الضمانات الوقائية لمنع شيوع الفاحشة
شاء الله تعالى بحكمته أن يظل وجود الإنسان في الأرض
زماناً بعد زمان، وجيلاً بعد جيل، يخلف بعضه بعضاً؛ ابتلاء واختباراً في عبادة
الله وطاعته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فخلق سبحانه الزوجين الذكر
والأنثى، وجعل في كل منهما غريزة الميل إلى الآخر، ووضع لهذه الغريزة حدوداً
تحدها، وضوابط تضبطها وتهذبها؛ تصرفها في السبيل الحلال، وتجنبها سبل الحرام.
والعقل السليم، والفطرة
السوية، والشرائع السماوية كلها: تقضي بأن حفظ العرض وصيانة الكرامة ضرورة من
ضرورات العمران البشري، وإلا أصابه الخراب والفساد.
ففي الحديث: «لم تظهر
الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في
أسلافهم»[1].
وهذه الدراسات الطبية،
والمؤسسات الصحية العالمية؛ تخبر العالم بما تذهل له العقول.. هذا في الناحية
الصحية.
وفي الناحية الاجتماعية..
فما شاع الزنا في مجتمع إلا انهار فيه نظام الأسرة، وما يرتبط به من واجبات
اجتماعية وتكافلية، ولا تسل حينها عن كثرة اللقطاء الذين لا يعرف لهم آباء يسألون
عنهم، وإذا كثر اللقطاء، كثر الجانحون والمتشردون؛ فأصبحوا مادة لإفساد المجتمع.
من أجل ذلك، حفظ الله
المجتمع الإسلامي من انتشار الزنا بما شرعه من ضمانات وقائية، وأحكام شرعية، تجنب
هذه الفاحشة، وتقاوم وقوعها في مجتمع الطهر والعفاف.
ضمانات من القرآن
الكريم
ففي فاتحة سورة «النور»
بعد أن ذكر الله سبحانه شناعة جريمة الزنا، ذكر سبحانه من فاتحتها إلى تمام 33 آية
منها: أربع عشرة وسيلة وقائية.
شرع سبحانه العقوبات
الحدية التي وكل القيام بمهماتها لدولة الإسلام؛ تحقيقاً للبينات، وصوناً للأعراض،
ودرءاً للحدود بالشبهات.
حرم على المؤمنين زواج
الزانيات، وتزويج الزواني؛ إلا بعد التوبة، ومعرفة الصدق فيها، فقال تعالى: {الزَّانِي
لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إلاَّ
زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ}
[النور: ٣].
طهر الألسنة عن رمي الناس
بفاحشة الزنا، ومن قال ولا بينة؛ فيشرع لدولة الإسلام حد القذف في ظهره.
طهر لسان الزوج عن رمي
زوجته بالزنا، حيث لا بينة، وإلا فاللعان.
طهر النفوس عن ظن السوء
بمسلم بفعل الفاحشة.
طهر الإرادة، وحجب القلوب
عن محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وعظَّم عقوبة من يحب إشاعتها، فقال: {إنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:
19]، فكيف بمن يشيعها قولاً وفعلاً؟! نعوذ بالله من الخذلان.
طهر النفوس من الوساوس
والخطرات التي هي أولى خطوات الشيطان في نفوس المؤمنين ليوقعهم في الفاحشة، فقال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...} [النور: 21].
شرع الاستئذان عند إرادة
دخول البيت؛ حتى لا يقع النظر على عورة من عورات أهل البيوت.
طهر العين من النظر إلى
المرأة الأجنبية، ومنها إلى الرجل الأجنبي، فقال تعالى: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ30 وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}
[النور: 30 - 31].
حرم إبداء المرأة زينتها
للأجانب عنها، فقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:
31].
منع ما يحرك الرجل
ويثيره؛ كضرب المرأة برجليها، أو خضوعها بقولها، فقال تعالى: {وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}
[النور: 31]، وقال سبحانه {فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفًا}
[الأحزاب: 32].
أدب المؤمنة وهي ترفع
رجلاً وتضع أخرى، أدبها حتى في نبرات صوتها.
أمر باستعفاف من لا
يستطيع الزواج، وندب إلى فعل الأسباب لتحصيل القدرة عليه، فقال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}
[النور: ٣٣].
وإذا قرأت هذه السورة
الكريمة وتدبرتها، وجدت هذه الضمانات بأبلغ كلام وألطف خطاب؛ من رب العالمين،
العليم بخفيات النفوس {أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ} [الملك: 14].
وكان من هدي الصالحين أن
يحفّظوا أهليهم هذه السورة، ويعلموهم ما تضمّنته من أحكام، ويأخذوا أنفسهم بالوقوف
عند حدودها، والتأدب بآدابها؛ طاعة لله تعالى، رغبة في ثوابه، وخوفاً من سخطه
وعقابه.
وفي السنة النبوية
الشريفة تدابير وقائية أخرى
حرم النبي صلى الله عليه
وسلم الخلوة بالأجنبية، حيث قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما»[2].
حرم مصافحة الأجنبي
بقوله: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له»[3]، وفي حديث آخر: «واليدان
تزنيان فزناهما البطش»[4].
ولا أطهر قلباً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يقول: «إني لا أصافح النساء»[5].
منع المرأة من التطيب عند
خروجها، حتى لو كان إلى المسجد، ففي الحديث: «أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد
ليوجد ريحها، لم تقبل منها صلاة حتى تغتسل اغتسالها من الجنابة»[6].
حرم سفر المرأة بغير
محرم، حيث قال: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم»[7]، ولو كان سفراً إلى
الحج.
وتدابير في حق الرجال مع
الرجال؛ فلا يجوز للرجل كشف عورته من سرته إلى ركبته، ولا يجوز له مجالسة الذكور
من المردان، والنظر إليهم تلذذاً.
أمر الشرع بالتفريق بين
الأبناء في المضاجع.
ومنها في حق النساء مع
النساء.
أجمع العلماء على أن صلاة
الجمعة لا تجب على المرأة[8] ولا يجب عليها الجهاد في
سبيل الله، وأسقط الشرع عنها النفقة؛ صيانة لعرضها، وحفظاً لكرامتها؛ درة مصونة في
بيتها لتربية الأجيال.
فضل الشرع صلاتها في
بيتها على الصلاة في المسجد، وصلاتها في أستر مكان في بيتها على أقربه إلى الظهور[9].
أمر الرجال بالتريث في
الانصراف من المسجد حتى تخرج النساء، وخصهن بباب للدخول والخروج.
جعل خير صفوف الرجال
أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها[10].
أعظم الضمانات وقاية
وأعظم الضمانات الوقائية
للمجتمع من شيوع الفاحشة: فرض الحجاب على نساء المؤمنين بنص قوله تعالى في سورة
النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].
وقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59].
يقول العلماء: قوله
تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ}دليل على وجود الأذية إذا لم يحتجبن؛ لأنهن
إذا لم يحتجبن ظن أنهن غير عفيفات؛ فيتعرض لهن من في قلبه مرض.
عن صفية بنت شيبة قالت:
بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها ذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: إن لنساء
قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقاً لكتاب الله،
وإيماناً بالتنزيل.. لقد أنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن
يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى
كل ذات قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل[11]، فاعتجرت به[12]، تصديقاً وإيماناً بما
أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهن
الغربان[13].
الحجاب دين شرائع الله
جميعاً
ولم يكن الحجاب الشرعي
للمرأة بدعاً في الإسلام، بل هو دين شرائع الله جميعاً؛ يشهد لذلك البقية الباقية
في الكتب المحرفة التي يراها الناس في لباس الراهبات عند النصارى المقيمين في
البلاد الإسلامية، وفي سائر ديار الغرب، وفي تغطية المرأة من أهل الكتاب رأسها عند
دخول الكنيسة.
إجمال بعد تفصيل
وقد أجمل الله سبحانه ما
سبق تفصيله من الضمانات، وما يترتب على تعدّيها من مفاسد صحية واجتماعية؛ في أبلغ
عبارة وأوضح بيان، لو ما أنزل الله في كتابه غيره لكفى تنبيهاً لأولي الألباب، حيث
قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
إن السفينة لا تجري على
اليبس
إن الاستهانة بهذه
الضمانات وتعدي حدودها لهو عين الارتماء في مهاوي الردى وأحضان الرذيلة.
ولا ينفع الإنسان أن
يقول: أنا أثق بنفسي، أو أثق بفلان أو فلانة؛ فإن الشرع لم يفرق بين شخص وآخر،
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزين كل طرف لآخر ولو كان ذميماً، والإنسان
ضعيف أمام نفسه إلا من رحم الله.
وكم من مستهين بهذه
الضمانات ومتعدٍّ لهذه الحدود والحرمات، استدرجه الشيطان حتى أوقعه، عياذاً بالله.
ومن أراد النجاة سلك
طريقها، وعظَّم شرع الله، ولم يعترض عليه بظنون يظنها، وأوهام يتوهمها، ومعاذير
ينشئها، إنما شعاره: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: 285].
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
ومن يتجاهل هذه الضمانات
ثم يطمع - مع ذلك - في السلامة من الوقوع، فقد طلب محالاً، وحاله كما قال القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
جاء شاب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ ائذن لي في الزنا. فأقبل عليه الناس يزجرونه،
وأدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله،
جعلني الله فداك. فقال رسول الله: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أتحبه لابنتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداك. ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتحبه
لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ كل ذلك والفتى يقول: لا والله، جعلني الله
فداك. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه،
وحصّن فرجه. فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء[14].
يقول تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 26 وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً
عَظِيمًا} [النساء: 26 - 27].
أهم المراجع
حراسة الفضيلة، بكر أبو زيد.
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.
[1] سنن ابن ماجه،
الحديث رقم 4019، وحسنه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة الحديث رقم 106.
[2]
سنن الترمذي رقم 1171، وصححه الألباني. انظر: الإرواء رقم 1813.
[3]
المعجم الكبير للطبراني رقم 486، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 5045.
[4]
سنن أبي داود رقم 2153، وصححه الألباني في الإرواء برقم 1869.
[5]
سنن ابن ماجه رقم 2874، وسنن النسائي رقم 4181، وصححه الألباني. انظر: السلسلة
الصحيحة رقم 529.
[6]
سنن ابن ماجه رقم 4002، وقال الألباني: حسن صحيح.
[7]
صحيح البخاري رقم 1729، وصحيح مسلم رقم 2381.
[8]
ويجوز لها حضورها إذا لم تتلبس بمحذور شرعي, وقد يندب حضورها لعلم شرعي تتعلمه،
إذا لم تجد في بيتها من يعلمها.
[9]
سنن أبي داود رقم 579، وصححه الألباني.
[10]
صحيح مسلم رقم 664.
[11]
المزخرف.
[12]
شدته على رأسها.
[13]
ضعيف بهذا السياق والتمام، وقد صح بعضه عند البخاري، ولبعضه شاهد من حديث أم سلمة
عند أبي داود بسند صحيح. انظر: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام،
الحديث رقم 483.
[14]
مسند أحمد رقم 22211، وصحح الألباني إسناده. انظر: السلسلة الصحيحة رقم 370.