الدعاء سلاح فتّاك في أيدي أصحابه المؤمنين؛ ليقينهم أن الله تعالى يسمع ويرى، وهو سبحانه ينتصف للمظلومين؛ حيث لا ناصر لهم غيره، فيرفع دعوتهم فوق الغمام فلا يردّها صفرًا
مقدّمة
مِن المعتاد على مرّ العصور والأزمان أن يضيق الطغاة بكل المصلحين، وخاصةً إذا ما استشعروا شيئًا يُهدِّد كيانهم ويُعطّل مصالحهم أو يُوقف رغباتهم. ولن يطول ليلهم، فدائمًا وأبدًا تأتي نهايتهم وبوارهم من حيث يظنون أنهم قد أحكموا أمرهم، وشَيَّدوا بنيانهم، ورسموا خطتهم؛ فإذا بالقواعد والأسس التي ظنُّوا أنَّ فيها حمايتهم تهوي بهم ويَخِرّ عليهم السقف من فوقهم؛ فتظهر العورات، وتنكشف السوءات، وتبرز حقيقة الأشباح التي كانت تقطع الطريق، وتُخيف المارة، وتُهلك الحرث والنسل؛ قال الله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26].
قال الشيخ أبو زهرة: «كادوا لأهل الإيمان كيدًا ظنُّوا معه أنهم قضوا على الدعوة واقتلعوها، ولكنَّ الله -تعالى- أفسدَ عليهم تدبيرهم، وردَّ كيدهم في نحورهم». ولا يخفي على أحد أن الطغاة الظالمين في كل مكان هم جرثومة خبيثة ونبت سامّ، عكّروا ماء النهر، وتجرّع الناس منهم الغصص؛ فيجري عليهم قانون العدالة الإلهية، أنهم لا يستحقون البقاء؛ لأن قانون البقاء هو للأنفع لا للأقوى؛ قال تعالى: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]؛ قال البقاعي: «هذا مثل الباطل من الشكوك والشُّبَه، وما أثاره أهل العناد لا بقاء له، وإن جالَ جولةً يمتحن الله بها عباده ليُظْهِر الثَّابِت من المُزَلْزَل، ثم ينمحق سريعًا» (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: ١٠/٣١٨).
إذن هي المنايا التي تحمل البلايا لهؤلاء الطغاة، هي الدواهي والقوارع والصواعق والنوازل والكوارث؛ و«البغي مضيعة وشؤم»، كلمة عرفتها العرب من واقع التجربة ومن مرارة الأحداث التي خبروها وعاينوها. وفي الحديث الصحيح: «مَا من ذنبٍ أجدرُ أن يُعجِّلَ اللهُ تعالى لصاحبِه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يَدَّخِرُه له في الآخرةِ؛ من البَغْيِ، وقطيعةِ الرَّحِمِ» (صحيح الجامع: ٥٧٠٤).
وسرّ المسألة -كما يقول سبط ابن الجوزي-: «أن كلمة لا إله إلا الله انقسمت بين الظالم والمظلوم، فمع الظالم لا إله، وليس مع المظلوم إلا الله. ولو تأملتَ مليًّا سوف تجد شرر قلب المظلوم محمولًا بفحيح صوته إلى سقف بيت الظالم ونبال أدعيته مصيبة مسدَّدة حتى وإن تأخَّر الوقت؛ فقوسه قلبه المجروح، ووتره سواد الليل، ورب العالمين يقول: «وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ» (صحيح الترغيب: ٢٢٣٠).
وربما يطول الليل أحيانًا، أو يظن الظانّ أنه كذلك، وقد يتململ المريض فوق فراشه؛ يئنّ من وَجعه، ويتوجع من ألمه، وهو يحسب أنّ صباحًا منبلجًا لن يشرق، وأنّ مِلْح الأرض قد صُبَّ فوق جراحه، فألهبها وفَجَّرها وبلغ منها مبلغًا من الألم لم يحتمله.
وقلّما تخلو الحياة عن مشكلة أو تصدر عن بلية، ولستُ أظنّ أنّ الزمان يمر ويمضي بغير كُلفة أو معاناة؛ حتى يكون المرء بين الكدح والكَبَد، والعاقل مَن يفهم ذلك، ويعلم أنّ الأيام دُوَل؛ وأن الليالي حُبَالى، وأنّ دوام الحال من المحال، ولن يغلب عسرٌ يسرين.
وأفعال العباد جميعهم محاطة بسياج القدرة، وأقسى ما يفعله الظالم هو أن يوقع قدَر الله الذي قدَّره ابتلاءً واختبارًا؛ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢]، ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٢]. وهناك ثمة موعد مُحدَّد لإهلاك الطغاة؛ ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: ٥٩]؛ ليثق المؤمنون الصابرون العاملون في خالقهم، وهم يَدْعُون في جوف الليل على هؤلاء الطغاة الظالمين، ثم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته وإتمام نعمته على زوال هؤلاء وانكسارهم وهوانهم.
وتفصيلاً لما سبق، نتناول قضية هلاك الطغاة في المحاور التالية:
المحور الأول: مشروعية الدعاء على الطغاة والظالمين
الدعاء سلاح فتّاك في أيدي أصحابه المؤمنين؛ ليقينهم أن الله تعالى يسمع ويرى، وهو سبحانه ينتصف للمظلومين؛ حيث لا ناصر لهم غيره، فيرفع دعوتهم فوق الغمام فلا يردّها صفرًا، وفي الحديث «ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم؛ الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ؛ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ وتُفتَّحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعد حينٍ» (أخرجه الترمذي: ٣٥٩٨، وابن ماجه: ١٧٥٢).
والدعاء سلاح الأنبياء؛ فقد دعا سيدنا موسى -عليه السلام- على فرعون وملائه؛ {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88].
وفي حادثتي الرجيع وبئر معونة دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- على مَن قتل أصحابه وغدر بهم في ليلٍ بهيمٍ، وقد دعا -صلى الله عليه وسلم- على نفر من قريش بعدما اشتدوا في إيذائه وإيذاء المؤمنين؛ فقال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأَبِي جَهْلٍ، وعَلَيْكَ بعُتْبَة بنِ رَبِيعَة، وشيبَة بن رَبِيعَة، والوَلِيدِ بنِ عُتْبَة، وأُمَيَّة بن خَلَفٍ، وعُقْبَة بن أبِي مُعَيْطٍ».
ودعا أيضًا على قبيلة مُضَر بقوله: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ علَى مُضَر، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، ودعا صلى الله عليه وسلم على كسرى مَلِك الفرس حين بَعَثَ بكِتَابِه رَجُلًا وأَمَرَهُ أنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيم البَحْرَيْن، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْن إلى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ؛ فَحَسِبْتُ أنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ قالَ: «فَدَعَا عليهم رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ». ودعا على مَن تجمعوا عليه يوم الأحزاب بقوله: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم» (صحيح البخاري: ٢٩٦٥).
المحور الثاني: الفرح بهلاك الطغاة والمفسدين في الأرض
جرى عمل أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان على الفرح بموت الظالمين، وهلاكهم بما يصيبهم من البلايا والرزايا؛ وذلك لانقطاع شرّهم، وإراحة العباد والبلاد منهم، ويرون ذلك أمرًا مشروعًا، ودليله قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
قال الزمخشري: «وفي ذلك إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم»، وقال ابن عاشور: «الحمد لله على هلاك الظلمة؛ لأن هلاكهم صلاحٌ للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب، وإنما كان هلاكهم صلاحًا؛ لأن الظلم تغيير للحقوق، وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغيّر الحق والصلاح جاء الدمار والفوضى، وافتتن الناس في حياتهم؛ فإذا هلك الظالمون عاد العدل وهو ميزان قوام العالم» (التحرير والتنوير ٧/٢٣٢).
ومن الأدلة على الفرح بهلاك الظالمين، قول الله تعالى: ﴿الم ﮬ غُلِبَتِ الرُّومُ ﮯ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﯙ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﯨ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 1- 5]؛ فالآيات تحكي عن حال المؤمنين، وأنَّهم سوف يفرحون بهزيمة الكافرين من الفرس وزوال شوكتهم، وهذا يدلّ على مشروعية فرح المؤمنين بهلاك الطغاة.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: «لمَّا كانَ يومُ بدرٍ ظَهرتِ الرُّومُ على فارِسَ، فأعجَبَ ذلِكَ المؤمنينَ؛ فنزلت ﴿الم ﮬ غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، إلى قولِهِ: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}؛ قالَ: ففرحَ المؤمنونَ بظُهورِ الرُّومِ على فارِسَ» (صحيح الترمذي: ٢٩٣٥).
وعن أَبِي قَتَادَة بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ؛ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيا وأَذاها إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبادُ والبِلادُ، والشَّجَرُ والدَّوابُّ» (صحيح البخاري ٦٥١٢).
قال الباجي: «ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه؛ لما يقع لهم من ظُلمه»، وقال النووي: «والمعنى أن الموتى قسمان: مستريحٌ ومستراحٌ منه. ونَصَب الدنيا: تَعَبُها. وأما استراحة العباد من الفاجر فمعناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه، منها: ظُلمه لهم، ومنها: ارتكابه للمنكرات فإن أنكروها قاسوا مشقة من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإن سكتوا عنه أثموا. واستراحة الدواب منه كذلك؛ لأنه كان يُؤذيها ويضربها ويُحمّلها ما لا تُطيقه، ويُجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك. واستراحة البلاد والشجر قيل: لأنها تُمنَع القَطْر بمصيبته؛ قاله الداودي. وقال الباجي: لأنه يغصبها ويمنعها حقها من الشرب وغيره».
ولما قُتِلَ كعب بن الأشرف على يد مَن كلَّفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتله؛ فرح النبي -عليه الصلاة والسلام- وفرح المسلمون؛ قال ابن حجر: «فلما بلغوا بقيع الغرقد كبَّروا، فلما سمع النبي تكبيرهم كبَّر، وعرف أن قتلوه؛ ثم انتهوا إليه، فقال: أفلحت الوجوه. فقالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه؛ فحمد الله على قتله» (مغازي الواقدي ١/١٩٠).
وقد أفتى العز ابن عبد السلام «بأنه لا ملام بالفرح بموت العدو من حيث انقطاع شره عنه وكفاية ضرره»،
وعندما بلغ الحسن البصري -وهو من أئمة التابعين- خبرَ موت الحَجَّاج؛ سجد شكرًا لله تعالى، وقال: «اللهم عقيرك وأنت قتلته، فاقطع سُنته، وأرحنا من سُنته وأعماله الخبيثة»، ودعا عليه.
وقد رُوي نحو هذا الصنيع عن جماعة من أكابر التابعين؛ مثل إبراهيم النخعي، وطاووس بن كيسان، وأبي عمرو بن العلاء، وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهم أجمعين-، أنهم فرحوا أشد الفرح حين بلغهم مَهْلك الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فمنهم مَن بكى فرحًا، ومنهم مَن سجد لله شكرًا، ومنهم مَن تلا قول الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
وقال ابن كثير -رحمه الله- فيمن تُوفِّي سنة 568هـ: «الحسن بن صافي بن بزدن التركي، كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيًّا خبيثًا متعصبًا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنَة في ذي الحجة منها، ودُفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنَّة».
وحين مات فرح أهل السُّنة بموته فرحًا شديدًا، وأظهروا الشكر لله؛ فلا تجد أحدًا منهم إلا يحمد الله».
وقال حماد بن أبي سليمان: «لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجَّاج؛ بكى من الفرح». وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: «حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا صالح بن سليمان، قال: قال زياد بن الربيع الحارثي لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه هذا في ليلة كذا وكذا. فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحًا، جلسوا ينتظرون حتى سمعوا خبر موته».
ولما أُصيب المبتدع الضال ابن أبي دؤاد بالفالج -وهو الشلل النصفي-: فرح أهل السنَّة بذلك، حتى قال ابن شراعة البصري:
أفَلَتْ نُجُومُ سُعودِك ابنَ دُوَادِ
وَبَدتْ نُحُوسُكَ في جميع إيَادِ
فَرِحَتْ بمَصْرَعِكَ البَرِيَّةُ كُلُّها
مَن كَان منها مُوقنًا بمعَادِ
لم يَبْقَ منكَ سِوَى خَيَالٍ لامِعٍ
فوق الفِرَاشِ مُمَهَّدًا بوِسادِ
وَخَبتْ لَدَى الخلفاء نارٌ بَعْدَمَا
قد كنت تَقْدحُهَا بكُلِّ زِنادِ
ولما جاء نَعْي وهب القرشي -وكان ضالًا مُضِلًّا- لعبد الرحمن بن مهدي؛ قال: «الحمد لله الذي أراح المسلمين منه». وقال الإمام الذهبي في أحداث سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة: «ولم يَحُجّ الرَّكب لموت القرمطي الطاغية أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنَّابي في رمضان بهجر من جدريٍّ أهلَكَه؛ فلا رحم الله فيه مغرز إبرة» (العِبَر في خبر مَن غبر: ٢/٤٢).
المحور الثالث: تأخُّر عقاب الظالمين
ويتساءل البعض أنه يأسف كثيرًا لأن بعض الظالمين قد يفلتون من العقاب في الدنيا، ويظلون في مأمن حتى يوافيهم الأجل من غير أن يتكدَّر عيشهم أو يُساموا القصاص في الدنيا؟
والجواب عن ذلك من وجوه:
أولًا: من أسماء الله تعالى (الحكيم)، وقد يكون في عدم تعجيل العقوبة حكمة يعلمها الله تعالى؛ كأن يستدرجهم ليأخذهم على أقبح حال، أو يأخذهم على حين غرَّة؛ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﮇ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﮔ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 176- 178]، وموضع الشاهد من الآيات قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
وقال تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: 47]، قال الطبري: «أي يُهلكهم بتخوّف، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يُهلك جميعهم»، وفي الحديث المتفق عليه: «إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. قالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}» (صحيح البخاري: ٤٦٨٦).
ثانيًا: قد يكون العذاب المعنوي الذي يقع بالظالم في الدنيا أشد إيلامًا عليه من العذاب المادي والحسي الذي نراه «من قلق القلب، واضطراب النفس، والتوجس والخوف، وصورة المظلوم التي يراها في نومه ويقظته».
وسر المسألة أن الله تعالى ليس بغافل عن صنيع هؤلاء المجرمين؛ قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﰄ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42- 43]؛ يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات: «إن الله تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم؛ لزم أن يكون إما غافلًا عن ذلك الظالم، أو عاجزًا عن الانتقام، أو كان راضيًا بهذا الظلم. ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم مُحالًا على الله تعالى؛ امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم».
فلا بد من تحقيق الانتقام والبطش والتنكيل بالظالم وتعذيبه في الدنيا، أو في البرزخ، ثم في الآخرة العذاب الأليم، أو في المراحل الثلاثة مجتمعة ولِمَ لا؟ ومن أسمائه سبحانه: الحَكَم والعدل؛ فهو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، ويعدل بينهم بالقسطاس المستقيم، ولا يفرط ألبتة -سبحانه- في حقوق العباد، ولا يضيعهم؛ فهو القائل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
ولا بد للظالم من نهاية -وإن تأخَّرت لحكمة- إنْ لم يَتُبْ ويردّ حقوق العباد. وأخذ الطغاة والظالمين بجُرْمهم سُنّة ربانية؛ قال الله -جل وعلا-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]. والحكم بين الناس بالعدل، ومجازاة الظالمين بما كسبت أيديهم؛ غاية عظمى من غايات يوم القيامة؛ قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
إذن لا تبديل لكلمات الله التي فيها وعيده للظالمين، ووعده بنصرة المظلومين وإهلاك الظالمين: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
والحمد لله رب العالمين.