ما بين رمضان الماضي ورمضان القادم!!
لا بد أن القارئ تعجَّب من العنوان ولا ريب ؛ فليس هذا وقت يُعتَاد الكلام فيه عن رمضان ؛ ولهذا اخترته ! فقد مضى ما يقرب من نصف العام على رمضان الماضي وبقي مثلها تقريباً حتى رمضان القادم .
ومنا من سيعيش ليدركه ومنا من لن يدركه ، كما أنه كان منا من أدركه ، ومضى بعضنا قبل بلوغه .
والسؤال الآن : هل فترت الهمم عمَّا عهدناه في رمضان ؟ هل نسينا ما عزمنا عليه آنذاك ونحن نبكي فِراق الشهر ليلة العيد ؟ هل فترت الهمم هذه الأيام ؟ بل قبلها بأيام ... عفواً بأشهر ؟ نعم فترت ! لماذا ؟ لكي نعلم ضعفنا ونلزم قَدْرَنا ولا نغتر بأعمالنا .
فنحن لم نجتهد في رمضان ؛ ولا تُسَمِّ قيامك وصيامك اجتهاداً ، ولو كنتَ سميته اجتهاداً وأعجبك وانتفختْ له أوداجك ، فاعلم أنه سبب من أسباب الفتور .
وَلِنعلم أننا لم نجتهد في رمضان ، علينا أن ندرك كيف مرت عبادتنا فيه : لقد كبل الله لنا الشياطين ، وسيَّر لنا قارب العمل فصعدنا مع الصاعدين ، وسار بنا الركب مع التيار بلا جهد يُذكَر ؛ فما أيسر العمل مع العاملين !
وهذا حال رمضان والمجتهدين ؛ فما أسهل الإبحار مع التيار ! فالجميع في رمضان قد صام وقام ( أعني أغلب من حولنا ) ، والجميع تحركت شفاههم بالذكر والقرآن ، بل إن مواعيد دوام الأعمال تغيرت فصار لدينا متسع من الوقت للراحة ومِن ثَمَّ العبادة ، فظهرت أمارات الصلاح فأنت لست غريباً ولا تبحر ضد التيار ... وما أصعب الإبحار ضد التيار !
وعند انتهاء الثلاثين يوماً المباركات وقد نهلتَ فيهن من الحسنات – بإرادتك أو رغم أنفك - فلا تعجب بنفسك ولا تظن فيها الخير وتتفرج أساريرك ثقةً وتتقلب شفتاك ازدراءً لحال أقوام تظن أنهم لم ينالوا ما نلت ، بل احمد ربك الذي أعطاك فلم يحرمك ، ورَغَّم شيطانك فلم يخذلك ، وكبح جماح نفسك بما رزقك من الصوم فلم يُسلِمك : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ( يونس : 58 ) .
ولم أتعرض في كلماتي القليلة للرياء والتسميع وما إلى ذلك رحمة بنفسي وبالقارئ .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لكل عمل شِرَّة ، ولكل شرة فترة ؛ فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك » [1] .
إذاً هذا الفتور الحالي بعد مرور نصف عام على رمضان يجب أن يوجَّه لكي يكون على سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو من نعم الله علينا لنعلم أن الله هو الرزاق ؛ يرزقنا العمل ثم يجزل لنا العطاء عليه ، فإن حُرمتَ هذه الأيام عملاً كنتَ عملته من قبل فارفع كفَّيِّ الضراعة متوسلاً لله - تعالى - وافرح بقبضة الحزن تعتصر الفؤاد وقل : « يا رب ردَّني إليك رداً جميلاً » .
لعل الذي نفسي ونفسك بيده أن يُجري عليك الرزق من جديد ؛ فإنه – سبحانه - ما منعك إلا ليعطيك ؛ فابسط كفاً : وتصدق علينا [2] فما أحوجنا لمعرفة قَدْر أنفسنا ، وما أحوجنا لرفع أيدي الضراعة لرب العزة - سبحانه - لنعترف بين يديه بضعفنا وعجزنا إلا أن يتغمدنا الكريم الرحيم برحماته ، وما ألطف العليم الخبير بعباده ؛ إذ جعل لهم من أنفسهم واعظاً ، فما اشتكى أحدهم الفتورَ إلا كان حقاً علينا أن نبشره بالتوبة ، فَلْيستبشر خيراً فإن شكواه دليلُ إيمانه ؛ فإنه لو كان ميتاً لما كان للجرح ألمٌ ؛ وهل لجرح بميت إيلام ؟ وعن عبد الله بن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال : « سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة . قال : تلك محض الإيمان » [3] .
ومن هذا الحديث نفهم أن دخول الوساوس على القلب دليل الإيمان فإن الشيطان كاللص ؛ فما يفعل اللص في البيت الخرب ؟ اللص يدخل البيوت المليئة بالذهب والفضة ، ونستطيع أيضاً أن نقول : إن حزن القلب بسبب الفتور والوساوس دليلُ إيمانه ؛ لأنه لو كان كارهاً للحق لما أحزنه فتوره وضعفه ووسوسته .
وعن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « تُعرَض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً ؛ فأي قلب أُشرِبها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا ، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربَادّاً كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا ما أُشرِب من هواه »[4] .
فإن الشيطان يلقي بالشبهات والنفس تلقي بالشهوات وقد يختلط الأمران معاً فتشتهي النفس ويشبِّه علينا الشيطان الحِل والحرمة ؛ فَحُزْن القلب دليل الرفض ويبقى على القلب عمل لا بد منه ؛ وهو أن يتوجه إلى ربه بالضراعة ولا يكتفي بالحزن ولا يقف عنده طويلاً ؛ فإن له رباً رحيماً ما منعه شيئاً إلا ليعطيه خيراً منه ؛ فاسأله - يا عبد الله - تنلْ رضاه .
ولولا الفتور لتمادينا في العُجْب والرياء حتى نذوق الخذلان بما قدمت أيدينا .
وأعظم خير يأتي به الفتور ذلُّ النفس بين يدي العزيز الرحيم ؛ فلا تحرم نفسك هذا الذل بين يديه في جوف الليل تشتكي إلى الله عجزك ، وتتضرع إليه أن يتغمدك برحماته ؛ فوالله لولا الله ربنا ما اهتدينا !
فكل مقاومة بحزن وتضرع لله - تعالى - تنكت في القلب النكتة البيضاء التي ذُكرَت في الحديث حتى يصير القلب سليماً لا تضره الشبهات ولا الشهوات : } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ( العنكبوت : 69 ) .
وبعدُ فهذا نوع من الأمل يسطع نوره في ظلمات القلب فيستبصر الطريق ولا تشطح به الوساوس فيظل في دائرة من الفتور ، لا يُرى لها بداية ولا نهاية .
نسأل الله العظيم أن يغفر لنا ذنوبنا ويتجاوز عن سيئاتنا ويرحمنا ؛ فإن الله هو الرحيم الودود .
(1) صحيح الجامع .
(2) انظر كتاب الفوائد ؛ حيث ذكر فيه ابن القيم جملة بديعة قال في آخرها : وابسط كفاً : وتصدق علينا « كناية عن التذلل لله - تعالى - تذلُّل السائل الذي ضاقت به السبل حتى أُغلقَت دونه ولم يجد إلا باباً فولجه ولوج الغريق الذي وجد نجاة بعد ما كاد أن يهلك ، وهي جزء من آية في سورة يوسف ؛ حيث توسل إخوته إليه بعدما ابيضت عين أبيهم وأُخِذ أخوهم واحتاجوا الميرة حاجة شديدة فمسهم الضر فلم يجدوا غير أن يبسطوا أيديهم إليه وقالوا له : { فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } (يوسف : 88) .
(3) رواه مسلم .
(4) صحيح الجامع .