أفغانستان... الحركة بين توازنات دولية معقَّدة لتـأمين الاستقلال وإعادة بناء الدولة

حين انسحبت القوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان بطريقة وُصفت بالفوضوية، كان واضحًا أن ما جرى هو سحب للقوات العسكرية مع استمرار الصراع مع الحركة عبر الحصار والعزل عن النظام العالمي دبلوماسيًّا واقتصاديًّا، بل حتى عبر إنماء عوامل التفكيك والاضطراب الداخل


يجدر دراسة النموذج الجاري في الحركة الدولية لأفغانستان بعد انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية والأطلسية عام 2021م، باعتباره نموذجًا عمليًّا لإدارة الاستقلال ما بعد احتلالٍ ذي «طبيعة دولية» كاملة الملامح؛ إذ جرى هذا الاحتلال تحت عنوان الحرب العالمية على الإرهاب، كما أن الطرف المحتل كان الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي كاملاً، والأخير سجَّل في هذا الاحتلال أول سابقة له في الخروج بقواته -انتشارًا وقتالاً- خارج أوروبا. وكذا لأن كثيرًا من الدول الإقليمية، قد تشابكت وتعقدت علاقاتها ومصالحها على أرض أفغانستان خلال هذا الاحتلال.

والتجربة مهمة أيضًا، بحكم أنها تُمثّل محاولة بناء سياسة وعلاقات خارجية في ظل توترات دولية حادة ناتجة عن تغيير في توازنات القوى الدولية، أدت لاشتباك دولي متعدد الأطراف، وصل حد الدعوة لتغيير النظام الدولي القائم. وهي دعوة صدرت مِن قِبَل أطراف دولية يتشارك أحدها الحدود مع أفغانستان.

ولهذه التجربة الجارية الآن في أفغانستان جانب مهم آخر، يتعلق بإعادة بناء دولة أو بالأحرى إعادة تأسيس دولة -على أنقاض الدولة التي شكَّلها الاحتلال-، وهي عملية تجري في ظل ظرف داخلي قاسٍ ومعقَّد؛ إذ عاش هذا البلد ثلاثة حروب متواصلة دون توقف، لأكثر من نصف قرن.

كانت الأولى حربًا للتحرير من احتلال أحد قطبي النظام الدولي خلال الحرب الباردة، جرت فصولها بدءًا من عام 1979م، بعد أن احتل الاتحاد السوفييتي البلاد. وتلتها حرب داخلية استعرت بين ميليشيات كانت ممولة ومدعومة إقليميًّا ودوليًّا، وهي حرب استمرت لعدة سنوات حتى جرى العدوان والغزو والاحتلال الأمريكي للبلاد في عام 2001م، لتبدأ الحرب الثالثة في شكل حرب تحرير ثانية من القوة العظمى الأقوى والأشد تأثيرًا في النظام الدولي -إلى درجة الهيمنة الكلية بعد انهيار القطب الدولي المنافس الذي كان محتلاً لأفغانستان من قبل-، والذي جلب معه قوات حلف الأطلسي لتصبح قوة الاحتلال غربية كاملة العدد.

هي تجربة بلد مُدمَّر ينهض من تحت الرماد المتراكم لثلاثة حروب.

وما يُعقّد تلك التجربة أكثر، أن الولايات المتحدة التي سحبت قواتها -وقوات الأطلسي-، قررت فرض حصار وعزلة دولية وإقليمية دائمة على أفغانستان بعد الانسحاب. لقد جمَّدت احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية بما حرم الحكم الجديد من تحريك الاقتصاد، وقامت بتنشيط الضغوط الدولية والإقليمية على الحكم تحت عناوين تعرقل الاعتراف بالحكومة المشكلة بعد الانسحاب؛ إذ شنَّت حربًا إعلامية ودبلوماسية تحت عناوين متعددة؛ أبرزها عدم تمثيل حكومة طالبان للأطياف والأعراق المتعددة وعدم منح المرأة الأفغانية حقوقها.

لكن ذلك لم يمنع حركة أفغانستان وحركة قوى دولية باتجاهها بعد التحرير. وقد بدا لافتًا أن تحركت الصين باتجاه أفغانستان على الصعيدين السياسي والاقتصادي، كما تحركت روسيا تجاه أفغانستان عمليًّا وبإعلانات واضحة برفع طالبان من لائحة الإرهاب. وكان أن استضافت وفدًا يمثل الحركة في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي؛ تأكيدًا لموقفها عمليًّا.

وكلا الأمرين ضمن تحركات أخرى، في إشارة إلى طبيعة الحركة الأفغانية التي تستهدف فكّ الحصار والعزلة الدولية المفروضة أمريكيًّا وغربيًّا على البلاد، وبناء الاستقلال الوطني من خلال التعاون مع القوى الدولية المتصارعة مع الغرب.

فهل يمكن وصف ما تحقَّق بالاختراق الإستراتيجي، أم أن هذه التحركات هي نجاحات تكتيكية تتطلب الحذر في التعامل مع ما يمكن أن تجلبه من تحديات إستراتيجية؟

وضع دولي وإقليمي وداخلي خانق

حين انسحبت القوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان بطريقة وُصفت بالفوضوية، كان واضحًا أن ما جرى هو سحب للقوات العسكرية مع استمرار الصراع مع الحركة عبر الحصار والعزل عن النظام العالمي دبلوماسيًّا واقتصاديًّا، بل حتى عبر إنماء عوامل التفكيك والاضطراب الداخلي.

صحيح أن الولايات المتحدة لم تُدْرج حركة طالبان -رغم كل تلك الحرب- على قائمتها للحركات التي تصفها بالإرهابية، إلا أنها تعاملت معها واقعيًّا باعتبارها كذلك، أو هي تعاملت معها باعتبارها حركة غير معترَف بها. لقد جمَّدت الولايات المتحدة الاحتياطي المالي لأفغانستان البالغ نحو 10 مليارات دولار. كما شنَّت الدبلوماسية الأمريكية والغربية حربًا ضارية على الحكومة الأفغانية الجديدة تحت عنوان عدم تمثيلها للمكونات العرقية والمذهبية المختلفة في أفغانستان، وباعتبارها حكومة لا تمنح المرأة الأفغانية حقوقها في التعليم والعمل، وهو ما شكَّل مانعًا لاعتراف الدول الأخرى بالحكم الجديد. وقد حققت الخطة الأمريكية نجاحًا؛ إذ بدا جليًّا، تخوُّف غالبية دول العالم من اختراق هذا الحظر الأمريكي.

وهو ما تُرجم بشكل واضح وجلي على الصعيد الإقليمي، وإلى درجة أن أضافت إحدى دول الجوار تشددًا على التشدد الأمريكي. لقد تناغمت إيران مع الموقف الأمريكي، وأضافت إليه التهديد بالحرب مع أفغانستان.

لقد دخلت إيران صراعًا مكشوفًا مع أفغانستان بعد وصول طالبان للحكم.

تبنَّت إيران الرؤية الأمريكية حول عدم تمثيل حكومة أفغانستان لمختلف الأعراق -في إشارة إلى مجموعات الهزارة المرتبطين بإيران-، كما حرَّكت قواتها على الحدود الأفغانية للاشتباك مع حرس الحدود الأفغاني عددًا من المرات، ووصل الأمر أن تحدث الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي مهدِّدًا أفغانستان، ومطالبًا قيادتها بأن تأخذ تهديداته على محمل الجد. وكان الأخطر أن عادت إيران لإثارة قضايا الخلافات القديمة حول المياه؛ إذ أطلقت اتهامات لأفغانستان بسرقة المياه التي تتدفق إلى أراضيها عبر تشييد مشروعات مائية جديدة.

وفي اتجاه العلاقات مع باكستان؛ فقد بدت العلاقات عبر الحدود مرتبكة، بل حتى منفلتة -على غير ما كان متوقعًا بحكم طبيعة العلاقات التاريخية بين باكستان وطالبان-؛ إذ وقعت اشتباكات حدودية متعددة بين البلدين، كما أطلقت باكستان اتهامات بحق حكومة أفغانستان؛ واتهمتها بتقديم الدعم والمساندة لطالبان باكستان التي تشن عمليات متواصلة ضد الجيش الباكستاني، وهي منظمة مصنَّفة أمريكيًّا كحركة إرهابية.

وقد ترافق مع هذا الموقف الأمريكي (الغربي)، وهذا الوضع الإقليمي، تصاعد في أعمال الإرهاب داخل أفغانستان مِن قِبَل ما يُسمَّى تنظيم الدولة الإسلامية، مع تنامي الدعوات لدعم بقايا حركات سياسية عسكرية، كانت تقاتل طالبان قبل الاحتلال الأمريكي -تحالف الشمال-ودفعها للقيام بتمردات حدودية... إلخ.

وكان التقدير المرجّح في تلك المرحلة المبكرة من حكم طالبان بعد التحرير، أن انسحاب القوات الأجنبية، واستمرار الحصار الخارجي، وتدهور العلاقات الإقليمية، والانفلات الأمني الداخلي، ستتفاعل مع عوامل التدمير التي أحدثها الاحتلال في البلاد لتولِّد حالة فوضى وانقسامات واقتتال كتلك التي حدثت بعد انسحاب قوات الاحتلال السوفييتي.

الصين وروسيا: تحرّك باتجاه أفغانستان

لكن الأمور لم تجرِ في الاتجاه الذي توقعته كثير من الرؤى والتحليلات المتشائمة. وإذا كان الحكم الجديد قد أرسى دعائم الأمن في المجتمع والدولة، فالمؤشرات الدولية الأخيرة تعكس تحولاً تدريجيًّا في الموقف من أفغانستان، والأبرز في ذلك هو موقفي الصين وروسيا، عمليًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا.

لقد خطت الصين خطوات مهمة، وفق نمط التحرُّك الحَذِر -غير أنه متنامٍ- لكسر الحصار الأمريكي المضروب حول أفغانستان. وقبلت الصين أوراق اعتماد سفير جديد لحكومة أفغانستان الجديدة -30-4-2024م- بما مثَّل اعترافًا ضمنيًّا بتلك الحكومة، وكانت الصين أول دولة في العالم تقدم على تلك الخطوة. وهو تطور جاء تاليًا -وبالدقة متناميًا- لما جرى قبلها بثلاث سنوات؛ حيث قامت الصين بتعيين سفير لها في أفغانستان في عام 2021م.

وأصدرت الخارجية الصينية ورقة بشأن موقفها من أفغانستان؛ أعلنت فيه أن الصين «تحترم الخيارات المستقلة التي يتّخذها الشعب الأفغاني، وتحترم المعتقدات الدينية والتقاليد الوطنية». وهو ما قابلته حكومة طالبان، بالقول -حسب تصريحات الملا عبد السلام حنفي النائب الثاني لرئيس وزراء الحكومة الأفغانية-: إن «الصين صديق يُعتمَد عليه بالنسبة لأفغانستان». وإن طالبان ملتزمة بـ«تطوير العلاقات الودية بين أفغانستان والصين، وإن بلاده لن تسمح أبدًا لأي قوة باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد مصالح الصين، وستتخذ إجراءات فعّالة لضمان أمن المؤسسات والموظفين الصينيين في أفغانستان».

كما بدأت الصين بالتحرك عمليًّا نحو تطوير العلاقات مع أفغانستان، عبر بوابة التعاون الاقتصادي؛ إذ بدأت مفاوضات معها في مطلع عام 2023م لاستخراج النحاس والنفط من نحو 18 موقعًا.

وأعلنت السلطات الأفغانية عن خطط لشركات صينية لاستثمار نصف مليار دولار في الطاقة الشمسية بالبلاد.

وكان لافتًا أن التعاون لم يقتصر على استخراج البترول والمعادن، بل امتد إلى جانب مهم يتعلق بتحقيق الأمن للحكومة والمجتمع في أفغانستان؛ فقد جرت تفاهمات بين الحكومة الأفغانية وشركة هواوي الصينية للاتصالات لتعزيز منظومة الأمن الإلكتروني في أفغانستان، وبالأحرى لاستكمال شبكة المراقبة التي كانت القوات الأمريكية قد أقامتها خلال احتلالها لأفغانستان.

وفى كل ذلك، فالتطور المستقبلي الأهم، تمثَّل في ترحيب كلّ من الحكومتين الصينية والأفغانية بانضمام أفغانستان رسميًّا لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

وتحركت روسيا هي الأخرى باتجاه بناء علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الدولة الأفغانية ما بعد التحرير. فقد أعلن وزير الخارجية الروسي لافروف مؤخرًا، عن توجُّه بلاده لرفع اسم حركة طالبان من قائمة الإرهاب الروسية. وقال نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي: إن بلاده تقترب من إقامة علاقات كاملة مع طالبان. وتحدث الرئيس الروسي بوتين عن بناء علاقات طبيعية بين موسكو والسلطة الفعلية في أفغانستان.

كما بدأت روسيا بتنفيذ بعض الاتفاقات -أو التفاهمات- المبرَمة مع حكومة أفغانستان بشأن تزويد أفغانستان بالبنزين والديزل والغاز المسال والقمح بصفة دورية.

نجاحات تكتيكية وتحديات إستراتيجية

يقرر كثير من المتابعين للشأن الأفغاني -ومنهم خصوم للحكم الحالي- أن حركة طالبان تحركت على الصعيد الدولي وفق إدراك سياسي عميق. وأن الحركة بدأت في إدارة عجلة الاقتصاد الصدئة من طول فترة توقف حركتها خلال الاحتلال، وأنها بدأت مشروعات طموحة يمكن لها أن تحقق تغييرات في البنية الاقتصادية والمجتمعية، خاصةً مشروعات قناة قوتشيبه على نهر جيحون التي ستحقق نموًّا في الزراعة والإنتاج، وإن الحركة قد تمكنت من تثبيت الأمن الداخلي... إلخ.

لكنَّ التحديات التي تواجهها أفغانستان ما تزال ضخمة ومليئة بالمخاطر.

فهناك التحديات المجتمعية؛ إذ نتج عن الاحتلال الأمريكي مقتل نحو 38 ألف أفغاني، كما وصلت نسبة الفقر بين السكان إلى نحو نسبة 85% من الأفغان. كما ترك الاحتلال البلاد وهي غارقة في أزمة زراعة وتعاطي الخشخاش. كما تركها الاحتلال وهي مرتع للجماعات القبلية المتناحرة ولمجموعات إرهابية متعددة.

وقد نتج عن الانسحاب الأمريكي انهيار للجيش الذي شكَّله الاحتلال، وكان تعداده الرسمي قد وصل 195 ألفًا. وعقب انتهاء الاحتلال، أصبحت البلاد تواجه سيلاً من عودة المواطنين الأفغان الذين كانوا قد فروا إلى دول الجوار طوال الحروب الثلاثة التي تواصلت لنحو نصف قرن.

وعلى صعيد العلاقات الإقليمية، وإن كان مفترضًا أن تضمحل الخلافات بين أفغانستان وباكستان، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لإيران، التي تتحرك وفق رؤية توسعية ومذهبية خطرة، سواء على صعيد التفكيك للمجتمع الأفغاني أو على صعيد إشعال العنف الداخلي؛ إذ توالي تدريب ميلشيات أفغانية أو على صعيد سعيها لإضعاف مفاعيل التنمية الاقتصادية، خاصةً الزراعية منها.

وعلى صعيد العلاقات مع الصين؛ وإذ من المفهوم لما أطلقت حكومة طالبان تعهدات بعدم استخدام أي قوة لأراضيها لتهديد مصالح الصين -في إشارة إلى رؤية طالبان السابقة بشأن حركة المسلمين الإيغور-؛ فأفغانستان لا شك تدرك أيضًا ضرورة التفرقة بين وضعها الحالي -بحكم احتياجها الاقتصادي- وبين وضعها المستقبلي، الذي ينشد بناء الاستقلال وعدم السقوط في فخّ التبعية للصين.

وعلى صعيد العلاقات مع روسيا، وإذ تطوّر روسيا علاقاتها مع أفغانستان، فطالبان ستكون أمام إجابة مستقبلية لتحديد موقفها من المشروع الروسي لمد خط أنابيب الغاز بين تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، ومشروعها لبناء سكك حديدية عابر لأفغانستان ليربط بين أوزبكستان وباكستان... إلخ.

وهي تحديات ذات طابع إستراتيجي تُضاف إلى التحديات الداخلية الناتجة عن نحو نصف قرن من الحروب المدمّرة.

 

  

أعلى