إن عنصرية الغرب وجه ثابت للحضارة الأوروبية، وفي ذلك يطرح كافين رايلي، سؤالًا: هل عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة فريدة (حديثة)، أم أنها ارتكزت على دوافع ثقافية عميقة الجذور؟ وذلك أن قضية السواد والبياض كامنتان في الأدب الغربي، وتعكس وعيًا ثقافيًّا وواق
ارتقت قِيَم الحضارة الإسلامية فوق عنصرية الغرب التي تقرن الحضارة والتقدُّم بجنسها الأبيض.
ومع أنَّ الله -تعالى- خلق البشر سواسيةً في القُدرات والمَلَكات، ولم يختصَّ عِرقًا بالحضارة دون عِرْق؛ إلا أن المنظور العِرْقي للحكم على الشعوب كان -ولا يزال إلى حدّ بعيد- مسيطرًا على المخيلة الغربية مع الأسف؛ فالنظرة الأوروبية تنطبق على كل سكان المستعمرات في الجنوب والشرق.
ولذا فمن تداعيات النظرة العنصرية الحضارية الغربية أنها صوّرت البشر في إفريقيا على أنهم مُتخلّفون متوحشون، لا يعرفون شيئًا عن الحضارة، وهم هَمَجيُّون بدائيُّون بطَبْعهم، ولا سبيل إلى تحضُّرهم، وهي نظرة تزيد الإنسان الغربي الأبيض غرورًا وتصُّلفًا، وتُسوِّغ للدول الأوروبية استعمار إفريقيا، وقَهْر شعوبها المتوحشة، تحت دعاوى نشر الحضارة، متجاهلين أن هذه الشعوب كانت على درجات من الاستقرار والحضارة، ولها ثقافاتها الخاصة، التي تشرَّبت روح الإسلام وتعاليمه، وأيضًا سعوا إلى تعلُّم اللغة العربية، بوصفها لغة القرآن والعبادة والثقافة والعِلْم.
وبعبارة أخرى؛ فإن المنظور الغربي الاستعماري الذي ساد قرونًا، وبرَّر عقود الاستعمار الطويلة وجرائمه في إفريقيا والشرق؛ قدَّم سردية مزيَّفة عن الشعوب الشرقية والإفريقية، قوامها: التخلُّف والهمجية والبدائية.
وليس أدلّ على ذلك من آراء المعتمد السامي البريطاني في مصر، اللورد كرومر، الذي أصدر حكمًا عامًّا على كل شعوب الشرق بأنها شعوب متخلّفة، لا يمكن أن تصل في فكرها وعقليتها ونفسيتها إلى مستوى الأوروبي. يقول: «يعرف كلُّ مَن عاشوا في الشرق، وحاولوا الاختلاط بالسكان المحليين؛ حق المعرفة، مدى استحالة الأمر على الأوروبي عندما يحاول النظر إلى العالم بعيني الرجل الشرقي. واقع الحال أن الأمر قد يتخيّل، في وقت من الأوقات، أنه هو والشرقي يفهم بعضهما بعضًا، لكن عاجلًا أو آجلًا، يجيء الوقت الذي يصحو فيه الأوروبي، ويجد نفسه أمام عقلية غريبة، تبدو كما لو كانت عقلية ساكن من سكان كوكب زحل»[1].
إنها رؤية استعلائية، شديدة العمومية والتعصب والتحيُّز، تتَّخذ من تصورات الحضارة الغربية مرجعيةً ومعيارًا للحكم على سائر الشعوب، خاصةً تلك الرازحة تحت الاستعمار؛ فلا يمكن للأوروبي أن يفهم عقلية الرجل الشرقي، ولا سبيل إلى الالتقاء بينهما؛ لأن عقلية الشرقي يستحيل فهمها، فهو من عالم آخر ليس بشريًّا. ويرى كرومر أن المشكلة الحقيقية عند أهل الشرق، تتمثل في: «اختلاف الدين، واختلاف طرق التفكير، وافتقار الشرقيين إلى الاتساق الذهني والدقة؛ الذي يُعَدّ مَعْلمًا فارقًا بين الشرق المغالي غير المنطقي، والغرب المنطقي؛ الذي أَوْلَى دراسة حياة الشرق وسياسته اهتمامًا كبيرًا. وهناك أيضًا الحقيقة التي مفادها أن الدين في الشرق يتغلغل في الحياة الاجتماعية وقوانين وعادات الناس، أكثر منه في أوروبا»[2].
قوام رؤية كرومر ومنطلقاتها؛ أن الشرقي لا يعرف التفكير المنطقي، وأن السبب في ذلك تغلغل الدين (الإسلام) في حياته وطريقة تفكيره، فهي رؤية علمانية، تنتصر للمنظومة الفكرية الغربية برُمّتها، فتجعل الأوروبي -وحده-حاملًا للحضارة، والرُّقي، والعقلانية، والاتساق الذهني، والدقة، والعِلْم؛ ومِن ثَم تنفيها عن سائر الشعوب، هكذا وبكل عمومية، ليسوِّغ استعماره لها، ويُشْبِع غروره واستعلاءَه الحضاري.
والغريب أن كرومر يصطنع التنازل عن استعلائه، ويرى في نفسه أنه ممثل لرسالة حضارية يحملها إلى أهل الشرق، فيقول: «قضية الإصلاح المصري واحدة من القضايا التي أُوليها اهتمامًا شخصيًّا كبيرًا. إن قضائي نصف حياتي في بلدان شرقية، جعلني أُردّد بقوة الأبيات التي كتبها الشاعر رديارد كبلنج: إذا ما سمعت الشرق يناديك، فلن تعبأ مطلقًا بشيء غير هذا النداء»[3].
وهكذا يكون التجاهل التام لمنطق الاستعمار وسيطرته على بلدان الشرق، وما ارتكبه من مذابح وجرائم ونهب لخيرات الشعوب، وكأنه مضطر إلى أن يكون ممثلًا للاستعمار، ويرى هذا قيمة حضارية، ويستشهد في ذلك بأبيات الشاعر كبلنج، والمعروف عنه أنه شاعر الاستعمار، الذي تغنَّى وافتخر بكلّ ما فعلته الإمبراطورية البريطانية. فهو «داعية بليغ من دعاة الحرب، لا يَعرف عُصبة الأمم، ولا يُؤمن بتحقيق السلام». وهو نقيض «المنحطين» من حيث إنه يجعل الفن وسيلة لخدمة الاستعمار البريطاني في حين كان شعراء عصره يجعلون الفن غاية. وقد احتقر الهنود وادَّعى أنهم والمصريون، والبوير، والزنوج لم يُخلَقوا، وليس لوجودهم معنًى أو مغزًى إلا أن يخدموا شعب الله المختار؛ أي الإنجليز. وهو صاحب الكلمة الاستعمارية المشهورة: «لا يعرف إنجلترا مَن لم يعرف سوى إنجلترا»؛ ويعني بذلك أن الإنجليز هم عمداء شعوب الأرض، وأن عظمة الإنجليز تتضح في مستعمراتهم التي لا تغيب عنها الشمس.
كما كان كبلنج معجبًا باللورد كرومر ويَعُدّه من عظماء العالم، وينسى أن كرومر صاحب مذبحة دنشواي؛ تلك المذبحة التي جرت في الثالث عشر من حزيران/ يونيو عام 1906م في قرية دنشواي المصرية في محافظة المنوفية في منطقة غرب الدلتا؛ بسبب عراك بين خمسة ضباط إنجليز وفلاحين مصريين؛ حيث أطلق ضابط النار على زوجة إمام المسجد، ثم أحرق الجُرْن [مكان جَمْع المحاصيل الزراعية]؛ فثارت القرية، فهرب الضابط الإنجليزي وتُوفِّي لاحقًا بضربة شمس وفق تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي. وكان ردّ الفعل الغاشم للسلطة الإنجليزية، وعلى رأسها اللورد كرومر، غايةً في العنف، وبطريقة متعجرفة شنيعة، فحكموا بالإعدام على ستة رجال، والسجن بعشرات السنين على ثلاثين شخصًا، وتم تنفيذ حكم الإعدام في ساحة القرية أمام الناس[4].
هذا كرومر الذي رصد حياته كي يعوق أمة كبيرة (هي مصر) عن التقدم، وكان يبتزّ أموالها لدولته بريطانيا، ويخدم مشروعاتها وخطتها في نَهْب موارد مصر. إنه شاعر خان الحرية الإنسانية، وهو قبل كل شيء يدعو إلى السيف والنار، ويتغنَّى بالمدمّرات والغواصات[5]، ثم يعود كبلنج ليتّهم المستضعفين بالتخلُّف والرجعية!! وهكذا تموت القِيَم الإنسانية في أبيات كبلنج.
إن عنصرية الغرب وجه ثابت للحضارة الأوروبية، وفي ذلك يطرح كافين رايلي، سؤالًا: هل عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة فريدة (حديثة)، أم أنها ارتكزت على دوافع ثقافية عميقة الجذور؟ وذلك أن قضية السواد والبياض كامنتان في الأدب الغربي، وتعكس وعيًا ثقافيًّا وواقعًا متعصبًا، يتَّخذ من لون البشرة سبيلاً للتمييز بين الناس.
ومعلوم أن العنصرية خُلُق منبوذ بشريًّا منذ القدم؛ بدَا في نظام الرق قديمًا، ولكن مهما قيل في الرقّ من مثالب، فإنه يتضاءل أمام الممارسات الغربية في العصور الحديثة. فقديمًا كان للرقيق حقوق محفوظة إنسانيًّا (وكذلك في الشريعة الإسلامية)، أما الاستعمار الأوروبي الحديث فقد مارَس العنصرية في أبشع أشكالها، من خلال الاستغلال البشع للأفارقة والهنود الحمر الأمريكيين؛ للعمل في المزارع والمناجم، بجانب الإبادة الجماعية التي مُورست ضد مَن تمرَّد منهم، ومَحَوا في سبيل ذلك شعوبًا بأكملها، وطوَّروا مجموعة مفصلة من التبريرات (الأفكار والنظريات ومشاعر التفوق العنصري) التي تجاوزت عنصرية المجتمعات السابقة، عبر تبنّيها مِن قِبَل النُّخبة الفكرية والسياسية الحاكمة في الغرب، التي نشرت ميكروب العنصرية في العالم. فجميع المستوطنات الاستعمارية في العالم الجديد (أمريكا الشمالية والجنوبية)، ازدهرت بإبادة سكانها الأصليين، وكذلك إفريقيا أصبحت مهدًا لأسواق العبيد الدولية، ناهيك عن سكان الهند والصين. حتى صار ذلك نهجًا استعماريًّا[6]؛ يتعصّب لكل ما هو غربي: البياض لونًا، والاستعلاء ثقافةً، والاستكبار سياسةً، والسيطرة هدفًا.
أي أن الاستعمار الغربي أوجَد نسقًا فكريًّا متجانسًا، قوامه -كما يقول صموئيل هنتنجتون- أن الحضارة تُضادّ البربرية، فالمجتمع المتحضّر يختلف عن البدائي؛ لأنه مجتمع مستقرّ متمدّن، وليس أُميًّا. وقدَّم الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر تنظيرات عن الحضارة للحكم على الشعوب في العالم بوصفها مجتمعات متحضرة أو بربرية، ووضعوا معايير فكرية وسياسية ودبلوماسية، للحكم على هذا الشعوب، وقبولها ضمن النظام العالمي الذي تسيطر عليه أوروبا[7]، فإن لم تتفق مع المعايير الأوروبية فيَحِقّ لأوروبا أن تحتلّها عسكريًّا، وهناك جيش من المُنَظِّرين والمفكرين والشعراء يُبرِّرون له جرائمه، ويُضْفُون المشروعية عليها.
[1] مصر الحديثة، اللورد كرومر، ترجمة: صبري محمد حسن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2014م، مج1، ص59.
[2] المرجع السابق، ص60.
[3] المرجع السابق، ص61.
[4] وقد أدت التفاعلات إلى عزل كرومر وتأجيج الغضب الشعبي ضد المحتل وكل من يتعاون معه. انظر تفصيلاً: حادثة دنشواي، عدد خاص من مجلة المجلات المصرية، فبراير 1908م، ص28، وما بعدها.
[5] الأدب الإنجليزي الحديث، سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017م، ص47، 48.
[6] الغرب والعالم: تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، كافين رايلي، ترجمة: د. عبد الوهاب المسيري، د. هدى حجازي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1986م، ج2، ص81، وأيضًا ص86، 87.
[7] صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي الجديد، صاموئيل هنتنجتون، ترجمة: طلعت الشايب، منشورات سطور، القاهرة، ط2، 1999م، ص67، 68.