المصالحة وخيارات السلطة الفلسطينية بعد فشل المفاوضات
منذ أن وافق
الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على استئناف عملية التفاوض، تنبّأ المراقبون بسرعة
انهيارها؛ لأنها تنحاز بالكامل للجانب الإسرائيلي، ولا تُلبي أيّاً من مطالب الطرف
الفلسطيني؛ فلا وافقت إسرائيل على الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967م أو
بمبدأ حل الدولتين، ولا وافقت على وقف الاستيطان في الحدود المذكورة، وأسقطت حق
العودة، وطلبت تجميد ملف القدس حتى إشعار آخر، بجانب إرجاء قضايا الحل النهائي إلى
مراحل لاحقة من المفاوضات.
ومن
مسبّبات الفشل أنّه رغم قبول إسرائيل هذه المفاوضات، إلا أنّ الساسة الإسرائيليين
والمواطنين الإسرائيليين أيضاً غير راضين بهذه المفاوضات، وصدرت عشرات التصريحات
التي تؤكد ذلك، وكان آخرها تصريح تسيبي ليفني التي طالبت من خلاله بضرورة وقف
المفاوضات، وحذَّرت من انهيارها الوشيك.
وفي الجانب
الفلسطيني، يمكن القول إن الفصائل كلها – بجانب شريحة كبيرة من حركة فتح - غير راضية
عن المفاوضات، وهناك معطيات تشير إلى أن السلطة وقيادة منظمة التحرير نفسهما غير
راضيتين عن المفاوضات وغير مقتنعتين بها، إلا أن الرئيس عباس أراد دخول المفاوضات – دون مشورة
قيادة المنظمة
-، آخذين في الاعتبار أن وزير الخارجية في حكومة رام الله (رياض
المالكي)
صرَّح بأن نظيره الأمريكي جون كيري أبلغ وزراء خارجية عرباً مؤخراً، أن
المفاوضات لم تحقق اختراقاً حتى الآن، وأنها انتقلت إلى مرحلة تقريب وجهات النظر
بعد أن اقتصرت في الأسابيع الماضية على إسماع المواقف من كافة قضايا الحل النهائي.
ومن هنا،
لا بد من التعامل مع المفاوضات من منظار الفشل وليس إمكانية الوصول إلى تسوية، هذا
في ضوء الخبرة التفاوضية السابقة التي أوصلت المفاوضات والمفاوضين إلى طريق
الانسداد السياسي.
وفي ضوء اقتراب انهيار عملية
المفاوضات، فإن السلطة الفلسطينية ستكون أمام جملة من الخيارات:
أولاً:
المصالحة وإنهاء الانقسام
من المسلّم
به أن المفاوضات والمصالحة خطان متوازيان لا يلتقيان، وإذا ما انهارت المفاوضات لا
يكون أمام الفصائل الفلسطينية، وخاصة المعارِضة للمفاوضات، إلا أن تدخل في مباحثات
من أجل التوصّل إلى اتفاق مصالحة يقود إلى إنهاء الانقسام السياسي.
ورغم أهمية
تحقيق هذا الخيار، إلا أن المؤشرات تذهب إلى العكس تماماً، حيث إن السلطة
الفلسطينية لم توقع على اتفاق مصالحة في ضوء توقف المفاوضات لمدة ثلاث سنوات قبل
استئنافها في العام الجاري، ولم تدخل في اتفاق مصالحة وطنية في ظل حكم الدكتور
مُرسي، وهو المقرب من حركة حماس بحكم الروابط الأيديولوجية والتنظيمية، فهل تقبل
السلطة مصالحة وطنية مع حركة حماس في ضوء حكم الفريق السيسي الذي يتقاطع معها في
عدد من القضايا، منها محاربة الإخوان وتضييق الخناق عليهم، وهو الذي يسلك سياسة
عدائية مع حماس ومن خلفها قطاع غزة؟!
وإذا رأت
حماس أن توقيع اتفاق المصالحة من المرجّح أن ينعكس سلباً على وجودها، أو أنه لا
يحفظ الثوابت الوطنية؛ فمن غير المعقول أن تقوم بالتوقيع على أي اتفاق مصالحة،
وسيكون من السهل عليها أن تطالب بنقل الملف إلى دولة تمسك العصا الفلسطينية من
الوسط، كتركيا أو قطر، ما يعني أن مصر تراجع نفسها من جديد خشية أن يفلت هذا الملف
من يدها.
وإذا ما
أخذنا في الاعتبار محددات المصالحة التي تحدث عنها رئيس الوزراء إسماعيل هنية في
خطابه الأخير، وإذا ما أدركنا أن مفهوم المصالحة وأولوياتها واستراتيجيتها تختلف
لدى حماس عنه عند فتح؛ يصبح من الصعوبة بمكان الاتفاق على المصالحة الوطنية،
وبالتالي من غير المتوقع أن تقوم السلطة ببذل جهود كبيرة من أجل العمل على تحقيق
هذا الخيار، رغم أنه الورقة الأقوى بيد السلطة تجاه إسرائيل.
ويمكن
القول إن هذا الخيار ورغم صعوبة تحققه إلا أنه الخيار الأجدر الذي يستحق تضافر
الجهود الفلسطينية من أجل تحقيقه؛ لأنه المفتاح لحل كثير من القضايا العالقة على
الساحة الفلسطينية.
ثانياً:
الذهاب إلى المؤسسات الدولية
لدى السلطة
الفلسطينية خيار آخر يتمثل في تفعيل قرارات الشرعية الدولية من أجل إنهاء الاحتلال
وإعلان الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على حدود 67م، عملاً
بقرار
242،
338.
وهذا الخيار يستلزم جملة من الأمور
إذا ما تحققت يمكن تبنّيه والعمل على تحقيقه بقوة، منها:
(1) دعم عربي
وإسلامي ودولي من الدول الصديقة لفلسطين ومن أحرار العالم، بجانب تفعيل وإحياء
مسؤولية دول أوروبا عن إيجاد الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين.
(2) مصالحة
فلسطينية من أجل توحيد الجهود الفلسطينية بمختلف توجّهاتها الإسلامية والعلمانية
والوطنية، خاصة أن إسرائيل تلوّح دائماً بعدم تمثيل الرئيس عباس كافة الفلسطينيين،
في ضوء ما يهدد الوطن من انقسام جبيوسياسي.
(3) إعادة
تفعيل وتنشيط جهاز السلك الدبلوماسي الفلسطيني، خاصة أن هذا الجهاز غارق في الفساد
ولا يؤدي الواجبات الوطنية الموكلة إليه.
ويبدو واضحاً أن هذا الخيار سيصطدم
بجملة من المعوقات، منها:
(1) بقاء
الانقسام وعدم تجاوزه من خلال المصالحة الفلسطينية، حيث إن الانقسام يعني اختلافاً
في الرؤى والمواقف والأهداف، وعدم الاتفاق على برنامج وطني واحد أو مشروع وطني
فلسطيني موحد.
(2) الارتهان
إلى الأجندات الخارجية من قِبَل كل فصيل فلسطيني، مع إدراك حجم الخلاف الدولي بين
أصحاب الأجندات أو المرجعيات الدولية، وهذا يشكّل العائق الأكبر أمام التوصّل إلى
قواسم مشتركة.
(3) من المتوقع
أن تقوم إسرائيل باحتجاز أموال الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية من جرّاء
التبادل التجاري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو أن تقوم بتقليص خدماتها
المقدّمة إلى الفلسطينيين، وتستمر في سياسات التهويد والاستيطان.
(4) مع تقليص
حجم المساعدات المالية المقدمة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للسلطة،
خاصة أن كثيراً من تلك المساعدات يتم تقديمها للسلطة الفلسطينية نظير تواصل
واستمرار المفاوضات، هذا في ضوء تقليصات الأونروا في السنوات الخمس الأخيرة
وتراجعها عن تقديم مساعداتها لكثير من العائلات الفلسطينية، الأمر الذي يشكّل
مزيداً من العبء على كاهل السلطة الفلسطينية.
(5) التلويح
بفتح ملفات الفساد المالي والديون المتعلقة بالسلطة الفلسطينية، وكان آخرها ما
أعلنه الاتحاد الأوروبي قبل أيام من فساد مالي كبير في ميزانية ومؤسسات السلطة
الفلسطينية.
ثالثاً:
تجميد المفاوضات وتجميد المصالحة
لا تريد
السلطة في هذه الحالة أن تتوصّل مع حركة حماس إلى أي اتفاق مصالحة أو وفاق وطني،
وكذلك لا تريد الذهاب إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن من أجل طلب عضوية كاملة أو
دولة فلسطينية على حدود 67 أو دولة ثنائية القومية، وذلك بضغط مباشر وغير مباشر من
المجتمع الدولي وإسرائيل. والمقابل لعدم الخوض أو اتخاذ تلك الخطوات، يتمثل في
تسهيلات تقدمها إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، كالتي تم الاتفاق عليها حين تم
استئناف المفاوضات بين الطرفين في أبريل من العام الجاري، بجانب تسهيلات ومساعدات
مقدمة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعض الدول العربية كالخطوة التي
قامت بها أمريكا من خلال إجبار قطر على سداد 150 مليون
دولار من ديون السلطة.
ويمكن
القول إن هذا الخيار يحمل الكثير من المخاطر على القضية الفلسطينية، أقلّها
استمرار حملة التهويد في مدينة القدس، في ضوء استمرار الاستيطان وتمدده أفقياً في
أراضي الضفة الغربية، الأمر الذي يضع عقباتٍ جمّةً أمام المُفاوِض الفلسطيني،
أقلّها صعوبة التعامل مع الطرف الإسرائيلي في كيفية التخلص من هذه التجمعات
الاستيطانية.
خلاصة
باستطاعة
القيادة الفلسطينية إذا ما توافرت الإرادة والتربة الخصبة، أن تحقق المصالحة
وتتوصّل إلى حالة من الوفاق الوطني، وهنا يمكن تجاوز أي من المشكلات المتوقع
ظهورها على السطح. وفي حالة عدم التوصّل إلى حالة من الوفاق الوطني، فمن
غير المستبعد أن تكون الساحة الفلسطينية أمام صورة فوضوية ومشوّشة تتعدّد فيها
السيناريوهات والخيارات، وبالتالي تبذل القيادة الفلسطينية مزيداً من الجهود،
وتدفع أغلى الأثمان، من أجل العودة إلى حالة الاستقرار، وربما لا يتم الأمر.
::
مجلة البيان العدد 318 صفر 1435هـ،
ديسمبر 2013م.