الغرب والموقف من الثورة السورية
وصلت رياح الربيع العربي إلى سورية فاندفع الشعب السوري في ثورة سلمية عارمة ضد الاستبداد القائم في البلاد، لكن هذا الاستبداد القائم أجبر الشعب على عسكرة الثورة.. ومنذ عامين والأرض السورية تشهد معارك ضارية بين الشعب والنظام.. ومنذ انطلاق الثورة السورية والموقف الغربي المعلن هو التأييد لثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد المستبد.. لكن بعكس الموقف الغربي المؤيد للثورة الليبية الذي وصل إلى حد التدخل العسكري لإسقاط نظام القذافي؛ فقد جاء الموقف الغربي من ثورة الشعب السوري باهتاً ويثير كثيراً من علامات الاستفهام.. فبعد عامين من عمر الثورة ما زال الغرب يبحث إمكانية تزويد المعارضة السورية بالسلاح من عدمها، الأمر الذي يثير كثيراً من الشكوك والتساؤلات إزاء هذا التأييد الغربي المعلن.. لكن مع كل ذلك فإنه لا يمكننا أن ننكر أن هناك دعماً سياسياً غربياً واضحاً وملموساً للثورة السورية، وهو ما يشير إلى أن السياسة الغربية تؤيد تأييداً بكل وضوح الإطاحة بنظام بشار الأسد.. لكن يبدو أن هناك مشاكل في التفاصيل هي التي أبقت الغرب متردداً في تقديم دعم عسكري حقيقي للثورة السورية طوال عامين من عمرها. لعل عدم الوضوح في الموقف الغربي يأتي من الحساسية البالغة لمنطقة الشرق الأوسط وكثرة التناقضات السياسية والاجتماعية والأمنية في هذه المنطقة.
إن مصالح الغرب في سورية تدفع بالسياسة الغربية إلى السعي لإقامة نظام علماني مسالم ويكون بعيداً عن المحور الإيراني.. وهذه معادلة من الصعب تحقيقها إزاء واقع الثورة السورية على الأرض؛ فسقوط بشار الأسد سيخرج سورية من المحور الإيراني، لكن سقوط سورية في يد المعارضة المسلحة لا يضمن للغرب إقامة نظام علماني مسالم، فالجماعات الجهادية الإسلامية حاضرة بقوة في المشهد العسكري، وهي جماعات معلوم بكل وضوح من خلال أدبياتها أنها لن تكف عن القتال، وسيكون هدفها الثاني بعد سقوط دمشق القدسَ الشريف، وهذا ما يجعل الغرب متردداً في دعم الثورة عسكرياً. وقد أوضح الرئيس أوباما ذلك عندما تحدث حول تردد أمريكا في تزويد المعارضة السورية بالسلاح فقال: «القضية تكمن في كيف لنا أن ندعم معارضة قوية وقادرة على عزل المتطرفين». ولذا نرى أن الولايات المتحدة سمحت بوصول بعض الأسلحة إلى المعارضة عن طريق حلفائها بالقدر الذي يبقي هذه المعارضة على قيد الحياة بهدف استنزاف هذه المعارضة الإسلامية واستنزاف نظام الأسد وحلفائه.
إن نظام الأسد سيكون الخيار الأفضل للغرب إذا ما قورن بالجماعات الجهادية الإسلامية، فطوال أكثر من ربع قرن عرفت الجبهة السورية الإسرائيلية في الجولان هدوءاً لا مثيل له بين بلد وبلد آخر يحتل أجزاء من أرضه.. لكن الغرب يتلمس أن تكون الثورة السورية فرصة لوصول نظام علماني مسالم إلى السلطة قادر على عزل من يسميهم المتطرفين، ويكون أداة لانتزاع سورية من المحور الإيراني، وهذا ما يعمل عليه الغرب دائماً.
من أهم العوامل التي تلقى اهتماماً غربياً كبيراً في المشهد السوري، هو ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية.. فقد استحوذ هذا السلاح الاستراتيجي على اهتمام غربي كبير منذ اندلاع الثورة.. فالغرب يعلن صراحة خوفه من وقوع هذا السلاح بيد من يسميهم المتطرفين من الجماعات الإسلامية المقاتلة في سورية، فالسلاح الكيماوي هو السلاح القادر على تحقيق فعل استراتيجي عسكري يتجاوز الحدود السورية، وهو الفعل الذي سيجد الغرب نفسه مرغماً على الانحناء ولو قليلاً لتفادي أخطاره.. فمتى ما قرر طرف ما استخدام هذا السلاح ضد إسرائيل، فسيكون ذلك مشكلة حقيقية كبيرة تعجز منظومات الأسلحة الغربية المتطورة عن تفادي أضرارها السياسية والنفسية حتى قبل الاستخدام الفعلي لهذا السلاح.. وفي هذا تهديد حقيقي يستدعي الانتباه؛ ولذا كان التركيز الغربي منصباً منذ بدايات الثورة على هذا السلاح؛ فمنذ بواكير الثورة السورية أعلن الرئيس الأمريكي أن استخدام هذا السلاح هو خط أحمر.. والحق الذي لا جدال فيه أن ما يقصده الرئيس الأمريكي هو استخدام السلاح الكيماوي ضد حلفاء أمريكا، وفي مقدمتهم إسرائيل.. ولذا فقد استخدم النظام السلاح الكيماوي مراراً وتكراراً ضد المعارضة والشعب السوري ولم يرَ الغرب في ذلك تجاوزاً لأي خط أحمر.
ومن خلال تجربة النظام مع الغرب في استخدامه لهذا السلاح خلال السنتين الماضيتين، فقد كان على ثقة مفرطة بأن الغرب لا ولن يهتم بأي ضرر قد يلحق الشعب السوري والمعارضة السورية من جراء استخدام هذا النوع من الأسلحة، فبادر بكل جرأة وثقة إلى استخدام الكيماوي بكثافة على مقربة من دمشق في 21 أغسطس الماضي كما هو معلوم فيما يعرف بمذبحة الغوطة الشرقية.. فقد أقدم النظام على هذا العمل الإجرامي في ظل وجود فريق المراقبين الدوليين في دمشق، وهو ما يعكس الثقة العالية للنظام بعدم صدور أي إدانات له إزاء استخدام الكيماوي ما دام أن استخدامه بعيد عن حلفاء الغرب في المنطقة من خلال تجاربه السابقة.
لكن الموقف الغربي بدا مختلفاً هذه المرة ومفاجئاً..
فقد قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما معاقبة النظام السوري على استخدامه الكيماوي ضد شعبه بضربة عسكرية قال إنها لن تؤثر على ميزان القوى بين النظام والمعارضة على الأرض. وشدد على أن الضربة قد تكون قريبة، ومن ثم تم العمل على حشد القوة العسكرية الأمريكية في شرق المتوسط استعداداً للضربة، كما جرى إبلاغ المعارضة السورية بأن الضربة وشيكة وستكون خلال أيام، في حين أعلن قادة البنتاغون جاهزية الخطط للضربة العسكرية التي أسهب المسؤولون الأمريكيون في وصفها وفي كونها ضربة تستهدف ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية بهدف إحداث شلل في قدرات النظام على استخدام هذا السلاح مستقبلاً، وأن الضربة ستكون محدودة ومدروسة بحيث لن تؤثر على موقف النظام العسكري، في تلميح واضح لإظهار حرص الغرب على ألا تسقط سورية في يد المعارضة المسلحة في هذه المرحلة.. وكان كل ذلك بمثابة إيحاءات واقعية تدلل على جدية الضربة العسكرية الأمريكية.
كانت الجدية التي ظهر بها الموقف الغربي ملفتة للنظر وتستدعي الاهتمام والتعجب؛ إذ تأتي هذه التحركات بعد عامين من عزوف الغرب عن تقديم العون العسكري اللازم للمعارضة السورية خوفاً من سقوط مدوٍّ للنظام في دمشق.. لأن الولايات المتحدة تدرك جيداً أن سقوطاً مدوياً للنظام في سورية سيضع حليفتها إسرائيل وجهاً لوجه أمام الجماعات الجهادية الإسلامية المقاتلة في سورية.. فكان من المستغرب جدية الغرب في توجيه ضربة للنظام في هذا الظرف. لكن مع كل ذلك كان الغرب يدعم تحركاته بخطوات قوية فيها من الواقعية السياسية والعسكرية لإعطاء انطباع عن جدية التحركات بهدف إحداث ضغط حقيقي على النظام في سورية فيما يتعلق بالأسلحة الكيماوية.. ثم تتابعت التطورات الملفتة للنظر في الموقف الغربي، حيث أبدت بعض من الدول الغربية ترددها في الضربة، وأعلنت أخرى عدم مشاركتها فيها لعدم تسلمها طلباً للمشاركة.. وكان أكبر التطورات التي استدعت انتباه المراقبين ظهور الرئيس الأمريكي في موقف المتردد حين ربط تنفيذ الضربة بموافقة الكونغرس، مسقطاً بذلك حقاً دستورياً يخوله تنفيذ هذا الإجراء العسكري من دون الرجوع إلى الكونغرس.. ثم في تطور ملفت آخر أشار وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى أن نظام الأسد يستطيع تجنّب الضربة العسكرية بالكامل إذا هو تخلى عما لديه من أسلحة كيماوية، وذلك بتسليمها للأسرة الدولية.. واتضح لاحقاً أن هذا التصريح وإن بدا هامشياً في أول الأمر، إلا أنه يختزل في ثناياه كامل الموقف الغربي من القضية برمتها.. ففي هذه الأثناء كانت السياسة الأمريكية تعمل من خلف الكواليس على توجيه الدبلوماسية الروسية للضغط على دمشق لقبول تسليم أسلحتها الكيماوية مقابل تجنب الضربة.. وهذا ما صرح به وزير الخارجية الروسي لافروف لاحقاً.. وتتسارع الأحداث، فبعد يوم من تصريح الوزير الأمريكي تم الإعلان في موسكو عن قبول دمشق وضع أسلحتها الكيماوية تحت المراقبة الدولية وكأنها خطوة أولى في طريق التخلص من هذه الأسلحة. ولقيت هذه الخطوة تأييداً كبيراً في الغرب الذي شرع في إعداد تصوراته في كيفية تنفيذ هذه الخطوة بما يضمن فعلياً تحييد أثر الأسلحة الكيماوية السورية من الواقع العسكري في منطقة الشرق الأوسط كلل.
قراءة سريعة لهذه الأحداث تدلل على أن الغرب كان يحاول انتهاز مجزرة الغوطة للضغط على النظام كي يجبره على التخلص من ترسانته الكيماوية، وهي الخطر الأكبر على الغرب وحلفائه في المنطقة، حيث تعد هذه الأسلحة ثقلاً استراتيجياً قوياً في المشهد السوري، فقد كانت العامل الأساسي في تعديل ميزان القوى بين سورية وإسرائيل.. وزوال هذه الترسانة من الأسلحة الكيماوية السورية سيعطي التفوق العسكري الإسرائيلي بُعداً جديداً مستقبلاً في منطقة الشرق الأوسط.. فضلاً عن أن زوال الأسلحة الكيماوية وخروجها من المشهد السوري سيجعل هذا المشهد أقل خطورة، وسيتيح للغرب مرونة أكبر في التعامل مع الأزمة السورية بكافة الخيارات. وتدلل الأحداث على أن التردد الذي ظهر به قادة الغرب ليس حقيقياً، بل كان تردداً مصطنعاً لإعطاء مزيد من الوقت وتوجيه دفة الأحداث نحو الهدف المرسوم للسياسة الغربية.
وبناء على ما سبق ذكره فإنه من الواضح أن الغرب لا ينوي إسقاط النظام في هذه المرحلة، لا عن طريق ضربة عسكرية ولا عن طريق دعم المعارضة المسلحة بما تحتاج إليه من سلاح.. وإنه من المؤكد جداً ومن خلال استقراء الواقع أن الحسابات الغربية تقتضي أنه في حال إقدام الغرب على تنفيذ ضربة عسكرية للنظام قد تؤدي إلى إسقاطه، فإنه من الضروري أن تتسع أهداف هذه الضربة لتشمل ضرب كثير من الجماعات الإسلامية الجهادية المقاتلة في سورية، والتي يرى الغرب فيها خطراً كبيراً على مصالحه الحيوية في المنطقة وأمنه القومي.
لا ألوم الغرب على مواقفه هذه، فالمصالح الغربية تحتم عليه هذه المواقف، والغرب يسعى وراء مصالحه دائماً؛ لكن اللوم كل اللوم على الحكومات العربية التي تتصادم مصالحها مع إيران.. ففي حين تدعم إيران من غير تردد أو خجل ومن دون أي حدود نظام الأسد بكل ما يحتاج إليه، نرى دول الخليج التي يقع التهديد الإيراني الأكبر عليها، وهي الدول القادرة على الدعم المالي؛ نراها تحجم وتتردد كثيراً في مدّ المعارضة السورية بما تحتاج إليه من سلاح للإجهاز على نظام الأسد الذي يعتبر امتداداً للمشروع الإيراني في المنطقة.
المعارضة السورية لا تحتاج إلى 12 ملياراً لتحقيق النصر على بشار - بإذن الله -، بل تحتاج إلى أقل من ذلك بكثير، فمع تردد الجميع في دعم هذه المعارضة بالسلاح إلا ما كان دعماً محدوداً، مع كل ذلك استطاعت هذه المعارضة أن تحقق نتائج مذهلة في مواجهاتها مع هذا النظام الذي يتلقى أحدث ما تنتجه المصانع الروسية والإيرانية من أسلحة.. فكيف إذا دُعمت هذه المعارضة بالسلاح اللازم؟
وأما ما يتعلق بالسياسة الغربية، فإنه من المرجح أن يستمر الغرب في سياسته القائمة في سورية، وهي العمل على استنزاف المعارضة والنظام لإجبارهما على التوافق على حل سياسي يضمن وجود نظام علماني مسالم تشارك فيه الطائفة النصيرية بعيداً عن المحور الإيراني.. ويجب أن نفهم جيداً أنه من بالغ الغباء والجهل التعويل على الموقف الغربي في تمكين الإسلاميين من الوصول إلى الحكم في سورية.
المؤسف في كل ما يجري هو ما يتعرَّض له الشعب السوري من الويلات، فنسأل الله أن يعجّل بفرجه على إخواننا في الشام وفي كل بلاد الإسلام.
:: "البيان" تنشر ملف شامل
ومواكب لأحداث الثورة السورية
::
مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر 2013م.