بلادك وعبادك ومصالحهم وشؤونهم كافة.