سورية.. الكيان الجمهوري بين سايكس-بيكو وكيري-لافروف
خرائط تُرسم
في شهر
مايو 1916 أبرم وزير الخارجية الفرنسي فرانسوا جورج بيكو اتفاقاً سرياً مع نظيره
البريطاني مارك سايكس لتحديد مناطق نفوذ دولتيهما في المنطقة العربية، وتم تداول
بنود هذه الاتفاقية في مراسلات بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية
في الفترة: نوفمبر 1915 - مايو 1916، ونصت المعاهدة في صيغتها النهائية على منح
فرنسا كلاً من: الموصل وسورية ولبنان، ومنح بريطانيا جنوب بلاد الشام وصولاً إلى
بغداد والبصرة شرقاً.
وقد بقيت
هذه الترتيبات طي الكتمان حتى نهاية عام 1917 عندما كشف زعماء الثورة البلشفية
عنها، ما سبب إحراجاً كبيراً للندن وباريس.
لكن ذلك لم
يوقف نشاط الدول الغربية المحموم لإعادة رسم خريطة المنطقة وفق ما يتناسب مع
مصالحها؛ ففي نوفمبر 1917 أطلق وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور وعده الشهير
بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي سنة 1920 تم توقيع معاهدة «سيفر» التي
قسَّمت منطقة الهلال الخصيب وفق أطماع القوى الأوروبية، وأبرمت في السنة نفسها
معاهدة «سان ريمون» التي نصت على وضع سورية والعراق تحت الانتداب الفرنسي
والبريطاني تباعاً.
ورغم وقوفه
إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، كان الأمير فيصل بن الحسين الخاسر
الأكبر بعد أن حطت المعركة أوزارها، فلم يحصل من غنائم المعركة إلا على أنقاض
مملكة أعلن عنها في دمشق في شهر مارس 1920، وانهارت إثر زحف القوات الفرنسية على
المدينة من جهة ميسلون في شهر يوليو من العام نفسه، لتبدأ مرحلة الانتداب الفرنسي
الذي حظي بالشرعية الدولية إثر صدور قرار عصبة الأمم منح فرنسا حق الانتداب على
سورية ولبنان.
وفي أتون
حالة الفوضى التي انتابت الجمهوريات العربية ابتداء من عام 2011، عاد الولع الغربي
بخريطة المنطقة؛ إذ بدأت تظهر رسومات جديدة وخرائط مستحدثة لإعادة تقسيم المنطقة
العربية وفق مصالح القوى الدولية المتنافسة.
ففي محاضرة
بمدرسة «جيرالد فورد للسياسة العامة»، طرح عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري
كيسنجر فكرة تقسيم سورية على أسس إثنية وطائفية، قائلاً: «هنالك ثلاث نتائج ممكنة:
انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش
معاً، لكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض، وهذه
هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق».
وأضاف
كيسنجر: «تصور الصحافة الأمريكية الحرب في سورية وكأنها نزاع بين الديمقراطية
والدكتاتورية، حيث يقتل الدكتاتور شعبه ومن واجبنا معاقبته، لكنّ الحال في مجملها
نزاع إثني وطائفي، ويتوجب عليّ القول إننا أسأنا فهمها منذ البداية»!
والحقيقة
هي أن رؤية كيسنجر لحل الأزمة السورية عبر تقسيم الكيان الجمهوري على أسس إثنية
وطائفية، لا تنبع من محض هواجس ذاتية لدى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق؛ بل تأتي
ضمن مراجعات تجريها مراكز الفكر الغربية وبعض الجهات الرسمية التي بدأت تدعو علناً
إلى إعادة فرز القوى السياسية وفق سياسة تفتيتية تحقق التوازن بين فصائل الثورة
والنظام.
فقد رأى
الباحث في جامعة هارفرد «روجر أوين» (مايو 2013)، أن التسوية الغربية للمنطقة
العربية عقب الحرب العالمية الأولى أنتجت دولاً مصطنعة لا يزال تحقيق الاستقرار
فيها متعذراً دون حكم عسكري استبدادي، ما يدفع بالمجتمع الدولي للبحث عن ترتيبات
جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار عبر إعادة تقسيم المنطقة وفق حدود جديدة تحظى
باعتراف عالمي كما وقع في السودان، أو من خلال تطبيق مفهوم «التجزئة ضمن الحدود»
كما هو الحال في العراق. ويرى الكثيرون أن السيناريو الأخير هو الأفضل بالنسبة
للحالة السورية؛ إذ إن البديل قد يتمثل في نشوء دولة فاشلة يمكن أن تؤثر سلباً على
جيرانها.
وفي دراسة
موازية أشار «أرنولد ألرت» (مايو 2013) إلى ظهور عوامل التحلل على خريطة المنطقة
العربية بعد مرور نحو قرن ساد فيه الحكم الاستعماري ثم العسكري الشمولي. ورأى ألرت
أن الصورة الأنسب لضمان استقرار الكيان الجمهوري في سورية تكمن في تأسيس نظام
«ترويكا» تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، مشدداً على ضرورة وضع
المصالح الأمريكية على قمة الحسابات في ترتيبات المرحلة القادمة للبلاد.
وعلى نهج
سابقيه نشر «غبريال شينمان» بحثاً (يوليو 2013) أشار فيه إلى أن الشرق الأوسط يدفع
ثمن أخطاء الدول الغربية التي رسمت خريطة المنطقة في مطلع القرن العشرين، مؤكداً
أن حل الأزمة السورية يكمن في إعادة رسم خريطة الجمهورية فيما يتناسب مع طموحات
الأقليات الكردية والمسيحية والدرزية والعلوية، مستشهداً بمبادئ ولسون الأربعة عشر
التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب
العالمية الأولى.
وتنسجم هذه
الرؤية مع المقال الذي نشره رئيس تحرير صحيفة هآرتز العبرية «ألوف بن» (يوليو
2013)، والذي أكد فيه ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن صياغة خريطة سياسية جديدة
تحترم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك عبر تأسيس كيانات سياسية جديدة، وهو
الأمر الذي سيكسر عزلة إسرائيل ويتيح لها مجال المناورة ويعزز فرص تواصلها مع شعوب
المنطقة.
ويمكن سوق
عدد كبير من المشاريع التفتيتية، ونماذج من الخرائط التي نشرتها معاهد الفكر
الغربية في غضون الأشهر الثلاثة الماضية، كحلول للأزمة السورية وفق مفهوم «التجزئة
ضمن الحدود»، ولعل أبرزها خريطة «معهد دراسات الحرب» (مايو 2013) التي تحدثت عن
تقسيم الكيان الجمهوري إلى ثلاثة أقسام: رقعة شمالية شرقية يسيطر عليها الأكراد،
وأخرى وسط وشمال غربي البلاد تسيطر عليها المعارضة في حلب، وذلك مقابل الاعتراف
الدولي بسيطرة النظام على دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس بالتفاهم مع موسكو وطهران.
كما نشر
«مركز ويلسون» (أغسطس 2013) دراسة أخرى ضمَّنها خريطة تقترح فض الاشتباك بين
المعارضة والنظام على طول الخط السريع بين دمشق وحلب، بحيث تصبح دمشق وحمص وحماه
ومحافظات الساحل تحت حكم النظام، في حين تخضع القطاعات الشمالية والشرقية
للمعارضة، مع ضرورة إنشاء جيب جنوبي يشمل محافظات: الجولان وحوران وجبل العرب
لحماية الحدود مع الأردن و«إسرائيل»، وتمثل تل أبيب القوة الدافعة لمثل هذا الطرح؛
إذ إنها تفضّل بقاء النظام ضعيفاً على تخومها بدلاً من ظهور جار جديد تهيمن عليه
النزعة الدينية التي تهدد أمن «إسرائيل».
ويجدر
التنبيه إلى أن الفقرات السابقة استعرضت بعض ما نشر في الأروقة الغربية من دعوات
لمراجعة خريطة المنطقة العربية في الأشهر الثلاثة المنصرمة، أما فيما يخص المشاريع
الغربية التي نشرت قبل ذلك؛ فيمكن إفراد بحث مطول حول المشاريع التي تم نشرها في
غضون العقد الماضي لتفكيك الدول العربية وإعادة تقسيم خريطة المنطقة على أسس إثنية
وطائفية؛ من أبرزها: مقترحات القيادي في أوساط المحافظين الجدد وليام كريستول
(يونيو 2002)، والمشروع الذي نشره الباحث بمؤسسة «راند» لوران موريس (يوليو 2002)
حول إعادة رسم خريطة المنطقة، وتقرير مؤسس معهد «هدسون» للدراسات الاستراتيجية
ماكس سنجر الذي قدمه لوزارة الدفاع الأمريكية (أغسطس 2002)، ومشروع الرئيس الفخري
لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ليسلي غليب حول: «حل الدول الثلاث» (مارس 2003)
والذي تبنّته لجنة بيكر آنذاك، ودراسة غاري هلبرت (أبريل 2006) التي نشرها معهد
«غلوبال ريسيرتش» الكندي حول المخططات الغربية لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس
عرقية وطائفية، والتقرير الذي نشره مركز «ستراتفور» للدراسات الجيوسياسية حول خطط
الإدارة الأمريكية لمراجعة خريطة المنطقة، مروراً بالبحث الذي نشرته مجلة القوات
المسلحة الأمريكية لنائب رئيس هيئة الأركان الأمريكي الأسبق رالف بيترز (يوليو
2006) والذي دعا فيه إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ما أدى إلى احتجاج رئيس
هيئة الأركان التركي لدى نظيره الأمريكي من التجاوز الخطير المتمثل في الدعوة إلى
إنشاء دولة كردية على حساب تركيا. وهناك أمثلة كثيرة يصعب سردها في ورقة موجزة
تعالج مقترحات المؤسسات الغربية لحسم الثورة السورية عبر إعادة تقسيم
البلاد.
«كيري-لافروف»
ووهم إنشاء دولة علوية في الساحل السوري
وفي موازاة
المشاريع والخرائط التي عكفت معاهد الغرب على إعدادها؛ بذلت الدبلوماسية الأمريكية
في الأشهر الثلاثة الماضية جهوداً مضنية للتفاهم مع روسيا على ترتيبات الوضع
النهائي في سورية؛ ففي اللقاء الذي جمع كيري ولافروف في موسكو (7 مايو 2013) تم
الاتفاق على مجموعة من النقاط المهمة التي تضمنت: التأكيد على حل الأزمة من خلال
الوسائل الدبلوماسية، والعمل على منع انتشار الصراع خارج حدود القطر السوري، إضافة
إلى إقرار واشنطن باستراتيجية موسكو في القضاء على «الجماعات المتطرفة» بسورية،
حيث أكد كيري أنه يتفق مع رؤية نظيره الروسي لافروف في مواجهة هذه الجماعات، لكن
المشكلة الكبيرة في هذه التوافقات هي أن مفهوم «الجماعات المتطرفة» لا يقتصر لدى
الوزيرين على الكتائب التي تُحسب على تنظيم القاعدة، بل يمتد ليشمل كتائب أخرى
«معتدلة» تشترط تل أبيب تفكيكها قبل الشروع في أي مشروع سياسي لحل الأزمة في
سورية.
وإثر ذلك
اللقاء عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو أكد فيه أن روسيا معنية بتدمير البنى التحتية للجماعات المسلحة
التي تمثل خطورة على مصالح كل من موسكو وتل أبيب والدول الغربية على حد سواء.
ثم دار
الحديث في الاجتماع - الذي حضره رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (Aviv Kochavi)
وقائد القوات الروسية الخاصة (Mikhail Fradkov) -
حول تفاصيل عمليات استنزاف «الجماعات المتطرفة». وتشير المصادر إلى أن بوتين أكد
لضيفه أنه قد أحاط وزير الخارجية الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني علماً بأن
الهدف من العمليات العسكرية التي يشنها النظام السوري في حمص هو القضاء على عدو
مشترك، وأنهما كانا متفهمين لضرورة حسم هذه المواجهات قبل مؤتمر «جنيف 2»، وقد خرج
نتنياهو من ذلك الاجتماع مطمئناً وهو يحمل في جعبته ضمانات روسية بعدم تهديد أمن
تل أبيب خلال المعارك الدائرة في محافظات: حوران وحمص ودمشق وريفها.
ومما يؤكد
صحة هذه التسريبات تغاضي واشنطن عن استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد
معارضيه، وتعاملها الهادئ مع عمليات «حزب الله» في القصير وحمص وريفهما، حيث اكتفت
ببعض عبارات الشجب، في حين لا تزال الإدارة الأمريكية والدول الغربية ملتزمة بعدم
تسليح المعارضة، وهو أمر ينسجم مع موقف كل من موسكو وتل أبيب بترجيح كفة «حزب
الله» في المعارك الدائرة غربي البلاد بهدف استنزاف كتائب المعارضة وتفكيك بنيتها
تمهيداً لمؤتمر «جنيف 2».
وقد لفتت
مصادر عسكرية غربية الانتباه إلى وجود دور أساسي لموسكو في عمليات القصير وحمص؛
حيث قامت البحرية الروسية في الأشهر الثلاثة الماضية بشحن كميات كبيرة من الذخائر وتقنيات
الرصد المتطورة والعربات المصفّحة وناقلات الجنود لدعم عمليات «حزب الله» في حمص.
أما نداءات
رئيس أركان القيادة المشتركة للجيش الحر، والدبلوماسية الحثيثة التي قام بها
الائتلاف الوطني في العواصم الغربية لإنقاذ حمص؛ فقد لاقت آذاناً صماء، وبدأت تسود
قناعة لدى المعارضين السوريين بأن الإدارة الأمريكية وحلفاءها في أوروبا ينظرون
إلى إمكانية سقوط حمص بيد النظام باعتبارها «خطوة نحو القبول بالتحاور مع النظام».
تعيدنا
دهاليز الدبلوماسية الغربية المعاصرة تجاه سورية إلى تفاصيل حقبة رسم خريطة
المنطقة قبل نحو قرن من الزمان؛ فقد اتفقت واشنطن ولندن عقب الحرب العالمية الأولى
على تخويل فرنسا مهمة تحديد هوية سورية ولبنان على أسس طائفية محضة، وأسفرت
الترتيبات الإدارية الفرنسية عن مشروع طائفي تفتيتي تمثل في إعلان دولة لبنان
الكبير في غرة سبتمبر سنة 1920، ودولة حلب في الثامن من سبتمبر سنة 1920، ودولة
العلويين في الثالث والعشرين من سبتمبر 1920، ودولة جبل الدروز في 20 أبريل سنة
1921، ودولة دمشق: التي اتخذت من العاصمة اسماً لها.
لكن هذه
الدويلات الطائفية لم يكتب لها النجاح، فقد أثبتت التجربة أن عملية إنشاء خمسة
أجهزة إدارية متكاملة من مسؤولين وموظفين وعسكريين، وتأسيس بنية تحتية وخدمات
بلدية وصحية وبريدية في كل دولة من هذه الدويلات؛ كانت عملية باهظة التكاليف،
فانضمت دولتا حلب ودمشق في 1924، واتخذ قرار ضم مناطق الدروز والعلويين للدولة
السورية في 1936، لكن القرار لم ينفذ بصورة فعلية حتى عام 1943.
ويبدو أن
مراكز الفكر الغربية قد درست فشل تجارب التقسيم السابقة؛ فاستعاضت عنها بالدعوة
إلى تأسيس كيان فيدرالي تمثل فيه الدولة المركزية دوراً هامشياً، وذلك من خلال
تبني مشروع «التجزئة داخل الحدود» على أسس جيو - سياسية يتم من خلالها ترجيح كفة
الأقليات الإثنية والطائفية على حساب الأغلبية.
ففي الأشهر
الثلاثة الماضية نشطت الدبلوماسية الأمريكية والتركية للتوصّل إلى تفاهمات حاسمة
مع الأكراد لتمكينهم من السيطرة على الجزء الأكبر من الشريط الحدودي الممتد لأكثر
من 800 كم بين سورية وتركيا.
وفي جنوب
البلاد زج الجيش الإسرائيلي بكتيبتين قوامهما من الدروز في المنطقة الحدودية مع
سورية تمهيداً لتنفيذ مشروع يتضمن الإعلان عن منطقة عازلة في الجولان وحوران وجبل
العرب، ويمكن أن تسند فيه مهمة السيطرة على المناطق الاستراتيجية في جبل العرب إلى
كتائب درزية.
أما
الترتيبات النهائية للكيان العلوي المرتقب فلا تقتصر على تعزيز موقف النظام في
مناطق العلويين غربي البلاد؛ بل تمتد الخطط التمهيدية لمشروع «جنيف 2» لتشمل
محافظات:
دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.
وتماماً
كسابقه مارك سايكس الذي ترك مهمة التقسيم الطائفي للفرنسيين عام 1920؛ يدرك جون
كيري اليوم أن الروس أقدر على تشكيل الصورة النهائية للدولة العلوية بالتعاون مع
طهران التي أوكلت إلى قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني مهمة تأسيس قوة يبلغ
قوامها
100 ألف مقاتل من العلويين تحت مسمى «الجيش
الشعبي»، في حين
تولى
«حزب الله» مهمة إخراج كتائب المعارضة من تلك المناطق وإحلال أبناء
الأقليات في المدن والقرى السنية التي يسيطر عليها.
ولا بد من
التأكيد على أن الفكرة التي تداولتها بعض الأوساط الإعلامية حول تأسيس كيان علوي
تقتصر حدوده على الساحل السوري؛ هي ضرب من الوهم الناتج عن عدم فهم طبيعة المخططات
الغربية؛ إذ إن الصيغة النهائية للكيان العلوي تتضمن رقعة أوسع نطاقاً من الساحل،
وتقوم على أساس عملية إعادة فرز ديمغرافي وأمني وعسكري من خلال تقوية موقف النظام
غربي البلاد، خاصة في الشريط الحدودي مع لبنان، ومع «إسرائيل» التي لا
ترغب بمجاورة كيان سني تهيمن عليه كتائب المعارضة.
المعادلة الدولية وغياب الموقف السوري
وفقاً
لدراسة نشرها الباحث الأمريكي «ويل إنبودين» (16 يوليو 2013)، فإن
الأزمة السورية تحوّلت إلى حالة نزاع إقليمي تتقاطع فيه أربعة أنماط من الصراع، هي:
تنافس القوى
العظمى حول القواعد العسكرية ومد المنظومات الصاروخية وتأمين معابر التجارة
العالمية، وتدخل روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين ضمن هذه المعادلة الدولية؛
إذ تسعى بكين وموسكو إلى تعزيز نفوذهما الاقتصادي والعسكري والسياسي في المنطقة،
في حين تواجه أوروبا وأمريكا مشاكل اقتصادية تمنعها من التدخل المباشر.
تنافس
القوى الإقليمية في معادلة ثلاثية المحاور؛ تمثل الرياض وحلفاؤها الطرف الأول،
وطهران والقوى التابعة لها الطرف الثاني، وتركيا والجماعات المتعاونة معها الطرف
الثالث.
ولا شك في أن تغير المعادلة الإقليمية وفق التطورات في مصر يؤذن بظهور
تحالف إقليمي جديد يضم الرياض وأبو ظبي والقاهرة وعمّان.
الصراع
الطائفي المتنامي الذي تغذيه القوى العابرة للحدود من ميليشيات طائفية نشطة في كل
من: لبنان
والعراق وسورية، وتقف خلف هذه المجموعات المتطرفة مؤسسات رسمية في بغداد وطهران
ومرجعيات دينية تذكي أوار الطائفية ومشاعر الكراهية والتمييز.
الصراع
الأيديولوجي القائم بين مفهومي «الديني» و«المدني» في الكيانات الناشئة عن الربيع العربي، وتأثير ذلك على
التفاعلات السياسية في سورية، وارتباط ذلك بالدعم السياسي والعسكري والتمثيل
الدبلوماسي الذي تحظى به مختلف جماعات المعارضة على الصعيد الإقليمي والدولي.
وبين هذه
التداخلات الإقليمية والدولية يغيب الموقف السوري بصورة مقلقة؛ إذ يتردد الحديث عن
فقدان بشار السيطرة على أزمة الإدارة والحكم في المناطق الخاضعة للنظام؛ حيث يتولى
قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني مهمات الإدارة والتنسيق بين مختلف الميليشيات
الطائفية القادمة من إيران ولبنان والعراق، في حين تدين التشكيلات الطائفية
الجديدة من
«الجيش الشعبي» بالولاء للقيادة الإيرانية.
أما في
الشق المعارض؛ فإن الجناح السياسي للثورة لا يزال عاجزاً عن تطوير نفسه فيما
يتواكب مع متطلبات المرحلة، حيث يمزق الخلاف نسيج المعارضة، وتستسلم الأحزاب
لضغوطات الاستقطاب الإقليمي، وتحتدم الخلافات بين بعضها في سعي حثيث للاستحواذ على
النصيب الأكبر من مصادر التمويل.
والحقيقة
هي أن إعلان رئيس الائتلاف الوطني مشروع تشكيل «جيش وطني» يضم ستة
آلاف مقاتل، قد جاء سابقاً لأوانه، إذ إن الائتلاف لم يتمكّن من استكمال بنيته
التأسيسية بعد توسيعه، ولم يحقق أي منجزات تذكر على صعيد الإدارة المحلية للأقاليم
المحررة، في حين يعاني فشل جهود دبلوماسيته لإنقاذ القصير وحمص والحد من تدخّل «حزب الله»؛ ولذلك
فإنه من المبكر لأوانه أن يقفز الجسد السياسي المدني للثورة إلى مرحلة متقدمة من
التكوين العسكري ليتحدث رئيس الائتلاف عن تأسيس جناح عسكري تحت مظلة «التخلص من
أمراء الحرب».
وتكمن
المشكلة الأكبر في أن ذلك التصريح قد تزامن مع تسرب تقارير مقلقة حول مخططات قوى
إقليمية ودولية للتخلص من فصائل مقاتلة على أسس أيديولوجية، وتشكيل فريق عمل
إقليمي يعمل على ترجيح كفة تيار ضد آخر في صفوف المعارضة السورية، وهو أمر منافٍ
للمبادئ التي تأسَّس من أجلها الائتلاف، إذ ليس من حق أي جهة أن تنفرد بالقرار
السياسي أو العسكري أو أن تعمل على تصفية أطراف أخرى بقصد الهيمنة والاستحواذ.
إن ما
تحتاج الثورة إليه في هذه المرحلة العصيبة، هو العمل على إيجاد جسد ائتلافي متين
يقوم على أسس الكفاءة والاحتراف، بدلاً من المنافسة الحزبية والاستقطاب الإقليمي،
وذلك بغرض رسم استراتيجية سورية محضة تحقق مصالح الشعب السوري بالدرجة الأولى،
وتدرأ عن الثورة مخاطر سرقتها من قبل فئات ترغب في الاستئثار بالمكاسب دون
المشاركة في التضحيات، أو من قبل قوى خارجية ترى في الأزمة السورية حزمة فرص
لتحقيق مصالحها وزيادة نفوذها.
ولا بد من
الاعتراف بأن المعضلة الرئيسة في السلوك السياسي لدى قوى المعارضة تكمن في رهانها
على الشق الخارجي من المعادلة السياسية، في حين تغيب الجهود المخلصة لتعزيز الجبهة
الداخلية، وإدارة المناطق المحررة، وتخفيف معاناة اللاجئين الذين يعانون ظروفاً
قاسية، وتجنيب البلاد مخاطر التفكيك والصراع المجتمعي.
وبدلاً من
الانخراط في الدبلوماسية الدولية المتعثرة والخضوع لمشاريع التقسيم؛ فإنه يتعين
على المؤسسات التي تدَّعي تمثيل المعارضة السورية أن تعي مخاطر الانزلاق في شرك
الاستقطاب الإقليمي الذي لا يعود على الشعب السوري بخير، وأن تدرك مكامن قوتها
المتمثلة في:
حسن تمثيل قوى الثورة والتأليف فيما بينها لتشكل جبهة موحدة تمثل طرفاً
مؤثراً في المعادلة السياسية بدلاً من أن تتحول إلى عنصر متأثر بالتجاذب الدولي.
ومن المهم
كذلك أن تستفيد المعارضة من دروس تجربة «سايكس-بيكو» بالأمس لدى العمل في مرحلة «كيري-لافروف» اليوم؛ ففي
الفترة
1916 - 1920 وثق الأمير فيصل بن الحسين بالدبلوماسية الغربية، وركن
إلى وعود الإنجليز، وكان له دور بارز في إضعاف المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين؛
بهدف منح الدبلوماسية الدولية فرصة لحل الخلاف المستعصي حول تقسيم غنائم الحرب
العالمية الأولى.
وعلى هذا
الأساس اختار فيصل تجاهل الحشود الفرنسية في لبنان عام 1919، وأمر
قواته بالتراجع عن استحكاماتها في مجدل عنجر، ثم أمر بتسريح الجيش الوطني طبقاً
لشروط الإنذار الذي أصدره الجنرال غورو عام 1920، بل إنه
أوفد أخاه الأمير زيد على رأس فرقة عسكرية لمقاومة الجنود الذين ثاروا احتجاجاً
على هذا القرار وهاجموا مخازن السلاح لتوزيعها على الأهالي الذين شاركوهم في
المطالبة بالدفاع عن أنفسهم أمام التقدم الفرنسي، فأوقعت قوات الأمير فيصل بهم
أكثر من مائة قتيل وثلاثمائة جريح، وقد اعترف فيصل بمسؤوليته عن هذه الكارثة في
خطاب أرسله إلى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج عام 1920، بقوله: «لقد وثقت
بكلمة الجنرال غورو واعتمدت على وعده بألا يسمح للجيوش الفرنسية بالتقدم، فأخليت
المراكز من الجند وسرحت قسماً كبيراً من الجيش وأجبت أنا الرجل الأعزل بأنني أرفض
الحرب، وكنت أعرف أن موافقتي على الشروط الجديدة لا بد أن تثير حرباً أهلية في
دمشق، فقد أعطيت الجنرال غورو عهداً صريحاً بأن أنفذ شروط 14 تموز
بالحرف طالباً إليه لقاء ذلك إيقاف الجيوش الفرنسية عن التقدم نحو دمشق، فكان
جوابه إطلاق النيران على الجيوش النظامية والمتطوعين. على أنني
بالرغم من هذا كله أصدرت الأمر إلى النظاميين الذين نجوا من القنابل بإلقاء
السلاح، فأبيدت فرقة من الجنود البواسل تحت قيادة البطل يوسف العظمة وهي في مكانها».
لكن
بريطانيا تجاهلت مخاطبات فيصل، وآثرت التخلي عنه إرضاءً لحلفائها في باريس، راضية
من فرنسا بالموافقة على ضم الموصل ضمن سلطة بريطانيا الانتدابية في العراق،
وبتنازل باريس عن المنطقة الجنوبية - الغربية التي تعهّد البريطانيون بجعلها وطناً قومياً
لليهود.
وقد عبَّر فيصل عن مشاعر الإحباط في خطاب ألقاه في حديقة قصره بعد عودته من
أوروبا عام
1920 بقوله: «تخلت بريطانيا العظمى عنا في آخر لحظة إرضاءً لحليفتها
فرنسا، ذات المصالح الاقتصادية والثقافية في هذه البلاد، وتجنباً من إثارة الخلاف
والمشادة بين حليفتين حاربتا جنباً إلى جنب حتى أحرزتا مع سائر حلفائهما النصر».
لقد أدرك فيصل متأخراً أنه قد استخدم من قبل القوى
الدولية لتمرير مشاريع تفتيتية للمنطقة العربية على أنقاض الفكر القومي، وبدأت مع
رحيله مرحلة جديدة من التقسيم الطائفي في البلاد.. فهل تستفيد المعارضة السورية من
دروس التاريخ؟
:: "البيان" تنشر ملف شامل
ومواكب لأحداث الثورة السورية
::
مجلة البيان العدد 315 ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.