الضربة العسكرية المرتقبة على سورية
كل الأنظار تتجه اليوم إلى الضربة العسكرية المرتقبة
على سورية، التي تقودها الولايات المتحدة وفرنسا، بعد الانسحاب البريطاني منها.
ولا شك أن سير الحملة تباطأ كثيراً بعد رفض مجلس العموم البريطاني لها وقرار
الرئيس باراك أوباما انتظار التصويت عليها في الكونجرس قبل التنفيذ، والذي قد يرفض
الضربة ويضع أوباما في موقف حرج للغاية. ومع قرار أوباما المفاجئ هذا، صرّحت بعض
المصادر المطلعة أن السبب الرئيس لهذا التحول يعود إلى قناعته الشخصية بأن بوتين
قادر على إجبار بشار الأسد على التنحي في ظل التصعيد العسكري الحالي، إضافة إلى
القيام بمزيد من التشاور والحشد في قمة مجموعة العشرين G20. ومع
كل ذلك، فإن الدلائل ما زالت تشير إلى أن الضربة قادمة، من ذلك: تصريح أوباما
ووزير خارجيته كيري أن الرئيس له صلاحية السير قدماً بالهجوم حتى من دون إذن الكونجرس،
استعدادات الجيران تركيا والأردن والصهاينة لهجوم كيميائي محتمل وذلك من خلال
توزيع الأقنعة ووجود مئات الخبراء هناك، تأهب قوات خاصة في الأردن للسيطرة على
مخازن الأسلحة الكيميائية، نشر بطاريات الصواريخ على الحدود التركية والفلسطينية
مع سورية، تحركات حثيثة لقوات بشار ونقلها أعداداً من السجناء إلى مراكز عسكرية
قابلة لأن تشملها الضربة ونقلها المعدات العسكرية إلى المناطق السكنية والمدارس،
وجود 5 سفن حربية و3 غواصات متطورة أمريكية في البحر المتوسط وبعض السفن وغواصة
فرنسية كذلك، ثم لحاق سفينتين روسيتين بكل هذه التجهيزات... وغير ذلك. وحيث إن
التجهيزات العسكرية للضربة تناقش علناً وبتفاصيل يفترض أن تبقى طي الكتمان، وهو
أمر مريب، فقد لحق بتلك السفن سفينة برمائية أمريكية قادرة على نقل مئات من جنود
البحرية إلى الداخل.
ويأتي هذا الحراك بعد قرابة عامين ونصف من المذابح التي
ترتكب بحق الشعب السوري من قبل عصابات الأسد النصيرية وأعوانهم من صفويي إيران
ولبنان والعراق التكفيريين وبمساعدة أطراف إقليمية ودولية مختلفة. والسؤال الذي
يطرح نفسه هو ذاك المتعلق بتوقيت الضربة، لماذا الآن؟ وما الذي تغير؟ وكل هذا بسبب
الضربة الكيماوية؟ والجواب الأول نعم، إن الأمر متعلق بالكيماوي من عدة جهات، كلها
غير مرتبطة بالناحية الإنسانية. السبب الرئيس هو الخط الأحمر الذي تمنى أوباما أنه
لم يحذر به، لأنه بمجرد ما أطلق ذلك التهديد وتجاوزه بشار الأسد فليس لدى أوباما
خيار إلا الوفاء بتحذيره. وهذا ليس من باب صدق القول، وإنما من باب ما يسمى الحفاظ
على قوة «الردع» في الدراسات الاستراتيجية؛ فعدم الوفاء بعهد كهذا يجَسِّر الأعداء
ويظهر الولايات المتحدة في مظهر الضعف والتردد في القرار. ويتأكد هذا في ظل سعي
النظام الأسدي ومؤيديه لبرهنة قدرتهم على زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو ما
يُفهم من الحدثَيْن اللذين تَلَيا الكيماوي، وهما: إطلاق 4 صواريخ غراد من جنوب
لبنان على شمال فلسطين المحتلة في اليوم التالي، وتفجيرا طرابلس في اليوم الذي
بعده. الأمر الآخر بالنسبة للتوقيت هو أن استعمال الأسلحة الكيماوية يقلق
الصهاينة، خاصة في بلدٍ مجاورٍ لهم، فهم لا يوَدّون رؤية استعمال تلك الأسلحة على
تلك المقربة من حدودهم، وإن استُعمِلت ضد من يعتبرونهم أعداءً، فهم يخافون من وجود
تلك الأسلحة في منطقة يسود فيها الفوضى، خشية أن تقع تلك الأسلحة في يد أعدائهم أو
يد من قد يهاجمهم يأساً أو ترويجاً لكذبة المقاومة والممانعة.
بالنسبة لطبيعة الضربة ومداها، فقد صرحت الإدارة
الأمريكية أنها ضربة سريعة وقصيرة المدى، وهذا ما تشير إليه الدلائل؛ فالهدف
المعلن ليس إسقاط النظام وأمريكا لا تريد التورط في سورية على المدى البعيد. هذا
وقد كرر أوباما رفضه إرسال جنود على الأرض. إذن يبقى السؤال المهم عن جدوى هكذا
ضربة. وبعد النظر في مختلف تحليلات المراكز الكبرى للدراسات السياسية
والاستراتيجية والمجلات المعنية بذلك، مثل: بروكنجز وستراتفور وفورين بوليسي
وفورين أفيرز وغيرها؛ من الواضح أن هناك شبه إجماع على عدم جدوى الضربة السريعة
والقصيرة التي تنوي واشنطن توجيهها، وذلك لأسباب، منها:
1- أن هكذا ضربة ربما تضعف النظام قليلاً لكنها
لن تحدث تغييراً في توازن القوى على الأرض. أقول: وهذا مقصود لذاته.
2- يبدو أن القيادة العسكرية لم تدرج أياً من
الأهداف الخطيرة التي سلمتها لها رئاسة هيئة الأركان السورية الحرة.
3- أن الضربة الخفيفة لبعض قدرات النظام
العسكرية ربما تستفز إيران وروسيا فيعوضوه بمال وسلاح يفوق تأثير الضربة عليه.
4- أن أي هجوم لا يكون قاضياً عليه سيُقوّيه
أكثر لأنه سيستغل الإعلام لتصوير الضربة على أنها ضربة إمبريالية صليبية، كما فعل
القذافي وأنصاره في ثورة 2011، وأيضاً سيصور الانسحاب الأمريكي على أنه نصرٌ له.
5- أن التدخل لا يمكن أن يكون جزئياً، وحالما
تدخل أمريكا عسكرياً فلن يكون بمقدورها الانسحاب بتلك السهولة.
ولئن أردنا تحليل أهداف الضربة، فلقد أراحتنا الإدارة
الأمريكية من عناء ذلك وبيَّنت علناً أن إسقاط بشار ليس هو المقصود. وعندها يبقى
احتمالان آخران: إضعافه أو إنقاذه. لو سلّمنا أن الضربة العسكرية ستضعفه من خلال
استهداف بعض مواقع تمركز دفاعاته الجوية ومنصات الصواريخ ومراكز القيادة والسيطرة،
وربما كذلك بعض مواقع الأسلحة الكيماوية، وإن كان مستبعداً؛ لنا أن نتساءل: أي
إضعاف هذا الذي لن يستغرق إلا أياماً معدودةً وحملة الناتو على ليبيا استغرقت 7
أشهر؟ وبحسب قيادات عسكرية أمريكية فإن الدفاعات الجوية السورية أقوى بخمسة أضعاف
من تلك التي كانت في ليبيا، وإن كان ثَمّة فروق بين حالة التدخل في ليبيا والتدخل
الحالي في سورية.
أما إنقاذ بشار الأسد، فذلك لا يعني إنقاذه من ورطته
وإبقاءه، فذلك ضرب من المستحيل، وأمريكا وحلفاؤها يدركون ذلك. إذن إنقاذه سيكون من
خلال إيقاف المد العسكري الجهادي الذي سيحكم الخناق عليه عاجلاً أو آجلاً، ثم إقناعه
بالتنازل عن السلطة والجلوس مع المعارضة بهدف إحراز تسوية سياسية تنهي الأزمة
وتستبقي أجزاءً كبيرةً من نظامه الفاسد. وهذا الحل السياسي هو ما أشارت إليه مجلة
فورين أفيرز، التي رأت أن الحل الأمثل هو الضربة السريعة التي تدفع النظام إلى
طاولة المفاوضات. لكن ما لم تذكره هو موقف الثورة الرافض للتفاوض مع الأسد
وقَتَلَته بأي حال من الأحوال.
ومع قوة خطاب أوباما ووزير خارجيته من قبله والإصرار
على تنفيذ هذه الضربة، إلا أن الرجلين لم يُخفِيا كذلك حقيقة الحل الذي يرونه وهو
الحل السياسي من خلال المفاوضات. ولعل هذا من الدروس القاسية التي تعلمتها الولايات
المتحدة من كارثتي أفغانستان والعراق، وهي أن العمل العسكري غير المصحوب بمشروع
سياسي بديل يورث الفوضى ونتائج عكسية ولا يصنع استقراراً.
وإذا صدقت الأخبار عن حدوث اتصالات سرية بين وكالة
الاستخبارات المركزية CIA وضباط في جيش الأسد لحثهم على الانشقاق
والقيام بانقلاب عسكري؛ فذلك يشير إلى أن القوى الدولية بشكل عام والإدارة
الأمريكية بشكل خاص لديها «سيسي» سوري محتمل للالتفاف على ثورتنا وتفريغها من
مضمونها، وضمان مصالح الدول التي أتت به. لكن حيث إن الشعب السوري أثبت وعيه وبُعد
نظره السياسي عبر العامين المنصرمين بالنسبة للمحاولات الدولية لشراء المعارضة
وتحييدها عن أهداف الثورة؛ فإن الالتفاف على ثورته لن يكون أمراً سهلاً.
ولئن كانت نية إضعاف بشار موجودة فعلاً، فذلك لا
ينطبق فقط عليه، وإنما كذلك على المجاهدين، خاصة من تعتبرهم أمريكا «إرهابيين».
وقد بذلوا جهوداً مضنيةً للتعرف عليهم لاستهدافهم بطيارات دون طيار. بل في أحد
اجتماعات المخابرات الأمريكية في الأردن فاجؤوا أحد القادة العسكريين المعارضين
بطلبهم التصدي لـ «جبهة النصرة» حتى قبل مقاتلة الأسد! وحيث إن استخدام طيارات دون
طيار لضرب «جبهة النصرة» وغيرهم ممن تستهدفهم أمريكا سيكون ضرباً من الحماقة
والسخافة التكتيكية؛ فالمرجح أنهم سيستعينون ببعض العملاء لذلك أثناء الضربة، وبـ
«السيسي» القادم و«الصحوات» التي سينشئها لضرب المقاتلين ببعض على المستوى البعيد.
ولا شك عند متابعٍ منصفٍ أن إطاحة المجاهدين بعصابة
الأسد كابوس مقلق للغرب، سواءً كانوا من الجيش الحر أو ممن يسميهم الغرب
«الجهاديين»؛ فكلهم مُدرَجون تحت مظلة «الإسلاميين السنة» الذين قد يصلون إلى
الحكم في سورية، وبالتالي يقلبون الموازين. ولئن كان الكلام على هذا الأمر محرماً
في الإعلام الغربي في بدايات الثورة، إلا أنه الآن يملأ صحفهم وتحليلاتهم دون خجل
أو مواربة. وممن تكلم عن حاجة الغرب للتدخل في سورية وفي غاية الوضوح رئيس الوزراء
البريطاني الأسبق توني بلير، الذي علّل التدخل بالقضاء على «التشدد» ومنع سورية من
أن تصبح ملاذاً للمتشددين أخطر بكثير من أفغانستان في التسعينيات!
لقد أدرك الشعب السوري منذ بدايات الثورة أن الغرب
ليس له مصلحة في انتصار الثورة ووقف المجازر سريعاً، وإنما يريد إطالة أمد الصراع؛
إضعافاً للجهتين، وحفاظاً على مصالحه وأمن الصهاينة. وأدرك حينها الحراك الثوري أن
الغرب سيتدخل فعلاً لكن في الوقت الذي يراه مناسباً ويحقق تلك المصالح. ومنذ ذلك
الحين والشعب السوري على يقين بألا ناصر له إلا الله، ثم تضحيات المخلصين من
المجاهدين والداعمين والسياسيين والناشطين.
إذن يمكن تلخيص أهداف الضربة العسكرية في
النقاط التالية:
1- الحفاظ على ماء الوجه بعد جعل استخدام
الأسلحة الكيماوية خطاً أحمر.
2- منع المقاتلين من تحقيق النصر على النظام
الأسدي.
3- التسريع في تسوية سياسية تحت أعين الدول
المشاركة بالضربة وحسب شروطهم.
4- السيطرة على الأسلحة الكيميائية حفاظاً على
أمن الصهاينة.
5- استهداف المقاتلين الإسلاميين الذين تصنفهم
القوى الدولية بـ «الإرهابيين».
ومن المفهوم أن أنصار الثورة السورية في الداخل
والخارج على مختلف مشاربهم، مجاهدين ونشطاء وعلماء وسياسيين؛ منقسمون في تأييد هذه
الضربة من عدمه. وهذا الانقسام طبيعي في فتن تجعل الحليم حيران وخيارات أحلاها مر.
لكن لا ينبغي الوقوف عند ذلك؛ لأن معارضة الضربة غالباً لن تجدي شيئاً في ظرفنا
هذا، فواشنطن لا تلقي بالاً لمعارضة أحد إذا استيقنت أن مصلحتها تكمن في فعلها
هذا. وهذا ما حدا بها الآن لتجاوز الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتجهز «ائتلاف
الراغبين» الذي سيشاركها في الهجوم. وهذا ما فعلته في العراق في 2003، ولم تثنِها
حينها المظاهرات العالمية المعبّرة عن الرفض العالمي لتلك الحرب الظالمة.
إذن، بغض النظر عن رأينا في
الضربة وتأييدنا لها من عدمه، الأفضل هو العمل على استغلال الضربة لتحقيق أكبر قدر
من المكاسب التي تصب في مصلحة ثورتنا، وذلك سيكون من خلال استعداد المجاهدين التام
للانقضاض على مختلف مراكز القوة للنظام مستغلين معنويات الجنود المنهارة والهلع
المسيطر عليهم من قرب موعد الضربة. وإذا صدقت الأخبار عن هروب بعض عائلات آل مخلوف
وشاليش وغيرهما من أعتى مناصري النظام إلى لبنان، إضافة إلى ما ثبت من انشقاقات في
صفوف الضباط منذ الإعلان عن الضربة؛ فذلك دليل على فاعلية الحرب الإعلامية التي
نستطيع شنها عليهم من خلال قنوات الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي. والمطلوب
اليوم العمل على رصّ الصفوف والتأليف بين الكتائب المجاهدة على أرض الوطن،
والاعتصام بحبل الله جميعاً. والمطلوب كذلك التسلح بيقين أن النصر من عند الله وأن
الكَوْن بيده يقدر فيه ما يشاء، ثم علينا الإدراك أن الحسم العسكري لن يكون إلا
بأيدينا نحن، وعلينا التأكيد والتذكير بأُسس الثورة وما خرجنا وقدمنا مئات آلاف
الشهداء والجرحى من أجله، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
:: "البيان" تنشر ملف شامل
ومواكب لأحداث الثورة السورية
::
مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر 2013م.