معالم في النبوات عند ابن تيمية
طالما احتفى أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - بمقام النبوة، وفضلها، وضرورتها، ودوّن معالم جليلة وقواعد فريدة بشأن النبوات.
وإقراراً واتباعاً لسبيل النبيين والمرسلين، وتحدّثاً بهذه النعمة العظيمة: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومجانبةً لسبيل من ذمّهم الله ممن أنكر بعثته وجحد رسالته، كما في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83][1]؛ لذا نورد طرفاً من هذه المعالم[2] على النحو التالي:
- من إشراقات أبي العباس في بيان أن النبوات والرسالات آكد الضروريات قوله: «الرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياته وروحها؛ فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان»[3].
ويقرر أن الرسالة المحمدية أعظم نعمة على الإطلاق، فيقول: «من استقرأ أحوال العالم، تبيَّن له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله صلى الله عليه وسلم، وأن الذين ردوا رسالته هم ممن قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]»[4].
ويجزم - في موطن ثالث - بأنه لولا الرسل لما عُبِد الله وحده، ولا كانت شريعة في الأرض، فقال: «ينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عُبد الله وحده، ولا كانت له شريعة في الأرض.
وليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة، أو أثر نبوة، وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات»[5].
ولأجل ما سبق «صار ظهور الأنبياء مما تؤرَّخ به الحوادث في العالم؛ لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة، فإن التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى بعده وقبله»[6].
- ولما كانت النبوات آكد الضرورات وأعظم الحاجات، فإن دلائل ثبوتها لا تكاد تُحصى؛ فما كان الناس إليه أحوج فإن أدلته أيسر وأظهر وأكثر.
وقرر أبو العباس هذا المعلم في مواطن متعددة، كما في قوله: «قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة، وذكرنا طرقاً متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، غير طريق المعجزات.
إن الناس كلما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء، يسّر الله أسبابه، كما ييسّر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد.
فلما كانت حاجتهم إلى النَفَس والهواء أعظم منها إلى الماء، كان مبذولاً لكل أحد في كل وقت.
ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت، كان وجود الماء أكثر من ذلك.
فلما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم، كانت آياته ودلائل ربوبيته، وقدرته وعلمه ومشيئته، وحكمته؛ أعظم من غيرها.
ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك، أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك؛ أقام الله سبحانه من دلائل صدقهم، وشواهد نبوتهم، وحسن حال من اتبعهم، وسعادته، ونجاته، وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح، وقبح حال من خالفهم»[7].
وقال أيضاً: «إن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسّر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده، وأعلام النبوة وأدلتها؛ كثيرة جداً، وطرق الناس في معرفتها كثيرة»[8].
وبهذا يظهر فساد مذهب المتكلمين الذين حجّروا واسعاً، وضيّقوا ما وسّعه الله من دلائل، فظنوا أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، وقد بسط أبو العباس بطلان مقولتهم في «شرح العقيدة الأصفهانية».
ومن أجود استدلالاته وأقواها: استدلاله بالصفات الإلهية على إثبات النبوة، فقد احتج بصفة الحكمة الإلهية على ثبوت النبوة، فقال: «الكلام في النبوة فرعٌ على إثبات الحكمة التي يوجب فعل ما تقتضيه الحكمة، ويمتنع فعل ما تنفيه، وهو سبحانه حكيم، يضع كل شيء في موضعه المناسب له، فلا يجوز أن يسوّي بين جنس الصادق والكاذب»[9].
وقال - رحمه الله -: «قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فهو أعلم بمن يجعله رسولاً ممن لم يجعله رسولاً.
وهو عالم بتعيين الرسول، وأنه أحق من غيره بالرسالة، كما دلّ القرآن على ذلك، وقد قالت خديجة - رضي الله عنها - لما فجأ الوحي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخاف من ذلك: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)[10].
وكانت أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - أعقل وأعلم من الجهمية[11]، حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة، المتضمنة لعدله وإحسانه؛ لا يخزيه الله، فإن حكمة الربّ تأبى ذلك»[12].
- تحدّث أبو العباس عن بركات النبوات ومنافعها ومصالحها، وما تستلزمه من الأقيسة الصحيحة، والعقول السديدة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فقال - رحمه الله -: «والله سبحانه أرسل رسله بالعلم النافع، والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل، حصل له سعادة الدنيا والآخرة.
ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، تلقى ذلك عنه المسلمون من أمته.
فكل علم نافع وعمل صالح، عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أخذوه عن نبيهم، مع ما يظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية.
ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم فهو من الأصل المعلِّم»[13].
وقال عن أهل الإسلام أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدّ وأسدّ عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم و الأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال»[14].
ثم إن الشخص كلما كان أعظم اتباعاً للرسول، كان أتم عقلاً وأكمل فهماً.
يقول أبو العباس: «من تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الر سل والعمل به، كان أكمل عقلاً وسمعاً، وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كان أنقص عقلاً وسمعاً».
إلى أن قال: «والمؤمن بالرسل يقول: إن الله خصّهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين بما لم يشركهم فيه أحد من العالمين.
قال وهب بن منبّه: لو وُزن عقل محمد صلى الله عليه وسلم بعقل أهل الأرض لرجح»[15].
والأنبياء يحررون البشر من رق الشرك والوثنيات، ويبصّرونهم من العمى، كما قال أبو العباس: «والأنبياء يُصححون سمع الإنسان، وبصره، وعقله، والذين خالفوهم صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون.
فالسحرة يزيدون الناس عمى، وصمماً، وبكماً، والأنبياء يرفعون عماهم وصممهم وبكمهم»[16].
وقال أيضاً: «فالأنبياء كملوا الفطرة، وبصروا الخلق، كما في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: (أن الله يفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً)[17].
ومخالفوهم يُفسدون الحسّ والعقل، كما أفسدوا الأدلة السمعية.
والحسّ والعقل بهما تعرف الأدلة، والطرق ثلاثة: الحسّ والعقل والخبر، فمخالفوا الأنبياء أفسدوا هذا، وهذا، وهذا»[18].
وأخيراً، فإن البشرية اليوم تكابد الشقاء والضنك، وتعاني القلق والنكد، بسبب إعراضهم عما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من العلم والنور، والإيمان والروح، وبحسب الإعراض عما جاء به الرسول يكون الشقاء والنكد، وبحسب الإيمان به والاتباع تكون الحياة الطيبة والسعادة الأبدية، فالحمد لله على الإسلام والسنة.
:: مجلة البيان العدد 317 محرم 1435هـ، نوفمبر 2013م.
[1] واختار ابن جرير - في تفسير هذه الآية - أن المراد بالنعمة ها هنا: بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[2] طالعت غير واحد من الكتب المؤلفة في النبوات - قبل ابن تيمية - فلم أعثر على مثل هذه المعالم والفتوحات، ولا قريباً منها.
[3] الفتاوى 19/94،93.
[4] الجواب الصحيح 3/ 243، ط المدني.
[5] الصارم المسلول ص 249، 250، ت: محيي الدين عبد الحميد.
[6] الرد على المنطقيين ص 392.
[7] الجواب الصحيح 3/273، 274، وينظر: 4/301، وشرح الأصفهانية ت: السعوي ص 133، والدرء10/ 129.
[8] الرد على المنطقيين ص 254- 255.
[9] النبوات 2/ 917.
[10] أخرجه البخاري ومسلم.
[11] الجهمية ها هنا الذين ينكرونه صفة الحكمة وسائر الصفات الفعلية.
[12] منهاج السنة النبوية 5/ 437، 438، وينظر: المنهاج 2/420.
[13] الجواب الصحيح4/85، وينظر: 4/105،104.
[14] الفتاوى 4/10.
[15] الدرء 7/85،83 = بتصرف يسير، وينظر: الفتاوى 16/584.
[16] النبوات 2/1050.
[17] أخرجه البخاري.
[18] النبوات 2/ 1095.