• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لسنا وحدنا

من أهم علامات انكسار الكيان: تداعي رعاة المشروع الصهيوني إلى إعلان إدانة الهجوم، والطلب من الجميع إدانته، وإرسال حاملتي طائرات أمريكية، مع القوة المُواكِبَة لها إلى شرق المتوسط، بالإضافة إلى إرسال قادة أمريكيين كبار وقوات نُخْبَة إلى فلسطين المحتلة


إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، مَن يهده الله فهو المهتد، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

اللهم اجعلنا ممَّن يثقون بوعدك لعبادك المؤمنين، وممن يتمسكون بحبلك المتين؛ فأنت حسبنا ونعم الوكيل.

قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقال -جل وعلا-: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

ولا ننسى أنّ كل صراع فيه ضحايا وألم؛ إذا استغرق طرفٌ في معاناته فقط، انكسرت نفسه، وضعف عزمه، ولذا وجَّهنا خالق الكون العليم الحكيم إلى قاعدة ذهبية تكون أساسًا لحساب الأرباح والخسائر؛ فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].

 ونحن في هذا المقام، وفي خِضَمّ هذا الطوفان، نحتاج إلى رسم صورة كلية للحدث العظيم الذي دخل الشهر السابع، وما يزال هناك إحساس داخلي لكثير من الناس: أننا في البدايات أكثر من كوننا في النهايات؛ فالدول والشعوب تتقاذفها أمواج الطوفان العاتية، ولذا فكل شيء قابل للتغيير، بدءًا من مواقف الدول والمنظمات، وصولاً إلى العقائد والأفكار.

وهنا ملاحظة مهمة جدًّا؛ فطَرَفا الصراع بينهما فرق شاسع في القدرات ومدى السيطرة، ولذا فنحن أمام أفعال أو انفعالات سريعة للقوى المسيطرة، يقابلها ردّ فِعْل ينمو ببطء وثبات يخنق الخصم المتخبّط ويُكبّله.

ولبيان ذلك نعود من البداية في استعراضٍ سريعٍ لأهم الأحداث، نقف فيها عند الأحداث الفارقة:

أولاً: في الأيام الأولى كان هناك طَرَفٌ خطَّط، واستعدَّ لمعركةٍ طويلةٍ وقاسيةٍ؛ فقد سمَّاها «طوفان الأقصى»، وتميزت بثلاث ركائز؛ عسكرية، واستخباراتية، وإعلامية.

فمن البداية كان واضحًا أنّ ما يسمى بـ«إسرائيل» قد تمَّ اختراقها استخباراتيًّا بعمقٍ يتجاوز قدرات الطرف الفلسطيني، ولأول مرة في الحروب كانت المُواكَبة الإعلامية للوحدات العسكرية طاغية، ومُوظَّفة بصورة صحيحة؛ فبعض المشاهد لبعض الأسرى نُشِرَت بعد أكثر من ستة أشهر، واستمر ذراعَا الإعلام والاستطلاع بالعمل؛ فمجموعات القتال تتكوّن من رَامٍ ومساعده، وراصد ومصوّر، ويقابله تخبُّط إسرائيلي؛ فالمفاجأة كانت كبيرة، والصدمة كانت قاسية، وعلامة ذلك ردة الفعل؛ فالمعلومات الصحيحة غير متوفرة إلا من الجانب الفلسطيني.

ثانيًا:  من أهم علامات انكسار الكيان: تداعي رعاة المشروع الصهيوني إلى إعلان إدانة الهجوم، والطلب من الجميع إدانته، وإرسال حاملتي طائرات أمريكية، مع القوة المُواكِبَة لها إلى شرق المتوسط، بالإضافة إلى إرسال قادة أمريكيين كبار وقوات نُخْبَة إلى فلسطين المحتلة، وكانت مشاركة المسؤولين الأمريكان في مجلس الحرب الإسرائيلي علنيةً، بدءًا من الرئيس الصهيوني بايدن، ثم وزير خارجيته اليهودي الصهيوني، وصولاً إلى وزير الدفاع، وهو ما يُوحي بانكسار الدولة، ولكنّ تشبُّث قادة الكيان بالسلطة وإدارة المعركة، أعاد الدور الأمريكي للدعم المطلق والتمويل الشامل.

ثالثًا: من الغريب أن مظاهر التأييد لم تقتصر على البيانات، وإرسال الأساطيل الأوروبية إلى شرق المتوسط، بل قام كلّ رؤساء الدول الغربية الرئيسية بزيارة إلى تل أبيب، بدءًا من بايدن، إلى رئيس وزراء بريطانيا، والرئيس الفرنسي، والمستشار الألماني، وكلهم كرّروا التصريحات الداعمة نفسها، ولكن المُلاحَظ تكرارهم لكلمات يبدو أنها ضرورية بذاتها؛ لتهدئة الشخصية اليهودية، وهي لازمة لهم: «لقد جئتُ لأقول لكم: إنكم لستم لوحدكم»؛ والسؤال هنا: مَن أرسل هؤلاء؟ فقد تبيَّن أنهم مجرد واجهات!

رابعًا: لقد تميزت ردة الفعل بانتقام أعمى من اليهود، يصاحبه تأييد غربي أكثر عمًى، ولذا فالأحداث سارت بوتيرة يفتقد فيها الطرف الأقوى القدرة على الوقوف والتفكير في السؤال الذي يُكرّره الأمريكان على قيادة الكيان دون أن يحصلوا على إجابة: «ماذا بعد»؟ لا يستطيع اليهود التفكير فيه؛ فهم يُسيّرهم هاجس الانتقام والإفلات من المساءلة عن الهزيمة، والغرب مضطر أن يتبنَّى ويتحمَّل نتائج تصرفات إجرامية معتادة، ولكنها تُمارَس علنًا وعلى الهواء مباشرة.

وللشهر السابع، انشغل الناطقون الرسميون باسم البيت الأبيض، والخارجية، والدفاع، والأمن القومي، يوميًّا بمسلسل التبرير والتعليل، والتبنّي المخجل لما تفعله وتقوله إسرائيل أمام صحفيين يتزايد سقف حريتهم يومًا بعد يوم، وتطورت النقاشات من تفكيك وإسقاط مقولة: إن لإسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها، إلى إمكانية تدخل الإدارة الأمريكية في منع إصدار المحكمة الجنائية أوامر اعتقال لنتنياهو وكبار قادة الجيش الإسرائيلي؛ فالمحكمة التي أصدرت بسرعة أمر اعتقال بحق الرئيس الروسي بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أمام اختبار حقيقي؛ فالمفارقة أن المحكمة التي أُنشئت أساسًا لمحاكمة زعماء النازية بتهمة الإبادة الجماعية لليهود مُطالَبة حاليًّا، وبقوة، بمحاكمة زعماء اليهود بتهمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

خامسًا: حيث إن أحد الأهداف الأساسية لطوفان الأقصى هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ودفن مبادرات صفقة القرن، وما يصاحبها من التحالف الإبراهيمي والتطبيع؛ فقد كان إكمال مسار التطبيع هو من أوائل التصريحات الأمريكية.

ومن ناحية أخرى، يُلاحَظ أن انهيار المشاريع الأمريكية القائمة على ريادة إسرائيل في المنطقة صاحَبَه تحرُّكات إعادة تموضع في المنطقة، مع استهداف الوجود الأمريكي في العراق وسوريا والأردن، وعلى الرغم من محاولة إيران الاستفادة من الأحداث؛ فإن دخول اليمن على الخطّ يُمثّل الحدث المصاحب الأبرز، والذي يتمثل في دخول الحوثيين في مغامرة متعددة الأهداف؛ فتَحْتَ شعار «مناصرة غزة المحاصَرة»؛ تمَّت محاصرة جزئية للكيان، ومنع السفن المتجهة إلى الكيان من المرور عبر باب المندب، وشمل مجال العمليات من إيلات، مرورًا بالبحر الأحمر وبحر العرب، وصولاً إلى المحيط الهندي.

بالطبع حاولت أمريكا التحكم في المنطقة، ولكنها تعرَّضت للإنهاك المصحوب بالإذلال، فاستهداف السفن التي تَرفع العلم الأمريكي والبريطاني؛ سواء كانت عسكرية أم مدنية، وحصول الحوثيين على معلومات دقيقة عن السفن ومساراتها يتعدَّى المعلومات المتاحة؛ جعل أمريكا تتريث في التعامل؛ فأصابع الروس واضحة لحرمان أمريكا من التحكُّم في باب المندب والبحرين الأحمر والعربي، ولا يخفى أن الحوثيين تخدمهم المواجهة مع أمريكا وبريطانيا، ومن ورائهم إسرائيل، في إحراج خصومهم واختراق المناطق السُّنية؛ مما قد يَنقلهم إلى طور جديد.

سادسًا: يُلاحَظ أن الأداء المبدع للمقاومة عسكريًّا وإعلاميًّا، وثبات شعب غزة منقطع النظير، وتهافت الروايات الكاذبة؛ قد آتت أُكلها يومًا بعد يوم، فمن ترديد بايدن لروايات إسرائيلية كاذبة، سمعها من نتنياهو عن حرق الأطفال واغتصاب النساء على يد الفلسطينيين، وتأثّر مسنّ أمريكي بهذه الدعاية، ومهاجمته جيرانه الفلسطينيين، مما أدى إلى مقتل طفل بريء، وإصابة أُمّه بجراح في حادثة كانت عاملاً مهمًّا في انهيار الثقة بالروايات الداعمة لوجهة النظر الإسرائيلية.

ولذا نجد أنه في تطبيق «التيك توك» المنتشر بين الشباب في أمريكا؛ تبلغ نسبة المَقاطع المُؤيِّدة لفلسطين 95%، مقابل 5% تؤيد الرواية الإسرائيلية، وكانت محاولات الفبركة الإعلامية الإسرائيلية تحت مجهر دقيق يفضح الأكاذيب ويُفنِّدها ويسخر منها، وبذا قلَّ تأثير المنابر الإعلامية الضخمة، وتوجَّه الجيل الجديد إلى الإعلام الجماهيري الجديد يستقي منه الحقيقة.

ولا شك أن المظاهرات الضخمة التي تجوب شوارع المدن حول العالم، وخصوصًا أوروبا وأمريكا في تَحدٍّ للتهديد والوعيد الحكومي للشهر السابع على التوالي، وتتويجها بالحراك الطلابي في جامعات النخبة؛ يعني أن الطوفان وصل الغرب، وهو لن يتوقف ما دامت الحرب قائمة. والمؤكد أن الجيل القادم في الغرب لن يكون صهيونيًّا.

ويمكن أن يكون الرد على الثورة البرتقالية في شرق أوروبا ثورة خضراء في أوروبا الغربية وأمريكا يُرفَع فيها العَلَم الفلسطيني، وشعارها ما ردَّده طلبة أمريكا في جامعة كولمبيا في نيويورك: «يوجد حلّ واحد: ثورة وانتفاضة». ومع تبنّي ضرب الحراك في الجامعات بقوة الشرطة والحرس الوطني؛ فقد بدأت إرهاصات انتقال الاحتجاجات إلى الشارع؛ فقد بدأ العد التنازلي لانهيار الصهيونية.

سابعًا: إن الحراك الشعبي يصاحبه تحرُّكات حكومية بدأت خجولة، نمَت مع الوقت؛ فالدول الأوروبية مثل النروج وبلجيكا وإيرلندا وإسبانيا تنتهج خطًّا مغايرًا لبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول أمريكا الجنوبية تعمل على إغاظة أمريكا، ومحاولة التخلص من سيطرتها عن طريق الوقوف ضد إسرائيل، وآخرها إعلان كولمبيا قطع العلاقات مع إسرائيل.

وأما جنوب إفريقيا فقد تولَّت رَفْع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل، وتبعتها دول أخرى، كان آخرها تركيا التي انضمَّت أخيرًا للصفّ، فبعد أكثر من ستة أشهر أعلنت تركيا حظر تصدير خمسين سلعة لـ«إسرائيل»، مما يعني أنها كانت تُصدِّر مِن قبل وأثناء الحرب، ولكن يبدو أن العلاقة مقبلة على تسخين شديد؛ فتركيا انضمت أخيرًا لجنوب إفريقيا، وأوردغان يستقبل هنية، والأهم هو الاحتفاء الشعبي والحزبي بعملية الطعن التي نفَّذها تركيّ في زنقة سليمان القانوني في القدس القديمة.

وفي الختام؛ يتبين أن الصراع خرج من كونه محليًّا ومحدودًا، إلى حدث عالمي تصطف فيه القوى، وويل لمن يخطئ في تحديد مكانه المناسب له!

ويُلِحّ على البال والخاطر هنا حوار أبي سفيان مع المسلمين بعد غزوة أُحُد، ومنه: «قالَ أَبُو سفيان: يَوْمٌ بيَومِ بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ. إنَّكُمْ سَتَجِدُونَ في القَوْمِ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بهَا، ولَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ.

 قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : أَلَا تُجِيبُوا له؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ.

 قالَ: إنَّ لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ. فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : أَلَا تُجِيبُوا له؟ قالَ: قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ» (صحيح البخاري: ح٣٠٣٩).

والفلسطينيون اليوم، ومعهم المسلمون المخلصون، يستطيعون اليوم أن يرفعوا أصواتهم عاليًا: «لسنا وحدنا».

أعلى