تصفُّح الكتب والمراجع لتقييمها والانتقاء منها، لا يعني مجرد تقليب الصفحات والنظر في بعض السطور! بل هو «منهجية»، ومنهجية بمراحل حسب الهدف الذي تطلبه من التصفُّح، يستوي في ذلك أن تكون قارئًا ذاتيًّا أم باحثًا علميًّا أم دارسًا أكاديميًّا
عندما يُذكَر مصطلح «البحث العلمي» تتبادر للذهن أنساقٌ معرفية، تشمل في الأساس ماهية البحث العلمي ومناهجه وأدواته التخصصية، وهذا مطلوب لا ريب، لكنَّ هناك أساسًا لا بد من إرسائه قبل كل ذلك، يتعلق بمهارات عملية لازمة لأيّ متعلم، ومن باب أولى لكلّ مشتغل بالبحث العلمي.
مَن مَلَك زمام هذه العُدّة من القواعد صار مُؤهَّلًا لخوض غِمار البحث العلمي، وإن لم يكن اختصاصه الوظيفي كذلك. بل الأصل أن ينشأ كلّ متعلم على هذه المهارات في مراحل التعلم الأولى؛ لتكون له من بعدُ طبعًا ودأبًا؛ لكن ذلك لا يمنع من اكتسابها بالتعلُّم الذاتي لاحقًا، إلا أنها ستتطلب مجهودًا وصبرًا أكثر.
القاعدة الأولى: التجرُّد للحق
وهو المصطلح الأصيل في ديننا وثقافتنا لمفهوم «الموضوعية»؛ فالموضوعية بمعنى «الحياد التام» أو «عدم التحيز الفكري» لا وجود لها من حيث الأصل؛ لأن العقل «المحايد» لا وجود له بداية، فالعقل ليس عضوًا وظيفيًّا منفصمًا في الهواء، بل هو مُركَّب في كيان متكامل من الفكر والشعور والخبرات والنفسيات المصطبغة بمعانٍ وخلفيات مسبقة بالضرورة، وبالتالي لا بد أن يصطبغ بها قطعًا، ويظل لذلك الاصطباغ أثر وبصمة مهما ظن صاحبه أنه تخلَّص منه أو أنه «محايد».
لكنّ الموضوعية تعني التجرُّد للحق متى ثبت بالبراهين الصائبة، يعني تغيير التوجُّه العقلي من وجهة كان صاحبها يظنها الصواب إلى أخرى اتضح أنها الصواب أو الأصوب. هذا التجرُّد لا ينفي كون المتعلم أو الباحث ذا توجُّه معين، لكنّه مبدأ يحثّه على الجمع بين عدم التصلب الأعمى، وفي ذات الوقت عدم التذبذب والجري وراء كل ناعق قبل التثبُّت.
ولعل هذه المقولة لعباس العقاد تُوضِّح الفارق بين هذين بجلاء: «العناد والثبات على الرأي نقيضان: العناد إصرار بغير سبب، أو لسببٍ ظهر بطلانه، والثبات إصرار على رأي يؤمن به صاحبه، ولم يظهر له ما يدعوه إلى التحول عنه».
القاعدة الثانية: التفكير التحليلي لا التكتلي
وتعني المهارة الفكرية في تحويل فكرة عامة إلى تفاصيل أدق وجزئيات أكثر ثراءً، وكذلك الجمع بين الأفكار المتناثرة في تسلسل مترابط طالما كانت تنتمي لسياق متقارب قابل للجمع بدايةً، وهذه المهارة تبدأ أول ما تبدأ في التعاملات الشخصية قبل الأوراق العلمية، بل في نمط تعامل الفرد مع ذاته أولًا! فمن لم يكن هذا ديدنه الفكري، يتعثر كثيرًا عند محاولة تكلُّفه أثناء البحث العلمي، ويظهر جليًّا من بين الأوراق أن الأفكار ملصقة بالغراء بدل أن تنساب باتساق، كيف ذلك؟
بأن تعتاد «محاورة» ذاتك ودواخلك؛ لتقف على جذور ما يعتمل في صدرك من فوضى شعورية، بدل أن تتركها تسيطر عليك وتُسيّرك، بالاستسلام للأحاسيس والتعبيرات الهلامية من قبيل «مزاجي متعكر»، «صدري ضيّق»، «أشعر بقلق وهواجس» ... إلخ. التفكير التحليلي يعني أن تبدأ في تحليل هذه الكتل الشعورية بأسئلة تُزيل ضبابها وتُنظّم فوضاها: لماذا أشعر بذلك؟ ما هذه الهواجس؟ هل بيدي حلّ عملي لها؟ إذا لم يكن بيدي حلّ عملي فالقلق ليس حلًا ولن يُقدِّم أو يؤخر... وهكذا.
وينطبق نفس المبدأ في الحوار والنقاش مع الآخرين، بأن تُحلّل كل محور إلى مجموعة بنود يردّ عليها واحدًا واحدًا، بدلًا من الصياح في نفس النهج بغير الوصول لشيء؛ لأنه لم يُحدّد شيء بداية! وكذلك في إصدار الأحكام التعميمية المطلقة على شخصيات الآخرين، واختزالهم في صفة أو صفتين!
وخيرُ مثال توضيحي لذلك: أسلوب المقارنة الشائع في المدارس وبين الإخوة، وهو من أسوأ الأساليب في التعليم وأبعدها عن القيمة التربوية؛ لأن نموذج «الطالب المثالي» أو «الأول»، أو غيرها من «أفعل» التفضيل؛ تُرسل رسائل نفسية لغير الفائزين بها بأن ذلك الفرد أو الأفراد الفائزين قد احتكروا أسباب الفضائل، وبالتالي لم يَعُد لهم سوى القوالب العكسية من الفوضى والمشاغبة أو البلادة والكسل! ومِن ثَم يتَّجهون لترسيخ هذا الصفات السلبية في أنفسهم من باب «العناد» تارة، ومن باب اللامبالاة والاكتراث تارة أخرى. والمنشأ في كلتا الحالتين هبوط نفسي في استشعار قيمة الذات كفرد أكرمه الله بالوجود وامتحنه به، وفي استشعار أواصر الترحاب والانتماء الاجتماعي الذي يُشجِّع الفرد أن يسمو بفرديته لصالح المجموع الذي هو منهم.
القاعدة الثالثة: المنهجية في التصفُّح
تصفُّح الكتب والمراجع لتقييمها والانتقاء منها، لا يعني مجرد تقليب الصفحات والنظر في بعض السطور! بل هو «منهجية»، ومنهجية بمراحل حسب الهدف الذي تطلبه من التصفُّح، يستوي في ذلك أن تكون قارئًا ذاتيًّا أم باحثًا علميًّا أم دارسًا أكاديميًّا. وهذه المنهجية هي:
المسح السريع: وهو التصفُّح لتقييم مدى حاجتك للمادة أو إمكانية انتفاعك بها، فتبدأ بمطالعة العناوين في الفهرس، ثم تختار عنوانًا عندك فيه خلفية تُمكّنك من التقييم، أو استشكال يدفعك لطلب جواب، وتشرع في تصفح ذلك العنوان، بقراءة الفقرة التمهيدية، ثم الجملة التمهيدية والختامية لكل فقرة بعد، بحيث تُكوِّن تصورًا كليًّا عن مدى ترابط الأفكار وسلاسة أسلوب الكاتب وكذلك مدى ثراء المادة وكفايتها لحاجتك.
القراءة المتأنية: للموادّ أو المراجع التي تُثَبِّت من حاجتك لها وكفايتها لك، فتقرأها بتأنٍّ، وتحرص على متابعة الفكرة الرئيسية لكل فقرة، وتدوين ملاحظاتك أو خلاصاتك حولها.
الاستخلاص السريع: لا تحتاج كل قراءة متأنية لنفس درجة التأني والتدقيق، بل يمكنك التنقيب في المادة بغرض طلب معلومة معينة من مكان ما في فصل أو بعض فصول، وتعتمد هذه المنهجية على الكلمات المفتاحية المقترنة بموضوعك أو غرضك.
التفكُّر الختامي: بعد انتهاء القراءة المتأنية تمامًا، تنظر في خلاصاتك وتجمع بينها بما يناسب غرضك باحثًا أو متعلمًا.
القاعدة الرابعة: اليقظة لتشكيل البنية الفكرية
البنية الفكرية هي الطبع العقلي للفرد، فمن اعتاد -مثلًا- القراءة بلا منهجية، والمطالعة بغير استخلاص، وتشرب الأفكار دون العناية بنسق الفكر؛ يصعب عليه التحوُّل من الفوضى المعرفية للبنائية العلمية، فالبنائية في العلم تعني أنه لا شيء مما يسعى المتعلم لتعلُّمه هو للمعرفة «والسلام»، وإنما هو يسير وفق منهجية ومراحل متدرّجة في العلم، وبالتالي يكون جُلّ ما يكتسبه يُبنَى على بعضه، فيُرسّخ علمه؛ وفوق ذلك يتشكل طبع عقله ليكون بنائيًّا منظمًا الفكر، كأنه أدراج خزانة معارف مفهرسة. والنمط المعرفي السائد متمثلاً في كبسولات الفيسبوك ومواقع المختصرات وشذرات الحِكَم، على ما فيه من فائدة لا تُنْكَر، إلا أنه وحده وعلى المدى البعيد لا يصنع عالمًا راسخًا ولا يبني فكرًا منظمًا.
القاعدة الخامسة: الصبر على الرسوخ في العلم
لا يجتمع عالِم وعجَلة! والكثير من الطامحين لاتساع الأفق وموسوعية المعرفة تجدهم يركزون على الكَمّ أكثر من الكيف، وعلى سرعة الانتهاء أكثر من جودة الأداء، وبالتالي تنتهي قوائم القراءات والمراجع، لكن يظل نموّهم العقلي غير مُتواكب في عمره مع مقدار ما أنهوه، وإذا حاورتهم تشعر بأن لديهم «شيئًا مختلفًا» عن الجاهلين، لكنه لا يكفي ليرتقي بهم عن مرتبة السطحيين أو أصحاب «مِن كل بستان زهرة».
فالذي لا صَبْر له على العلم وطول القراءة، والذي لا يُطيق المراجع الضخمة، ولا يتحمل أكثر من ملخّصات في بضع ورقات، كيف يطمح لأن يكون باحثًا ناهيك أن يكون علميًّا؟!