• - الموافق2024/07/16م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأبعاد الوطنية والأيديولوجية للعلاقات الصينية الروسية.. دورة جديدة في نمط مختلف

لقد كانت الصين وروسيا في مطلع القرن العشرين في موضع إعادة التأسيس. وقد كان متوقعًا أن تُحْدِث إعادة التأسيس تحولاً شاملاً، وبناء تحالف على أعلى مستوى؛ إلا أن ذلك لم يحدث بل حدث العكس


يشهد العالم تحولات كبيرة على صعيد التوازنات النسبية، وفي العلاقات بين الدول. وإذ تظهر مشاهد الحركة الدولية تراجعًا في قوة هيمنة الغرب وسيطرته «التاريخية» على مستويات متعددة؛ فالظاهرة المقابلة تتمثل في تطور القدرات الصينية على نحوٍ غير مسبوق، من جهة، وفي عودة روسيا لاعبًا في الساحة الدولية عامة والأوروبية خاصة من جهة ثانية. وفي التحول الجاري والمتصاعد في تعميق العلاقات الصينية الروسية من جهة ثالثة؛ إذ باتت تلك العلاقات تشهد نمطًا من التفاهم المتنامي حول المصالح المشتركة وحول إستراتيجية موحَّدة لإدارة السياسات الخارجية، ترتكز إلى ضرورة إعادة بناء النظام الدولي وتحويله من نمطٍ تُهيمن عليه وتُديره الولايات المتحدة -بدعمٍ أو بصيغة إلحاق للدول الغربية الأخرى-، إلى نمطٍ يقوم على تعدُّد الأقطاب وأبرزها الصين وروسيا (والهند بطبيعة الحال).

وهو ما تجسَّد في تشكيل هيئات وبنوك ومجموعات ضمَّت دولاً أخرى طامحة للاستقلال عن الهيمنة الغربية، وراغبة في لعب دور دولي -كما هو الحال- في مجموعة دول البريكس، ومجموعة ميثاق شنغهاي، والبنك الآسيوي، وغيرها.

واللافت أن العلاقات الصينية الروسية التي تشهد طفرةً غير مسبوقة في تسارع معالم توثيقها، وفي تعدُّد مجالات حركتها وتنسيقها إلى المستوى الإستراتيجي، لم تشهد إعلانًا عن تشكيل تحالف عسكري، أو حتى الإشارة إلى ذلك، كما هو الحال في نمط التحالف الغربي المستند إلى حلف الأطلسي. بل إن الدبلوماسيتين الصينية والروسية تُوجِّهان انتقادات دائمة إلى نمط التحالف الغربي باعتباره تحالفًا عسكريًّا يسعى لفرض مواقفه وإملاء مصالحه باستخدام القوة، ويعمل على إشاعة التحالفات العسكرية في العلاقات الدولية.

وواضح أيضًا، أن الدولتين تُصرّان على إبراز حِفاظ كلٍّ منهما على سيادته الوطنية -بل حتى الندية- في تعاملاتهما مع بعضهما البعض؛ إذ لا يمكن القول بأن العلاقات بينهما مثلها مثل العلاقات الأمريكية البريطانية أو العلاقات الأمريكية الألمانية والإيطالية أو الأوروبية عمومًا.

 فما هو نمط هذه العلاقات بين روسيا والصين؟ أو كيف يمكن توصيف هذا النمط من العلاقات؟ وما تأثير العلاقات الروسية الصينية على إدارة التوازنات الدولية أو تغيير الوضع الدولي؟

دورة ثالثة بأبعاد مختلفة

 من يتأمل مسيرة العلاقات بين الصين وروسيا، ويتابع تطورها التاريخي؛ يجد أن تلك العلاقات كانت تجري دومًا حين الاقتراب أو الافتراق وفق قواعد خاصة مختلفة على نحو كبير عن أنماط العلاقات الصراعية في العلاقات بين الدول الغربية؛ فإذ تصارعت إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا لعقود؛ وإذ جرت حرب عالمية شاركت فيها كل الدول الغربية الكبرى، وروسيا في زمن الاتحاد السوفييتي، إلا أن العلاقات الروسية الصينية أو لنقل: إن التنافس الصيني الروسي لم يشهد تلك الظاهرة الحربية -إلا في حدود ضيّقة أخذت شكل صراعات حدودية-، وإن التوافق الروسي الصيني خلال مراحل تلاقي المصالح لم يشهد تشكيل تحالف عسكري خلال المرحلة التي كان البلدان يعلنان أن كليهما منتميان إلى نفس الأيديولوجية؛ أي الاشتراكية.

 وقد شهدت العلاقات الروسية الصينية ثلاثة تحوُّلات خلال ما يقارب القرن من الزمان.

 لقد كانت الصين وروسيا في مطلع القرن العشرين في موضع إعادة التأسيس. وقد كان متوقعًا أن تُحْدِث إعادة التأسيس تحولاً شاملاً، وبناء تحالف على أعلى مستوى؛ إلا أن ذلك لم يحدث بل حدث العكس.

 لقد عاش البلدان حالة ثورة قادها حزبان شيوعيان؛ إلا أن الأمور لم تَجْرِ ولم تُبْنَ وتتطور على هذا الأساس، بل كان هذا التأسيس على يد حزبين شيوعيين تسبَّبا في خلاف عميق وخطير.

 وهو ما يؤكد مجددًا أن المبدأ الأساس في العلاقات الدولية هو المصالح. وفي ذلك يمكن القول بأن العلاقات الروسية الصينية قامت على أساس المصالح الوطنية لكلٍّ منهما بعيدًا عن الاعتبارات الأيديولوجية.

 لقد انتصرت الثورة البلشفية في روسيا بقيادة فلاديمير إيلتش لينين في عام 1917م، وكان من أبرز نتائجها أن اشتعلت في الصين ثورة أخرى مقابلة بقيادة ماو تسي تونغ. لكنَّ ثورة الصين تعثرت، ولم يُكتَب لها النجاح، ولم يصل الحزب الشيوعي الصيني للسلطة إلا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

 ولقد جاء نمط الثورة الصينية مختلفًا كليًّا عن نمط الثورة الروسية؛ فإذ اعتمدت الأولى على فكرة تحريض وقيادة العمال، وعلى حروب المدن والانتفاضات الجماهيرية؛ فقد اعتمدت نظيرتها الصينية على تحريض وقيادة الفلاحين، وعلى خوض حرب وكفاح مسلح طويل الأمد في الريف، وقد تواصلت على مدى زمن طويل، كما أنها جمعت بين البعد الاجتماعي والبعد الوطني المتمثل في دفع الاحتلال الياباني من جهة أخرى.

 ويمكن القول بأن مرحلة الوضوح في مدى تأثير هذا التأسيس الجديد لنظامي الحكم في البلدين قد بدأت بعد الحرب العالمية، وعندما شكّلت روسيا حلف وارسو في مواجهة تشكيل الولايات المتحدة حلف الأطلنطي؛ قررت الصين أن تظل بعيدة عن الحلفين العسكريين، وهو ما كان أمرًا لافتًا بحكم الحديث الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الحامي حول المنظومة الاشتراكية. لقد بات ظاهرًا أن خلافًا عميقًا في الفهم والرؤية والحركة بات ظاهرًا بين ماو تسي تونغ في الصين وستالين في روسيا.

 وفي الجوهر، كان واضحًا أن فكرة الدولة الوطنية ومصالحها كانت الأعلى لدى الصين وروسيا بعيدًا عن الأحاديث الأيديولوجية.

 ولم يستمر وضع الخلاف الفكري طويلاً؛ إذ شهدت السبعينيات تحولاً وتغييرًا كبيرًا في هذه العلاقات التي وصلت إلى حالة العداء العلني.

 لقد اعتبرت الصين روسيا إمبريالية اشتراكية، وذهبت إلى تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة أو مع الإمبريالية الرأسمالية، وهو ما أحدَث تغييرًا في التوازنات الدولية في تلك المرحلة. ووصل الأمر حدّ الاشتباكات المسلحة على الحدود بسبب الخلافات حول ترسيمها.

 لكنَّ الأمور استدارت الآن، والتقى الطرفان مجددًا على ضرورة إنهاء الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على العالم.

بين روسيا والصين تحالف أو تكامل أم توافق مرحليّ؟

أصبحت اللقاءات بين القيادتين الروسية والصينية دورية. وفي كل لقاء يصدر بيان يؤكد على أن العلاقات بين البلدين بلا حدود، وعلى توسيع التجارة والاستثمار بين البلدين، وعلى مناقشة قضايا النظام الدولي.

وبات البلدان يُجريان مناورات عسكرية ذات طابع إستراتيجي، سواء عبر سلاح الطيران، أو عبر الاشتراك في مناورات بحرية مع دول أخرى، وفي مناطق بعيدة عن حدود البلدين، كما هو الحال في المناورات البحرية الصينية الروسية الإيرانية في الخليج العربي.

وفي ذلك يمكن وضع الأصبع على البُعد الإستراتيجي الصراعي مع الآخر؛ إذ كلا البلدين لا يمكنه تأمين وضعه الإستراتيجي دون التساند مع الآخر في المرحلة الراهنة؛ فالصين الناهضة بحاجة ماسَّة للدور الروسي إستراتيجيًّا. كما أن روسيا، لا يمكنها تحقيق دورها ومصالحها والحفاظ على دورها الدولي دون التوافق والتحالف مع الصين.

والصين الناهضة لا يمكنها أن تُحقّق مصالحها كقطب دولي، وأن تُفعّل دورها في مواجهة الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي، دون أن تكون على علاقة إستراتيجية مع روسيا. الأمر لا يتوقف عند الحاجة للطاقة الروسية، بل يتخطاه إلى تأمين مصالحها الإقليمية ودورها العالمي.

 فالصين -فعليًّا- مُحاطَة بحلفاء وأحلاف أمريكية في إقليمها، والقوات الأمريكية تتمتع بوجود دائم وقويّ في كلٍّ من اليابان وكوريا والفلبين، وغيرها. وكثير من دول آسيا المحيطة بالصين في تحالف شامل، أو لنَقُل: إنها خاضعة للهيمنة الأمريكية.

 والمعنى أن الصين بحاجة إستراتيجية للعلاقات مع روسيا؛ لتأمين وضعها الإقليمي، وإلا باتت وحدها في مواجهة تحالفات لا قِبَل لها بها وحدها. والصين حين تفكّر وتحسب حساباتها الدولية لن تجد سوى روسيا حليفًا لها، سواء بسبب الصراع الروسي الأمريكي -الغربي- أو بسبب الرؤية الروسية القائلة بتعدُّد الأقطاب، وهو نظام يفيد الصين ربما أكثر مما يفيد روسيا.

 وروسيا إذ تقف وحيدة في مواجهة الإقليم الأوروبي؛ فإن حاجتها للصين تتضاعف بسبب الارتباط الياباني مع الولايات المتحدة؛ إذ إن الدور الصيني يمثل ضمانة إستراتيجية للحفاظ على الأمن الإستراتيجي للجناح الشرقي لروسيا. وروسيا بحاجة اقتصادية ماسة للعلاقات الاقتصادية مع الصين وللاستثمارات الصينية وللتطور التكنولوجي الصيني. وقد بات الأمر قاطعًا في دلالاته بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا.

 تلك الحرب مثَّلت علامة فارقة في إيضاح مدى حاجة روسيا للصين؛ فالصين هي مَن تحمي الاقتصاد الروسي، وهي من لعبت دورًا إستراتيجيًّا في عدم نجاح عزل روسيا وإضعافها. ويمكن القول، بأن أهم ما حققته تلك الحرب مِن دَفْع في تطور العلاقات الروسية الصينية، هو البعد الاقتصادي والتجاري.

لكن تلك الحرب كشفت كيف تُفكّر الصين وروسيا، أو كيف يجري نمط علاقتهما الإستراتيجية مع روسيا، فلم تعلن الصين موقفًا داعمًا لحرب روسيا على أوكرانيا. وقد بلورت الصين رؤيتها في ضرورة الحفاظ على مصالح الدول وأمنها الإستراتيجي، وعلى ضرورة أن يجري ذلك وفق توافقات محددة. وهي بالمقابل أظهرت رفضًا قاطعًا للمحاولة الغربية لتقويض روسيا سياسيًّا ودبلوماسيًّا وعسكريًّا، ويمكن القول بأن الصين قد وجدت في الصراع الروسي الغربي فرصة إستراتيجية تحرَّكت من خلالها وفق طيف واسع من خطوط الحركة.

وقد حافظت الصين على روسيا -لحاجتها لها، ولدورها إقليميًّا ودوليًّا واقتصاديًّا-؛ فعمَّقت مصالحها واستثماراتها معها، وهي استثمرت في الدور الروسي الساعي لبلورة نظام دولي سياسي واقتصادي جديد.

 وهذا نمط من التحالف لا يعلن عن تشكيل حلف عسكري مشترك، ومع ذلك ستكشف حالة الصراع مع تايوان -إن تحوَّلت إلى حرب- ما إذا كان التحالف سيرتقي إلى الحالة العسكرية أم أن روسيا ستمارس نفس الخطة الإستراتيجية التي اعتمدتها الصين في حرب أوكرانيا.

إعادة صياغة النظام الدولي

 لكنْ للتحالف العسكري بُعْد آخر؛ فلقد فرضت المصالح الصينية والروسية على البلدين، الدخول في نمط تساندي من العلاقات. وقد أصبح للعلاقات والخطط المشتركة بين البلدين فعالية حقيقية على الصعيد الدولي إلى درجة تأسيس مؤسسات تُجسِّد التغييرات الدولية؛ إذ تمكَّن البلدان من تشكيل كيانات قادرة على تقليص معالم الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

 وإذا كانت الأعين تتجه دومًا إلى ما أنتجه التحالف بين البلدين من تشكيل منظمة البريكس وتوسيعها لتمثل قوة اقتصادية وسياسية مُوازية لدول مجموعة الثمانية الكبار -والبريكس تكاد تتفوق عليها-؛ فهناك تشكيل تحالفي آخر يَستهدف الحفاظ على أمن الدولتين في إقليمهما، وهو مجموعة ميثاق شنغهاي.

 ولذلك يمكن القول: بأنه على الرغم من تعدُّد مجالات التحالف وتوسعها، ووجود خطة مشتركة للبلدين تهدف لإحداث تغييرات عميقة في التوازنات الدولية؛ إلا أن تلك المؤسسات التي نتجت عن التعاون المشترك بين البلدين لا تزال بحاجة لوقتٍ حتى يمكن لها أن تُحدث تغييرًا حقيقيًّا.

وهنا يبرز السؤال حول تصرُّف البلدين -أو خططهما- إذا أقدم الغرب على خطوة نقل الصراع من الاقتصادي والسياسي إلى العسكري، وهو ما يعني أن الغرب سيُصبح في موضع الهجوم على التكتلات التي شكَّلها البلدان؛ وهنا: هل يتحالف البلدان عسكريًّا للدفاع عن نفسيهما أو عن مصالحهما الدولية المشتركة، وحماية مَن دخَل وانتمى إلى المؤسسات والتكتلات التي شكَّلها البلدان؟

لا تبدو الإجابة واضحة حتى الآن.

 

أعلى