كيف اغتال الجيش الصهيوني الشهيد الجعبري؟
بعد خمسة أشهر على جريمة اغتيال قائد الجناح
العسكري لحركة حماس، أحمد الجعبري، بدأ الكشف التدريجي عن اللحظات القليلة التي
سبقت القرار، لا سيما أنه لم يخطر في بال جهاز "الشاباك"، الذي أدار
الضربة الافتتاحية للحرب الأخيرة على غزة، وجوهرها اغتيال الجعبري؛ أن يكون تأثيره
هامشياً على أداء الذراع العسكرية للحركة، رغم أن ما توقعته الأذرع الأمنية الأخرى
تجاوز الضربة المعنوية، بأن يكون الوزن النوعي للضربة أثقل وأبعد مدى.
وبعد 5 شهور على الاغتيال، يتبيّن أن كل ما
فعلته "إسرائيل" هو تصفية الحساب مع الرجل المسؤول عن قتل يهود، وخطط
لعمليات، وأركعها في صفقة التبادل، والتغيير الجوهري الوحيد الذي طرأ على غزة ليس
في القوة العسكرية لحماس، بل في حافزها على فتح الجبهة مع "إسرائيل".
وقد تمت عملية التصفية بقرار مباشر من قائد
الجيش، "بيني غانتس"، الذي أعلن بدء عملية "عمود السحاب" بعد
دقائق معدودة فقط، مما اعتبرها "إحراز صورة النصر"، وهي اغتيال المطلوب
رقم 1، الجعبري 52 عاماً، الذي وقف على رأس قائمة الأهداف، واستُعملت حوله جميع
القدرات، وأُعلن قبل سنتين أنه الهدف ذو التفضيل الأعلى، وانتظر الجيش فقط الوقت
المناسب والموافقة.
بل إن من "حافظ" عليه حياً، ومنع
اغتياله، هو الجندي "شاليط" فقط؛ لأنه اعتبر المسؤول عن اختطافه
واحتجازه أسيراً 5 سنوات، وطول تلك المدة امتنع الجيش عن المسّ به؛ خشية على حياة
الجندي، لكن كان واضحاً أن حصانته ستزول منذ لحظة الإفراج عن الأخير.
تعقب الجيش
لقد علم الجعبري أنه يحيا في زمن مستعار،
ونجا في الماضي من اغتيال، لكنه كان عالماً جيداً بأن الجيش يتعقبه، وسلك سلوك
مطلوب على نحو قاطع، فسكن عدة بيوت، ولم يسافر وحده في سيارة، بل بجانب ناس اعتمد
عليهم فقط، ولم يخرج لتناول الطعام في المطاعم، بل جيء بالطعام لبيته، واعتمد على
حلقة ضيقة فقط من المساعدين المقربين.
كما صرف وقته لتطوير الذراع العسكرية،
واعتاد أن يُجري لقاءات عمل مع المستويات العليا للذراع، ويصل لمواقع ميدانية،
ويراقب التدريبات، واجتهد كي لا يخرج في جولات كثيرة؛ لأنه علم أن الجيش يتعقبه،
وفي لقاءات كثيرة كان كبار مسؤولي الذراع الذين يأتون إليه؛ كي لا يضطر للخروج
إليهم، والكشف عن نفسه.
أكثر من ذلك، فلم يكن الجعبري فقط رئيس
أركان حماس، بل يقع في الوسط بين المستويين العسكري والسياسي للحركة، وتحكم جيداً
جداً بالذراع العسكرية، وذو صلة بالقيادة السياسية؛ لأن هاتين الذراعين غير
مفصولتين بعضهما عن بعض.
وفي الـ 48 ساعة الأولى للحرب الأخيرة،
بُذلت جميع الجهود الاستخبارية للبحث عن فرصة اغتياله، أو مسؤولين كبار آخرين من
قادة ألوية في الذراع العسكرية لحماس، وحين جاء سؤال الحكومة في تل أبيب: كيف يمكن
أن نفاجئ حماس؟ كان اسم الجعبري على الطاولة! حيث عُرض على قسم البحث سؤالان:
1 - كيف سترد حماس على الاغتيال.. هل تطلق
صواريخ على "تل أبيب"، أم تستمر في نفس المدى؟
2 - كيف سيؤثر اغتيال الجعبري في الحركة في
أمد بعيد؟
ولذلك؛ فقد عرضت أجهزة الاستخبارات
الصهيونية عدداً من سيناريوهات الرد المحتملة من حماس اشتملت على إطلاق صواريخ على
مركز الكيان، وهنا بحث الجيش "الكلفة مقابل الفائدة"، لكن من رجح كفة
الاغتيال عملية القضاء على مخزونات القذائف الصاروخية بعيدة المدى لحماس التي خُطط
لتنفيذها بعد اغتيال الجعبري فوراً، والاعتماد على قدرات منظومة "القبة
الحديدية".
السؤال الثاني إجابته أكثر تعقيداً،
فالجعبري عامل مهم جداً في حماس، لكنها تستطيع أن تواجه غيابه، ومنذ اغتيال
زعيميها أحمد ياسين والرنتيسي، أدركت عدم وجود كل شيء في يد إنسان واحد، وأصبحت
البنية الحاكمة شبه هرم مقطوع الرأس ليس طرفه الأعلى شخصاً واحداً، بل 4-5 من كبار
المسؤولين، لكن التقدير أن اغتياله سيتسبّب في زعزعة شديدة، وشعور بالتغلغل
الاستخباري، وتجديد الردع الذي ضاع بعد "الرصاص المصبوب" 2008.
التخطيط العملياتي
في السياق ذاته، فإن مسؤولاً رفيع المستوى
في هيئة القيادة العامة الصهيونية مطلعاً على تدبيرات التخطيط، قال إنه حينما بدأ
التباحث في العملية لم يظهر اسم الجعبري باعتباره هدفاً للعمليات، لكن رئيس هيئة
الأركان كان يحتاج لـ "ضربة افتتاحية"، قاصداً 2-3 من كبار المسؤولين في
الرتب الميدانية، ولذلك جاءت توصية "الشاباك" بأن تكون ضربة بدء عملية
عمود السحاب هي اغتيال الجعبري، والتزم بأن يقدم جميع المعلومات المطلوبة لإنشاء
صورة استخبارية دقيقة كاملة تفضي لاغتياله الناجح، مع أقل عدد من المصابين من
الأبرياء، ومعلومات جُمعت مدة سنين، وتم الحصول عليها في الوقت الحقيقي.
وفي الجلسة المغلقة ظهر لأول مرة اسم
الجعبري، وذكر المصطلح المستعمل لاغتياله "إصابة دامغة"، فتم تضييق
الخناق حول الحلقات المتصلة به؛ العائلة والمساعدين المقربين والمساعدين البعيدين
وكبار المسؤولين في الحركة ورجال الارتباط؛ لا يمكن العلم في أي دائرة توجد
التفصيلة الاستخبارية التي تجعله مستهدفاً؛ لأنه اعتاد دائماً أن يُبدل مساعديه
والسيارات والبيوت، ولم ينم مرة واحدة أكثر من ليلة واحدة في نفس المكان.
ولذلك؛ فقد اختار الجيش العناصر المكلفة
بالاغتيال بحرص على حسب مستوى أهليتهم، ولم يترك شيئاً للصدفة، ولم يثر احتمال
الفشل؛ لمعرفته العميقة بالتقنيات والقدرات.
وهكذا أدرك الجيش أن الخناق حول الجعبري بدأ
يضيق، وعلم أن "اليوم هو اليوم"، حيث تقاطعت جميع المعلومات، وبدأ
"يحاصره"، ويدرك أين يوجد ولماذا، ومتى سيكون هناك، ومع كم من الناس،
وفي غضون ساعات قليلة أصبح بيقين، وعلم أي مبنى سيدخل، ويجب الآن فقط أن ينتظر كي
يخطئ ويخرج.
وفيما كان يتابع رئيس هيئة الأركان ما يجري
على أرض غزة من مكتبه في الطابق 14 في قيادة الجيش بتل أبيب، عبر شاشتين تبثان
الصور المرسلة من الطائرة الاستخبارية، ويرى في الوقت المناسب البيت الذي يوجد فيه
الجعبري، بحسب المعلومات الاستخبارية؛ تجلت ذروة التمويه الأمني ضد حماس، في حين
كان رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" ووزير الحرب" إيهود باراك"
في جولة على الحدود الشمالية والجولان، وفي إطار صرف الذهن تقرر عدم إلغاء الجولة،
كما بقي قائد سلاح الجو في واشنطن، وقرر "غانتس" إبقاءه هناك وعدم عودته
بصورة مفاجئة؛ لئلا يلفت أنظار حماس!
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.