• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثقافة المقاومة عند المحدث الدكتور نزار ريان ( رحمه الله )

ثقافة المقاومة عند المحدث الدكتور نزار ريان ( رحمه الله )

 يُعَدُّ الدكتور نزار ريان من كبار العلماء في فلسطين؛ فهو محدِّث فلسطين؛ حيث حصل على درجة الأستاذية في الحديث، واشتغل في هذا العلم على مدار ثلاثة عقود، وله أبحاث كثيرة أكثرها لم يُنشَر كان آخرها شَرحُهُ لصحيح مسلم الذي أسماه: (إمداد المنعم شرح صحيح مسلم)؛ حيث فَرَغَ من شرح المقدمة قبل استشهاده، وجاء الشرح في خمسة مجلدات، كما قام بشرح كتاب الورع للإمام أحمد قبيل استشهاده. وهكذا أمضى الشيخ حياته في خدمة السُّنة النبوية ومقاومة الاحتلال الصهيوني، إلى أن لقي الله شهيداً في عصر يوم الخميس الرابع من محرم لعام 1430هـ، الموافـق للأول من ينـاير لعـام 2009م، خامس أيام الحرب على غزة.
إن الحديث عن الجهاد والمقاومة حديث ذو شجون، ولا سيما إذا كان عن العلماء المجاهدين، أمثال الدكتور المجاهد الشهيد نزار عبد القادر ريان، الذي ذكَّرنا بالعلماء المجاهدين الأوائل أمثال عبد الله بن المبارك، والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

لقد قدَّمت شهادة الشيخ ريان نموذجاً للقائد الذي يتمسك بأرضه ويبقى بين الشعب والمجاهدين، ولا يفر من ساحة المعركة، ولا يتـرك جنودَه ويفـرُّ بأمـوال الشـعب المسروقة... القائد الـذي يقـاتِل ويجـوع ويحاصَر مع شعبه، ويقـاتل معه، ويُقتَـل أبناؤه مع أبنائهم، ولا تجده ممن يهرب.

إننا - حقيقة - أمام شخصيةٍ عظيمةٍ، ونفسٍ كبيرةٍ أبِيَّةٍ وعالِم كبيرٍ عزَّ مَثيلُه في هذا الزمان، ولعل الله قدَّر أن يستشهد الشيخ بهذه الطريق حتى ينشط الصالحون، وخصوصاً العلماء. 
العوامل التي أثَّرت في ثقافة المقاومة عند الشيخ نزار ريان، رحمه الله:

أولاً: ثقافته الإسلامية: 

هذه الثقافة التي تدعو للثورة على الطغيان والظالمين، وتحرِّض على ردِّ العدوان، كما قال - سبحانه وتعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَن يَقُولُـوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُـدِّمَتْ صَـوَامِـعُ وَبِيَعٌ وَصَلَـوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39 - 40]، وقوله - تعالى -: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، فضلاً عن أنها تَعُدُّ الذي يُقتَل وهو يدافع عن عِرضِه، أو أرض المسلمين، أو ماله شهيداً؛ فهذا من شأنه أن يرغِّب في المقاومة والجهاد. قال الله - تعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

ثانياً: التطبيق العملي لما كُتِبَ في رسالة الماجستير والدكتوراه:
كتب - رحمه الله - رسالته لنيل درجة الماجستير بعنوان: «أحاديث الشهادة والشهيد» وقد قام بجمع الأحاديث المتعلقة بفضل الشهادة وأحكامها من جميع كتب السُّنة، وكان يحدِّث إخوانه قائلاً: «لا يليق أن أكتب في هذا الموضوع ثم لا ألقى ربي شهيداً». أما رسالة الدكتوراه فكانت بعنوان: «مستقبل الإسلام»، وقد كتب فيهـا فصلاً كامـلاً عن الجهاد، كوسيلة لا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة إلا به.
ثالثاً: التأثُّر بشخصية عبد الله بن المبارك:

لقد كان الشيخ - رحمه الله - متأثراً بشخصية ابن المبـارك بصـورة كبيـرة، حتـى إنه - كمـا حدثني أكثر من تلميذ له - لم يدعْ كتـاباً ترجم لابن المبـارك إلا قرأه، وكان يحرص - رحمه الله - على إخراج كتب التراث التي تتحدث عن الجهاد مثل كتاب ابن المبارك في الجهاد، وكان يحثُّ على تحقيقها.

رابعاً: تأثُّره بالدكتور عبد الله عزام، رحمه الله:

فقد حدَّث - رحمه الله - أنه صَحِبَ الدكتور عبد الله عزام والتقاه في بيته مرات، وكان دائماً يوصي طلابَه بقراءة كتاب (العقيدة الإسلامية وأثرها في بناء الجيل) لعبد الله عزام.

خامساً: تأثُّره بمرارة التهجير من الديار:

يخبر - رحمه الله - عمَّا حدث لجده وعمِّه، فيقول: حدثني أبي عبدالقادر بن محمد بن عبد اللطيف ريان دفين مكة المكرمة - رحمةُ الله تعالى عليه - قال: إن جدي محمد بن عبد اللطيف كان قد دخل إلى قريتنا (نِعِلْيا) متسللاً بعد أن سقطت بيد اليهود سنة 1367هـ، فرأى وهو عائد من قريتنا رجلاً قد قتلته يهود وألقت جثته في العراء، فقال جدي لعمي أحمد - رحمه الله -: والله يا ولدي لن نترك هذا الرجل دون أن نواريَه التراب! فقام جدي يحفر له حفرته بيديه، حتى أتمَّها، فلمَّا أراد أن ينقله في الحفرة انفجر فيه وفي ولده أحمد قنبلة كانت مخفية أسفل الجثة، فَقُتِل جدي وعمِّي، رحمهم الله. والشاهد أنهما لم يكونا فيما نحسب من الشهداء وحسب، بل كانا شهيدين قد قُبضا على عمل صالح، إن شاء الله تعالى، فأكلت جثةَ جدي الضواري والسباع، ولم يجد من يواريه، وتمكَّنت جدتي - رحمه الله تعالى - من نَقْلِ ولدها أحمد إلى غزة، فدفنته بها[1].

ويبدو أن الشيخ - رحمه الله - كان يكثر من مجالسة جيل الهجرة، الذي تجرع مرارتها وقسوتها؛ حيث حفظ الشيخ الشيء الكثير عن الأجداد والجدات. 

معالم ثقافة المقاومة عند الشيخ نزار ريان، رحمه الله: 

أولاً: ريان ونظرية الدروع البشرية:

قدَّم الريان نموذجاً للقائد المبادِر الذي لا يفر من أرض المعركة، ولا يتنازل؛ ففي انتفاضة الأقصى عندما كان الصهاينة يتصلون على بيوت المقاومين الفلسطينيين، ويعطونهم فترة لِيُخْلُوها حتى يجري قصفها، فما كان من الريان، إلاَّ أن بادر وقاد الجماهير إلى تلك البيوت؛ ليشكِّل منهم دروعاً بشرية وتوقفت بعدها هذه السياسة.

 ثانياً: لا فرق بين السياسي والعسكري في حالة النفير العام: 

في حديثٍ صحفيٍّ معه سُئِل - رحمه الله - عن سرِّ ارتدائه الزي العسكري، على الرغم من أنه قائد سياسي، فقال: «إنه حين تُغْتَصَب الأرض وتُقتَحم البلد، فهناك حكم شرعي ينطبق على السياسي والعسكري، بل على الرجل والمرأة، وهو: وجـوب دَفْـعِ العـدو عن الأرض بالنفس؛ ولذلك لا يمكن إلا أن أخرج على الهيئة التي تذكرون؛ لأدفع بنفسي عن بلدنا وأهلنا، ولأرفع معنويات المجاهدين والسكان.

ثالثاً: عبادة المجاهدين: 

سئل - رحمه الله - ذات مرة عن الجهاد والعبادة، وعن الروح الإيمانية التي يتمتع بها المجاهدون، وعن عبادتهم أثناء تصدِّيهم للاحتلال، فقال: «إن العودة إلى الله في فترات الخوف واضحة، وعبادة المجاهدين التي نوجِّههم إليها الذِّكر والدعاء. أما صلاة النوافل والقيام فلا أنصحهم بها؛ خشية أن يستغل العدو الحركة فيبادر بالقنص، لكنَّ الإيمانيات قوية، والدعاء وسماع القرآن يملأ الأجواء، ويمكِّن المجاهدين من مواصلة الجهاد بروح عالية».

رابعاً: الشيخ ريان الجنديُّ المطيع:

على الرغم من أنه - رحمه الله - طلب من قيادته أن يُعفُوه من العمل التنظيمي ليتفرغ للعلم الشــرعي - وهو العالم المحدث - لكنه في الوقت نفسه قال لهم إنه يتشرف أن يبقى جندياً هو وعائلته في جيش القسام؛ لذا كان - رحمه الله - كلما كان هناك نشاط لحماس في شمال القطاع تجده في مقدمتها، كما كان يتقدم الصفوف في الرباط على الثغور؛ فتجده يحمل قاذفات خارقةً للدروع يقصف بها الدبابات في الاشتباكات الميدانية مع الاحتلال، ويحمل رشاشه يقاتل مع المجاهدين في الميدان، كما كان يمثِّل الجنديَّ الملتزمَ؛ حيث يحرص على حضور كافة الدورات العسكرية للقسام، ويكون أول المطيعين لمدربين هم في سنِّ أولاده في أكثر التدريبات قسوة.

خامساً: غَرْسُه في قلوب الأجيال حبَّ الأوطان والدفاع عنها:

كان - رحمه الله - يغرس في طلابه حبَّ الأرض الفلسطينية والتعلُّق بها؛ فكان يحدِّث - رحمه الله - فيقول: «كنا نأخذ طلاب الجامعة الإسلامية وطالباتها في الثمانينيات رحلات إلى داخل الخط الأخضر؛ حيث لم تكن معالم القرى الفلسطينية قد تغيرت كثيراً فإذا مررنا على قرية مثل (يبنا) أقول: من منكم من قرية يبنا؟ فنقول للطلاب خذوا من تربها ونباتها إلى غزة.

سادساً: وجوب التدرب على السلاح: 

كان الشيخ - رحمه الله - يرى وجوب التدرب على السلاح وخاصة لأهل فلسطين، ولا يرى عذراً لأحد في تركه، كما كان يدعو الجميع للرباط، وكان يعطي الشباب الذخيرة للتدريب على القنص، وكان لا يعتبر أن هناك إسرافاً في إطلاق الرصاص في حال التدريب، في حين كان يفتي بأن إطلاق النار في الجنائز إسراف لا يجوز شرعاً، وقد حدثني أخوه عبد اللطيف أنه في حرب الفرقان رأى أحد المجاهدين يطلق النار في إحدى الجنائز، فصادر الشيخ بندقيته، ثم ردَّها إليه قبل استشهاده بساعة.

وكان الشيخ أحياناً يدرب الشباب على السلاح بنفسه وخاصةً العلماء منهم. وقد حدثني أخوه عبد الطيف، فقال: اتصل بي الشيخ في إحدى المرات بعد صلاة العصر وطلب مني أن أُحضِر بندقيتين، وأن آتيه عند جامعة فلسطين في منطقة الزهراء وهي منطقة رمال تصلح للرماية والقنص، فوجدت هناك الدكتور نزار ريان ومعه أحد علماء غزة وولداه. يقول عبد اللطيف فأحضرت ثلاثة أنواع من السلاح كلاشنكوف، ومسدس، وm16. وبدأ الشيخ يدربهم. 

سابعاً: الشيخ يدفع أولاده للجهاد: 

كان - رحمه الله - يدفع أولاده للمقاومة والجهاد فيعطيهم أجرة الذهاب، فإذا سألوا عن أجرة العودة والإياب قال لهم: أنا لا أريد منكم أن ترجعوا.

ويومَ استشهادِ ولده إبراهيم كان على علم بأمور تجهيزه وتدريبه، وكان الشيخ يتـابع ذلـك أولاً بأول. وكان هدف إبراهيم في هذه العملية مغتصبة (إيلي سناي)، وهي تقع شمال غرب بيت لاهيا، وقد شاركه في هذه العملية الشهيد عبد الله شعبان، وكان متزوجاً وله ولد.

وعندما نجح إبراهيم وصاحبه في الوصول إلى المغتصبة، بقي الشيخ على اتصال مع ولده حتى نجح في قطع سلك المغتصبة؛ حيث اتصل بوالده وأخبره بذلك، وبينما هو يكلِّمه على الجوال وإذا بشاب يهودي يمشي مع فتاة شابة، فأطلق إبراهيم الرصاص عليهما وقتلهما، والشيخ يسمع صوت الاشتباكات ويشجعه ويحرضه على القتال. وحدثني عبد اللطيف (أخو الشيخ)، أنه هو والشيخ كانا يتابعان العملية من دار أخته التي كانت تسكن في مكان مرتفع يُطِل على المغتصبة. يقول عبد اللطيف: وكان يقول لي: ادع للمجاهدين، كما أوصى زوجاته أثناء العملية بالصلاة والدعاء. واستُشهد إبراهيم وصاحبه في هذه العملية؛ وذلك بعد اشتباك مع قوات الاحتلال من صلاة المغرب حتى منتصف الليل، وعندما بلغ أمَّه الخبرُ أطلقت الزغاريد، ولا غرو في ذلك؛ فقد كانت تعلم بخبر العملية مسبقاً.

حدثني أحد الإخوة الثقات مرةً، فقال: ذهبت إلى بيت الشيخ في اليوم الأول لاستشهاد ولده إبراهيم لأداء واجب العزاء وبصحبتي مجموعة من الإخوة. قال: فاستقلنا الشيخ وهو يضحك، فجلسنا معه لتناول طعام الغذاء، فقال لنا الشيخ: ما عملت عملاً أخلص لله من هذا العمل.

ثامناً: تعلُّق قلب الشيخ بالشهادة والتعرض لها:

كان قلب الشيخ معلَّقاً بالشهادة، ولا غرو في ذلك؛ فهو الذي كتب أطروحته في نيل رسالة الماجستير، في أحاديث الشهيد والشهادة، واطلع بذلك على الأحاديث التي ترغِّب، بالشهادة والتعرض لها؛ لذا كانت الشهادة أمنيةً في حياته، فقد دعا الله في مقدمة رسالته المذكورة، فقال: «أسأل الله - تعالى - أن يرزقني الشهادة مقبلاً غير مدبر، مخلصاً قانتاً، على ثرى فلسطين». 

وكان - رحمه الله - يرى مشروعية التعرض للشهادة، وقد زاد تعلُّقه بالشهادة بعد استشهاد ولده إبراهيم بشكل كبير، وهو ما جعله يحرص على صحبة المجاهدين وإياوئهم، ومن هؤلاء الشهيد صلاح شحادة؛ حيث كان الشيخ - رحمه الله - قد وفَّر له مأوىً في الحارة التي يسكنها، وقد بلغت العلاقة الجهادية بينهما إلى درجة أن أوصى صلاح شحادة بأن يغسله الدكتور نزار إذا هو استشهد.

وبلغ من حبِّه للشهادة أنه قرر أن يخرج في عملية استشهادية، وكان الشيخ قد تدرب جيداً للعملية، ولكن قبل تنفيذ العملية بيومين تسربت معلومات للقيادة؛ أن الشيخ واحدٌ من أعضاء المجموعة الاستشهادية، فصدرت الأوامر من قيادة الحركة بوقفه، فتأثَّر الشيخ حتى إنه بكى بكاءً شديداً، وزاد تأثُّره بعد أن نفذت المجموعة العملية واستُشهِد ثلاثة من أفرادها، حتى إنه أقسم لأخيه حمزة أنه سيخرج في عملية استشهادية رغم أنف الإخوة. 

تاسعاً: حبه للمجاهدين ورعايته لهم:

كان - رحمه الله - يحب المجاهدين ويحرص على سماع أخبارهم وحل مشاكلهم وتوفير الراحة لهم؛ فقد وفَّر المأوى والمبيت لكثير منهم، مثل الشهيد صلاح شحادة، ويحيى الغول، حتى إن الشهيد يحيى الغول استشهد وهو في طريقه إليه كما حدثني بذلك أخوه عبد اللطيف. 

وكان يزوِّد المجاهدين بالسلاح، وربما يعتذر لبعضهم في بعض الأحيان فيأتي أحدهم بأمِّه شافعةً. يقول عبد اللطيف: وكانت هذه نقطة ضعفٍ عند الشيخ، إذا جاءته أمٌّ تطلب سلاحاً لولدها فلا يتردد في إعطائها قطعة سلاح. 

 عاشراً: القول يهتف بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل:

كان - رحمه الله - يحرص في جهاده على أن يكون العمل رائدَه، حتى يكون لكلامه أثر؛ لذا كان يرفض أن يصرح أي تصريح جهادي وهو في بيته، فكان لا يصرح إلا في ميدان المعركة والجهـاد؛ ففـي معركة أيام الغضب، كان لا يتحدث لوسائل الإعلام إلا وهو في أرض المعركة وفي بزته العسكرية. 

وحدثني أحد المجاهدين مرةً أن إذاعة الأقصى طلبت من الشيخ نزار - في معركة (أهل الجنة) عندما اجتاحت القوات الصهيونية بيت حانون - أن يوجِّه كلمة للمجاهدين عبر الإذاعة، فقال لهم: موعدنا الساعة الحادية والنصف ليلاً، في أرض المعركة، وفي الموعد المحدد لبس جعبته وسلاحه وصرَّح لهم من أرض المعركة.
حادي عشر: العالم المجاهد القدوة:

لقد كان شيخنا - رحمه الله - يرى أنه يجب على العلماء أن يتقدموا الصفوف؛ ففي ذلك أبلغ الأثر؛ لذا كان - رحمه الله - يمثل العالِم المجاهد القدوة، ومن مظاهر هذه القدوة: 

1 - كان يشارك المجاهدين في حفر الأنفاق حتى أثناء مرضه، وقد سنَّ لهم سنَّة التسبيح والتكبير كوسيلة من وسائل الخطاب بين المجاهدين أثناء الحفر. 

2 - كان يشارك المجاهدين في المناورات والتدريبات العسكرية. 

3 - كان يزور المرابطين في رمضان ويطوف على كل نقاط الرباط دون استثناء، وكان أحياناً يشاركه في ذلك الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة، وصلاح شحادة، رحم الله الجميع.

4 - شارك المجاهدين في إطلاق صواريخ القسام وقذائف الهاون على مواقع العدو العسكرية، وطائراته. 
5 - في معركة أيام الغضب: كان يمثل قائداً روحياً للمجاهدين في المعركة، وكان يتقدم في النقاط المتقدمة؛ فكان يرابط أيام الغضب في منطقة خطيرة توصف بالأشباح في بيت (عبد ربه)، وعندما ترك المجاهدين أعطى كلَّ واحد مخزن رصاص.

ثاني عشر: كان يحب الرباط ويداوم عليه: 

كان - رحمه الله - يحب الرباط ويداوم عليه، وقد جعل قبل استشهاده بعامٍ ليلةَ الجمعة من كل أسبوع للرباط وكان يداوم على ذلك، حتى ولو كان مريضاً. وحدثني تلميذه بشير سليمان. قال: «سألته عن أجمل ليلة في حياته، فقال: ليلة رباط كنت فيها مع الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والمقاومة، وصحبت فيها صحيح البخاري، وعندما وصلنا إلى نقطة الرباط وجدنا هناك المجاهدين فأخذنا نربِّت على ظهورهم، فقالوا لنا بلسان الواحد: ما الذي جاء بكم إلى هنا، كفيناكم المؤونة؟ فرددنا عليهم جئنا نجاهد معكم، وذهبنا إلى نقطة متقدمة مفتوحة، فنصحونا أن نرجع إلى الخلف وألا نغامر بأرواحنا، فقلت لهم: هي موتة واحدة وَلْتكن في سبيل الله وجلسنا نتسامر في صحيح البخاري بقراءة كتاب الجهاد نقرأ ونعلِّق حتى أسفر الصبح.
 وكان إذا رأى أضواء مدينة عسقلان أثناء الرباط يُسَرُّ سروراً كثيراً مستبشراً بقرب النصر والتحرير متذكراً حديث رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّل هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافةً ورحمةً، ثم يكون مُلْكاً ورحمةً، ثم يتكادمون (يتعلقون به ولم يستمكنوا منه) عليه تكادُم الحُمُر، فعليكم بالجهاد؛ وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان»[2].

ثالث عشر: تشجيعه كبارَ السنِّ على الجهاد والرباط:

كان - رحمه الله - يفرح كثيراً إذا رأى رجلاً كبيراً في السن يرغب في الجهاد، وقد حدثني عبد اللطيف أخو الشيخ قائلاً: إن جماعة من كبار السن من رواد مسجد العودة في جباليا، جاؤوا إليَّ وطلبوا مني أن أكلِّم الشيخ حتى يأذن لهم في الرباط. قال: فالتقى بهم الشيخ في مكتبته العامرة وأعطى كلَّ واحد منهم بندقية، ثم اتصل بمسؤول الجهاز العسكري في المنطقة وأخبره أن يستوعبهم معه في الجهاز، كما أخبره أن ينظم سبعةً آخرين مثلهم، ووعده أن يعطيَ كل واحد بندقية. قال عبد اللطيف: وقد بلغ عدد هؤلاء بعد ذلك خمسين مجاهداً؛ فكانت هذه أول مجموعة مجاهدة من كبار السن.

رابع عشر: الجهاد يجمع الكلمة ويوحد الصفوف: 

كان - رحمه الله - ينتهز فرصة الالتحام بالعدو ليوحد صفوف المقـاومة؛ فهو القـائد الذي يجمع ولا يفرِّق. يقــول - رحمه الله -: «لست حزبيّاً في حال السلم والأمن والهدوء؛ فهل أكون حزبيّاً والسيف يحتزُّ الرقاب جميعها؟ إنني أزور كل المجاهدين، بلا استثناء، وأتقدَّم للخطوط الأمامية فأجد المجاهدين من كافة الفصائل، وفي هذه الأجواء الجهادية تذوب الفروق الفصائلية كلُّها؛ إذ ليس ثمة غير الهمس بصوت منخفض، وانحناء الظهر حتى لا يرصدك عدوُّك، والعناق الهادئ، لرفع المعنويات، والمصافحة لا على الهيئة العادية، كأنك تعانق الكف بالكف، وتسأل: كيف المعنويات؟ والجواب: عالية والحمد لله».
ويقول - رحمه الله -: وكنت مرة أطوف على المجاهدين وأتفقَّدهم، فقالت لي إحدى المجموعات المجاهدة: نحن فتح يا أبا بلال! فقلت لهم: وأنا أيضاً فتح، نحن هنا لردِّ الاجتياح والعدوان، وقد قال لي المجاهدون أكثر من مرة: نريد أن تبقى الوحدة الوطنية بيننا بعد الاجتياح، فأقول: بإذن الله.
خامس عشر: أخلاقيات الجهاد عند الشهيد نزار ريان:

حدثني الأخ نور عيد. قال سمعت بأذني الدكتور نزار يحدِّث أنه قبل العملية البطولية التي قام بها ولده إبراهيم بيوم أو يومين زار الدكتور نزار وولده إبراهيم معرضاً لصور شهداء الانتفاضة أقيم في أحد المساجد، وبينما كان إبراهيم يشاهد الصور إذ وقعت عينه على صور لأطفال صغار مزقت قذائف الحقد الصهيوني وصواريخه أجسادَهم الضعيفة، ولم ترحم طفولتَهم البريئة، وحينها أقسم إبراهيم والألم يعتصر قلبه، قائلاً: والله لن أرحم من اليهود صغيراً ولا كبيراً!

فقال الدكتور - رحمه الله -: «لا يا ولدي... الأطفال لا، الصغار لا، لا تقتل الأطفال»، وحتى يزيد الدكتور من إقناع ولده قال له: «أترضى أن يقتل اليهود أخاك فلان؟» وذكر له أحد إخوته الذي كان يومها رضيعاً في المهد، فأجاب: لا.

وجاء موعد التنفيذ وبدأت العملية وقتل إبراهيم من الجنود من قتل، ثم لجأ إلى بيت في المستوطنة ليحتمي به، ولما دخله إذا به يجد امرأة صهيونية ومعها عددٌ من أطفالها... 

ما ظنكم بصنيع إبراهيم الآن والقذائف تتساقط حوله، والموت يتخطفه؟

كان بإمكان إبراهيم أن يمزقهم أشلاءً، ولكن تذكَّر وصية والده الدكتور نزار، التي بقيت ماثلة أمام عينيه ما فارقته لحظة، فما كان منه إلا أن أخذ الأطفال وأُمَّهم ووضعهم في مكان آمن داخل البيت وأغلق عليهم الباب، وواصل معركته حتى ارتقى إلى ربه شهيداً. واعترفت المرأة الصهيونية «الأم» بالحادثة، وذكرت صنيع إبراهيم معها ومع أطفالها؛ وذلك حسب أجهزة الإعلام الصهيونية.

رحم الله أبا بلال وجميع إخوانه من العلماء العاملين المجاهدين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


[1] شرح كتاب الورع، للشيخ نزار ريان: 1/236.

[2] أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وذكره الشيخ الألباني في الصحيحة، رقم 3270 .

أعلى