لبيك اللهم لبيك
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله لعباده الصالحين،
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. أما بعد:
فإن فريضة الحج من أجلِّ
الفرائض الدينية التي فرضها الله على عباده، لدرجة أن التكاسل عن أدائها حتى تدرك
العبد منيّته وقد وجد ما يحج به من غير أن يحج؛ يُخشى على إيمان العبد بسببه، فقال
عز من قائل: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ
فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، ومن أجل ذلك قال عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو
نصرانياً»[1]. وقد جعل الله للحاج الذي
يحج حجاً كاملاً غير منقوص، الأجرَ العظيم والمنزلة التي لا تدانيها منزلة، فقال صلى
الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»[2]، وقال: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[3]. بل إن عظم منزلة الحج كافٍ لتكفير كل الذنوب والآثام
التي اقترفها المسلم في سنيه السابقة على الحج، سواء كانت معاصي أو كبائر أو
شركاً، فهذا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه يقول: «فلما جعل الله الإسلام في
قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال:
فقبضت يدي. قال: «ما لك يا عمرو؟». قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟».
قلت: أن يغفر لي. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما
كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله»[4].. فالحج يهدم ما كان قبله من ذنوب وآثام وشرور وشرك،
فضلاً من الله ونعمة، واستخدم لفظ الهدم للدلالة على المبالغة في الإزالة والمحو،
وإذا كان الحج بهذه المنزلة فلأن شعار الحج الذي يلخّص كل أركانه وواجباته
ومستحباته التلبيةُ التي تكون بمنزلة تكبيرة الإحرام للصلاة: «لبيك اللهم لبيك،
لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك». ولبيك تعني
مداومة الاستجابة لأمر الله تعالى في كل شأن من شؤون المسلم الدينية والدنيوية،
وإفراد الله تعالى بهذه الاستجابة، ومن ثم جاء في الحديث: فأهل بالتوحيد لبيك
اللهم لبيك، فهي تعني إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، فكأنه
قال: أنا مقيم على طاعتك مداوم عليها لك وحدك وملازم لها لا أفارقها قد أفردتك بها
فأنت أهل أن تطاع وأنت أهل أن تعبد وأن نقيم على طاعتك بلا فتور أو إخلال، يُرِيد
بذلك أَنِّي صرت مجيباً لدعوتك مسرعاً إليها مُقيماً على طَاعَتك ممتثلاً لأوامرك
مجتنباً لنواهيك، فهي متضمنة للإجابة والإقامة؛ الإجابة لله والإقامة على طاعته.
وتبدأ هذه الطاعة والعكوف عليها من أول دخول المسلم في النسك، فيخلي نفسه من كل ما
يشده إلى الدار الفانية، ويحلق بطموحه إلى دار البقاء، فيتجرد من المخيط من
الثياب، ويكتفي بإزار ورداء يستر عورته ويكشف ذله وافتقاره لربه، مهلاً بالتلبية
مقبلاً على ربه، ما أجمل شعور المسلم عندما يلبس ثياب الإحرام، إنها من أسعد
اللحظات التي تمر بالمسلم رغم أن الإحرام يمنعه من كثير من الأمور التي كان يأتيها
وهو حلال قبل الإحرام، لأنه يشعر أن الله تعالى قد استدعاه لذلك، ما يعني إكرام
الله له بدعوته واختصاصه بذلك الفضل العظيم، قال ابن المنير: مشروعية التلبية
تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه
سبحانه وتعالى، فهو مدعو لزيارة بيت الله، ولقد كان لهذه الكلمة وقعها ومكانتها في
نفوس أهل العلم حتى قال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: «إني أخشى أن أقول: لبيك
اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك». ولقد أحرم جده زين العابدين علي بن الحسين
فلما أراد أن يقول اللهم لبيك أو قالها غشي عليه وسقط من ناقته فهشم وجهه رضي الله
عنهم أجمعين. وكانت إجابة المسلم لداعي الحج تعني عنده أنه ممن استجاب لدعوة
إبراهيم عليه السلام عندما أمره ربه وأذن في الناس بالحج، قال ابن حجر: «روى
الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال قام إبراهيم على الحجر فقال يا
أيها الناس كتب عليكم الحج فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن
ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك». فيا لها من
بشرى يبتهج بها قلب المؤمن ويسعد ويطرب، ولذلك تجد كثيراً من المسلمين يتابع بين
الحج والعمرة فلا يكاد يمر موسم من مواسم الحج والعمرة إلا وقد شد رحله إلى حيث
مهوى أفئدة المؤمنين وحزب الله الصالحين، يسوقه الشوق والحنين إلى تلك الديار، فلا
معنى للمشقة ولا شعور بها حتى يقول القائل:
وسرنا نشـق البيـد للبلـد الـذي
بجهـد وشـق للنفـوس بلغـنـاه
رجالاً وركباناً علـى كـل ضامـر
ومن كـل ذي فـج عميـق
أتينـاه
نخوض إليه البر والبحـر والدجـى
ولا قاطـع إلا وعـنـه
قطعـنـاه
ونطوي الفلا من شدة الشوق للقـا
فتمسي الفلا تحكي سجـلاً
قطعنـاه
ولا صدّنا عن قصدنـا فقـد أهلنـا
ولا هجـر جـار أو حبيـب
ألفنـاه
والمسلم يظل يردد التلبية
ويرفع بها صوته من حين مروره بالميقات ولا يقطع التلبية حتى يصل إلى المسجد الحرام
وتكتحل عيناه برؤية الكعبة البيت الحرام.
وما تقدم من صيغة التلبية هي
الصيغة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا لا ينفي الزيادة
عليها من جنسها كما كان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته ويقول: لبيك لبيك لبيك
وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. وكان الناس يقولون لبيك ذا
المعارج.. ونحوه من الكلام. والنبي عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئاً، وإن عمر
كان يقول بعد التلبية: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوباً منك
ومرغوباً إليك. وكان أنس يقول في تلبيته: لبيك حجاً حقاً تعبّداً ورقاً.
فالعبد يقبل على ربه معلناً
فقره وذله له، طالباً رحمته ورضاه، مظهراً توحيده، مكثراً ذكره في تلك الفريضة
التي هي فريضة العمر التي قد لا يتاح لأكثر الناس تكرارها، فليحرص المسلم على
تكميل حجه والقيام بأركانه وواجباته ومستحباته؛ لعل الله أن يوفقه للحج الكامل
فيكون ممن رجع من حجه بعد انتهائه من ذنوبه كمن ولد الساعة بغير ذنب ولا معصية.
نسأل
الله من فضله أن يوفق الحجاج إلى الحج المبرور، وأن يتقبله منهم برحمته وفضله.
:: مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة
1434هـ، أكتوبر – نوفمبر 2013م.
[1] قال ابن كثير: «إسناده صحيح» 2/85 تفسير ابن
كثير.
[2] أخرجه البخاري
رقم 1521.
[3] أخرجه أحمد
برقم 14482.
[4] مسلم في صحيحه
رقم 192.