• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العرب في مهب التحولات الإستراتيجية

العرب في مهب التحولات الإستراتيجية

 يثار في وسائل الإعلام هذه الأيام كلام كثير عمَّا يوصف بأنه «صدع» في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وذلك بسبب الاختلافات في وُجهات النظر بين إدارتَي (أوباما ونتنياهو) حول بعض النقاط الخاصة بالقضية الفلسطينية، وتتمثل تلك الخلافات في البناء الإسرائيلي في القدس الشرقية وعمليات التهويد المستمرة، وهو ما تَعُدُّه الولايات المتحدة في غير مصلحتها على الأمد القريب؛ فقد أرسل أوباما نائبه جو بايدن إلى «إسرائيل» من أجل إعادة استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ولكنَّ نتنياهو استقبل بايدن بالإعلان عن بناء ألف وستمائة وحدةٍ سكنية استيطانية جديدة في القدس الشرقية المحتلة، وأعلن نتنياهو من قلب الولايات المتحدة بعد ذلك (من لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية «إيباك») أن القدس ليست مستوطَنَة ولكنها عاصمة، في تحدٍّ لجهود أمريكا لإعادة استئناف المفاوضات من أجل تهدئة الأوضاع في المنطقة وتحسين صورتها.
وعلى الرغم من تلك الإيماءة الإسرائيلية بتحدي أمريكا، إلا أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون صرحت بأن ما بين أمريكا وإسرائيل هو «رباط لا ينفصم» Unbreakable Bond، وأعقبت ذلك بتصدير صفقة أسلحة إلى الكيان الصهيوني تتمثل في ثلاث طائرات من طراز (هيركيوليز سي -130 جيه) بتصميم من شركة «لوكهيد مارتين» الأمريكية لتلبية احتياجات تل أبيب خاصة، ويصل إجمالي قيمة الصفقة إلى ربع مليار دولار، وتحتوي الطائرات على عدد من الأنظمة التي أنتجتها صناعات الدفاع الإسرائيلية، وسيتم تغطية قيمة الصفقة من صناديق المساعدات الخارجية الأمريكية، ومن المتوقع أن تُبرِم أمريكا صفقة طائرات (إف 35) بقيمة 3 مليارات دولار ، يتسلم الكيان الصهيوني أُولَى دفعاتها في عام 2014م.
وبالرغم من تلك المؤشرات السلبية القادمة من تل أبيب إلا أن أمريكا بادلتها بمؤشرات إيجابية من واشنطن، ولكن السياق العام - بالرغم من ذلك - يشهد تعارضاً وقتياً في المصالح بين الجانبين؛ وذلك بسبب اختلاف الرؤى بين تل أبيب وواشنطن، وكذلك بسبب اختلاف الطموحات في ظل سياق إستراتيجي متغير؛ فالعلاقات الدولية قائمة على المصالح، ولا توجد كلمة «صداقة» في تلك العلاقات، وبالرغم من أن «إسرائيل» تحقق للولايات المتحدة مصلحة كبرى في المنطقة العربية، إلا أن واشنطن يمكن أن تعيد النظر في محددات تلك العلاقة إذا رأت في يوم من الأيام أن إسرائيل لا تحقق المصلحة الأمريكية؛ أو أن طموحاتها بدأت في الاصطدام مع الطموحات الأمريكية؛ لذا يمكن أن تعيد تقييمها في إطار المصلحة الأمريكية العُليا.
وفي السياق الراهن فإن الأمر يتخطى مجرد البناء في القدس وعمليات التهويد بالنسبة لواشنطن؛ لأن الأمر في ظل حكومة نتنياهو وليبرمان بدأ يتعلق بالصورة الأكبر وهو توازن القوى فيما يسمى بالشرق الأوسط في الإستراتيجية الأمريكية، وهي تلك المنطقة الممتدة من مصر وحتى باكستان؛ حيث إن الولايات المتحدة تعاني حالياً في تلك المنطقة بسبب عجزها عن التحكم في مجريات الأمور فيها بسبب الحربين: على العراق وأفغانستان.
وهناك نقطتان أساسيتان في العلاقة (الأمريكية - الإسرائيلية) يجب وضعهما في الحسبان فيما يتعلق بالشرق الأوسط:
أولاً: أن من أسباب معاداة شعوب المنطقة لأمريكا هو الدعم الأمريكي لإسرائيل واستخدُامها الدائم للفيتو، (هذا إلى جانب عدة أسباب أخرى، مثل: احتلالها للعراق وأفغانستان وقمعها للكثير من المسلمين حول العالم).
ثانياً: أن الولايات المتحدة لديها علاقة إستراتيجية خاصة بإسرائيل واعتمادية متبادلة بين بعضهما البعض.
وقد ورثت الإمبراطوريةُ الأمريكيةُ نظيرتَها البريطانية في العالم، ودائماً ما تعتمد أمريكا في إستراتيجيتها الكبرى للمنطقة على الإستراتيجية البريطانية الكبرى السابقة، وذلك بهدف المحافظة على التوازن الإقليمي للقوة من أجل تجنب ظهور قوى أكبر يمكن أن تهدد المصالح الأمريكية. ومَنْ زرع «إسرائيل» في المنطقة هو بريطانيا؛ من أجل أن تكون بمثابة الحاجز الذي يمنع من توحد العرب بين الشطرين الآسيوي والإفريقي، وكذلك من أجل أن تكون نقطة قوة رادعة ومتفوقة تقوم بعمل ضربات إجهاضية لأي قوة ناشئة ومن ثَمَّ السيطرة على توازن القوى لصالح إسرائيل وكذلك التحالف الغربي، هذا إلى جانب الأبعاد العقدية والدينية في الصراع بين الإسلام والغرب بصورة عامة.
وكانت الحرب الباردة بمثابة تدريب أمريكي ضخم على عملية توازن القوى تلك؛ وذلك لتنافُس نظام التحالف الأمريكي الموسَّع حول العالم ضد ذلك الذي شكله الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، ومنذ نهاية الحرب الباردة تحركت الولايات المتحدة ضد كثيرٍ من القوى المهيمنة حول العالم؛ سواء لعقد تحالفات معها أو لكسر طموحاتها، كما حدث في الحروب الكورية والفيتنامية، وفي احتوائها لكوبا في أمريكا الجنوبية وللكتلة الشرقية في أوروبا بمشروع (مارشال) ثم حلف شمال الأطلسي،  وفي المنطقة العربية كانت إسرائيل هي حامي القيم الغربية أمام المد السوفييتي (سابقاً). وظل الدعم الغربي لها مستمراً في حروبها مع العرب، ثم جاءت الضربة الإجهاضية للعراق بعد غزوه للكويت بفرض العقوبات عليه ثم احتلاله في 2003م؛ حيث كان العراق يُعَدُّ من أقوى الدول في العالم العربي.
وفي المنطقة التي يطلَق عليها بصورة عامة الشرق الأوسط، التي تمتد من البحر المتوسط إلى جبال الهندكوش. يقول جورج فريدمان (أحد أهم المحللين الإستراتيجيين ورئيس مؤسسة ستراتفور البحثية): إن هناك ثلاث توازنات إقليمية جوهرية للقوى:
أحدها: توازن القوى بين العرب وإسرائيل.
وثانيها: التوازن العراقي الإيراني.
وثالثها: هو التوازن الهندي الباكستاني.
والهـدف الأمريكـي فـي كل توازن ليس الاستقرار بقدر ما هو تحييدٌ متبادَلٌ للقوة الإقليمية عن طريق القوى الإقليمية الأخرى، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار، طالما أن عملية التحييد مستمرة.
وقد انهار اثنان من التوازنات الإقليمية الثلاثة أو أصبحا في حالة مزرية على أفضل تقدير؛ ففي عام 2003م أدى الغزو الأمريكي للعراق والفشل في تنصيب حكومة قوية معادية لإيران في بغداد إلى انهيار التوازن المركزي للقوة في تلك المنطقة، والأمل ضعيف في أن ينمو ذلك التوازن مرة ثانية بسبب صعود النفوذ الشيعي داخل العراق. أما التوازن الشرقي للقوة بين باكستان والهند فيواجه أيضاً خطر الانهيار؛ فالحرب الأفغانية أدَّت إلى وضع ضغوط هائلة على باكستان، وهناك سيناريوهات يمكن أن تضعف فيها قوة باكستان بصورة كبيرة أو حتى تنهار تماماً كدولة، ولم يتضح بَعْدُ كيف سيتطور ذلك الامر، إلا أن المؤكد أن ذلك ليس في مصلحة الولايات المتحدة؛ لأن ذلك يمكن أن يدمر توازن القوة الإقليمي مع الهند؛ فالولايات المتحدة لا تريد أن تصبح الهند قوة منفردة بدون تحدٍ في شبه القارة الهندية، بسبب تداعيات ذلك على المدى البعيد بالرغم من الصداقة الأمريكية الهندية؛ لذا فإن الولايات المتحدة تريد باكستانَ قوية من أجل موازنة الهند وتحييـدها، ومشكلتهـا الآن هي كيفيـة إدارة الحـرب الأفغانية - وهي قضية فرعية من الناحية الإستراتيجية - بدون أن يؤدي ذلك إلى تقويض المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، ولتوازن القوة الباكستاني الهندي.
ويبقى التوازن الثالث في المنطقة الغربية، وهو التوازن ما بين إسرائيل وجيرانها؛ حيث يُعَدُّ ذلك التوازن مستقِراً إلى حدٍّ مَّا، وبذلك تُعَدُّ إسرائيل أصلاً إستراتيجياً هامّاً للولايات المتحدة، ولكن في ظل انهيار التوازن الأوسط بين إيران والعراق فإن واشنطن لا يمكن أن تتحمل انهيار التوازن الغربي بين إسرائيل والعرب؛ حيث وصل التمدد المفرط للجيش الأمريكي إلى ذروته حالياً، ولا تستطيع واشنطن أن تتحمل مشكلة جديدة، ولن تقبل بزعزعة استقرار تلك المنطقة لكي لا تتأزم الأمور بالنسبة لها.
فالمصالح الأمريكية تكمن في توازن القوى في إطار مجموعة من العلاقات المستقرة المتبادَلة بدون أن تنفرد قوة بالسيطرة والهيمنة بصورة مفرطة تخرج بها عن نطاق سيطرة الولايات المتحدة، وواشنطن لن تسمح في الفترة الحالية بأن تنتقل إسرائيل من كونها حليف أمريكي يحافظ على توازن القوة في المنطقة إلى قوة مهيمنة إقليمية منفردة تعمـل خارج إطـار المصالح الأمريكية؛ فأمريكا - وقبل كل شيء - تريد أن تضمن استمرار استقرار الأوضاع في المنطقة في ظل التحولات التي قد تجري في مصر أو في الأردن أو في سوريا؛ لذا لا تريد أن تقوم «إسرائيل» بأي شيء يؤدي إلى انهيار ذلك التوازن، بقيامها - مثلاً - بهدم الأقصى أو فعل استفزازات ضد العرب مثل التمادي في التهويد وبناء المستوطنات، وهو ما يمكن أن يعقِّد الأوضاع الداخلية في تلك البلدان ومن ثَمَّ يؤدي إلى تعقيد الصورة الأكبر لتوازن القوة في المنطقة، وهو ما لا تستطيع أمريكا أن تتحمله في الظرف الراهن بسبب التمدد المفرط لجيشها.
فالولايات المتحدة ربما تجد نفسها قد استُدرِجَت إلى صراع جديد في المنطقة؛ سواء بقصف إسرائيل لإيران أو بانهيار الأقصى - مثلاً - أو حتى على المستوى المحدود باندلاع انتفاضة جديدة، ولكن إسرائيل يمكن أن تزيد الأمور تفاقماً إذا شنَّت هجوماً على إيران خارج منظومة التخطيط الأمريكي، وبذلك فإن الولايات المتحدة تريد شيئاً واحداً من إسرائيل الآن، وهو: ألاَّ تفعل شيئاً يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار التوازن الغربي للمنطقة أو جعل مهمة أمريكا أكثر صعوبة في المناطق الأخرى.
وإسرائيل تدرك جلياً تورُّطَ أمريكا في تلك المناطق الأخرى، بالإضافة إلى إدراكها لمدى تفوُّقها الحالي في منطقتها، وترى ذلك على أنه فرصة ذهبية لتدعيم وتوسيع نفوذها ومن أجل خَلْق حقائق جديدة على الأرض، فتقوم بالبناء في القدس الشرقية، وتستغل الظرف لإعادة تشكيل التركيبة السكانية والجغرافية في منطقتها الحالية، بزعم أن لها حقاً في القدس الشرقية لا يمكن لأمريكا أن تنكره عليها، ولكن أمريكا ترى أن عمليات البناء في القدس يمكن أن تُضعِف موقفها الحالي في المنطقة.
ورغبة إسرائيل في فعل ذلك مفهومة، ولكنها تعارض المصالح الأمريكية؛ فالولايات المتحدة - مع الأخذ بالحسبان التحديات الجسيمة التي تواجهها - ليست مهتمة برغبة إسرائيل في إعادة تشكيل منطقتها، أو تستطيع أن تتسامح مع أي مخاطر تنتج عن التحركات الإسرائيلية، حتى إذا كانت تلك المخاطر صغيرة؛ فالولايات المتحدة وصلت إلى الحد الأقصى من تحمُّل المخاطر؛ ولذلك فإن المصالح الإسرائيلية الأمريكية تتعارض في تلك الحالة؛ حيث تراها إسرائيل فرصة، وتراها الولايات المتحدة تمثل مزيداً من المخاطر.
وإسرائيل تدرك أن علاقاتها مع أمريكا هي ضمان لوجودها، ولكن يبدو أن نتنياهو يرى أن أمريكا بحاجة ماسة إلى إسرائيل في الوضع الراهن للحفاظ على التوازن الغربي للقوة بصرف النظر عما تقوم به الآن وسوف يكون مسموحاً به؛ لذا فإنه يتصرف بحرية من أجل ترسيخ أقدامه أيضاً محلياً أمام ناخبيه.
وإذا نظرنا إلى طبيعة اتخاذ القرار في الولايات المتحدة نجد أن إسرائيل تسيطر بصورة كبيرة على أهم المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة وعلى عدد من نواب الكونجرس، وكذلك تقبض على مفاصل الاقتصاد الأمريكي بوجود أغنى العائلات الأمريكية من اليهود هناك، هذا بالإضافة إلى تحكُّمها في العديد من المنابر الإعلامية المرئية والمقروءة؛ لذا فإن إسرائيل تستطيع أن تمارس ضغوطاً على الولايات المتحدة من الداخل وليس من الخارج بعكس أي دولة أخرى في العالم، ويستطيع نتنياهو أن يمثل مشكلات لأوباما فيما يتعلق بسياساته الداخلية أو بشعبيته (بتحريك وسائل الإعلام ذات الخلفية اليهودية ضده أو بإفشال برنامجه الانتخابي في أي جزء منه) فإسرائيل تستفيد من ضعف أمريكا بالخارج، وتستطيع أن تمارس مزيداً من الضغوط على الرئيس الأمريكي في الداخل أيضاً (أي رئيسٍ كان)، وهو ما يمثل معضلة حالية أمام إدارة أوباما التي تهدف إلى عقد مصالحة مع العالم الإسلامي؛ ليس من أجل المسلمين ولكن من أجل تحقيق المصالح الأمريكية، التي رأى أوباما أن بوش أضر بها بسياساته الأحادية وأدى إلى تشويه صورة أمريكا بالعالم.
وتكمن خطورة اللحظة الراهنة في وجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل بقيادة نتنياهو وليبرمان، وبوجود تمدُّدٍ مفرط للقوة الأمريكية في الخارج، وهو ما يشل الولايات المتحدة عن تحمل أي مخاطر جديدة خاصة في المنطقة العربية، (التي يراها بعض الإستراتيجيين على أنها مجرد «محطة وقود عملاقة» للعالم)، هذا بالإضافة إلى الأطماع الإيرانية في المنطقة، والتي تستغل اللحظة الراهنة أيضاً لزيادة نفوذها في العراق إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن يتحمله «بديل البنزين» الإيراني؛ فاللحظة الراهنة تمثل فرصة غير مسبوقة لإيران أيضاً للتوغل في أعقاب الانتخابات العراقية لتشكيل حكومة موالية لها، وفي أعقاب ترسيخ أقدام حكومة خامنئي ونجاد والقضاء على المعارضة. وفي ظل ذلك الموقف المتأزم فإن إسرائيل ربما تستغل الأوضاع لتهديد الأقصى ذاته.
وإذا نظرنا إلى العرب وإلى أوراقهم فسنجد أن جعبتهم خاوية؛ فحتى القمة العربية الأخيرة فشلت في أن تصل إلى أية قرارات من شأنها ردع إسرائيل عن عمليات تهويد القدس وتهديد الأقصى، وبين ذلك المثلث الأمريكي الإسرائيلي الإيراني، يبقى العرب في حيرة من أمرهم، ولا يتبقى لهم إلا أحد خِيارين:
الخِيـار الأول: إمـا أن يمـارسوا أقصى ضغوطٍ لديهم - إن وُجِدَت - على الإدارة الأمريكيـة من أجـل التصعيد ضد إسرائيل ومحاولات التهويد بأن يلعبوا بورقة التحالف مع الولايات المتحدة وبالمصالح النفطية المشتركة وبما يمكن أن يمثله تهديد المقدسات من خطوط حمراء على استقرار الأوضاع في المنطقة، ومن ثَمَّ على تدفق النفط، وبذلك تزيد الضغوط على إدارة أوباما لكبح جماح نتنياهو، ويؤدي ذلك إلى تضخيم إحساس الإدارة بخطر زوال التوازن الإقليمي الثالث الغربي.
الخِيار الثاني: وإما أن يختار العرب أن يغيروا قِبلَتهم وأن يجمِّدوا دائرة النفوذ الأمريكية المشلولة حالياً ويهربوا من دائرة النفوذ الإيرانية، بأن يعظِّموا دائرة النفوذ التركية، ويضخوا فيها مزيداً من الأرصدة، ليس الأرصدة المالية والاقتصادية فقط، ولكن الثقافية والسياسية أيضاً، ويعقدوا مزيداً من الشراكات على مختلف المستويات، وهو ما يوافق الرغبة التركية التي جاءت للمنطقة في ظل سياسة العمق الإستراتيجي لأحمد داود أوغلو مهندس الخارجية التركية وصاحب سياسة (انعدام المشكلات)، وذلك ربما يوافق أيضاً الرغبة الأمريكية بخَلْقِ توازن قوة جديد بين إسرائيل وتركيا، من أجل ضمان عدم تفرُّد إسرائيل بالهيمنة على المنطقة وما يحمله ذلك من تهديد للصورة الأمريكية وللمصالح الأمريكية.
فتركيا تمثل بديلاً مقبولاً لدى دوائر صنع القرار الأمريكي، باعتبارها دولة إسلامية ديموقراطية عَلمانية، تمثِّل جسراً ما بين الشرق والغرب، وباعتبارها دولة في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وباعتبارها دولة مرشحة أيضاً لعضوية الاتحاد الأوروبي وتساعدها الولايات المتحدة بقوة في ذلك المجال، كما أنها يمكن أن توازن أيضاً النفوذ الإيراني الشيعي المتنامي في المنطقة؛ فتركيا تمثل في النهاية خياراً مقبولاً لدى الإدارة الأمريكية بقيادة أوباما الذي قرر أن يكون خطابه الأول للعالم الإسلامي من تركيا، وهي إشارة واضحة لمدى إدراكه لقيمة تركيا في المستقبل فيما يتعلق بتعامل أمريكا مع تلك المنطقة الهامةِ الممتدةِ من العالم.
ولأن التهديدات العربية ضد إدارة أوباما ربما لا تؤتي أُكُلَها مثلما أفادتنا دروس الماضي والحاضر، فيبقى الخِيار التركي هو الخِيار الوحيد الباقي الآن، ويجب على العرب أن يدركوا أهمية اللحظة والتوقيت، وأن من مصلحتهم زيادة النفوذ التركي في المنطقة؛ فحتى الآن لا يبدو أن النفوذ التركي له جوانب سلبية تفوق جوانبه الإيجابية، ولكن على الجانب الآخر فإن قطع اليد التركية الممدودة بالشراكة والصداقة العميقة سوف يمثل خطأً تاريخياً.. هذه المرة ربما لا نجد وقتاً أو فرصة لإصلاحه، إذا ما تنامى النفوذان (الإيراني والإسرائيلي) وسيستحيل حينها عكس عقارب الساعة إلى الوراء.

أعلى