غزة.. وحصار الوهن
(1)
رحلة ليست كبقية الرحلات، لا من حيث الوجهة
أو الهدف، ولا من حيث الأشواق والمشاعر؛ هكذا هي الحياة، فبعد طول انتظار كانت
الوجهة إلى غزة في أكناف بيت المقدس، وكان الهدف تجسيد الأخوة الإيمانية؛ نصرة
لأهلنا المرابطين هناك، والإسهام في كسر الحصار الجائر الذي تواطأت عليه القوى
الدولية والإقليمية لعدة سنوات، فعانت منه هذه المدينة المرابطة أيما معاناة!
هذه الأرض كانت أرضاً للرباط على مرِّ
العصور، وكان أئمة الإسلام يرابطون فيها، وها هو ذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «فكانت
غزة وعسقلان وعكا.. كانت ثغوراً.. وكان
الصالحون يأتون الثغور لأجل الجهاد والمرابطة في سبيل الله تعالى، فإن المرابطة في
سبيل الله تعالى أفضل من الإقامة بمكة والمدينة ما أعلم في ذلك خلافاً، فكان صالحو
المؤمنين من السلف يرابطون في هذه الأماكن؛ كالأوزاعي وإسحاق الفزاري ومخلد بن
الحسين وإبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك..»[1].
ذهبنا إلى غزة وكان وهج المشاعر يهز القلوب
هزاً، وأشواق الحب تحدونا في مسيرنا إلى تلك الأرض المباركة، وكلما اقتربنا من
معبر رفح ازدادت الأشواق، وتسارعت الأنفاس، وكنت أرى أصحابي يغالبون دموعهم. أعيننا
تتطلع إلى غزة، وقلوبنا تهفو هناك حيث المسجد الأقصى مسرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يا الله... أحقاً
سنزور أرض الرباط والعِزة..؟!
منذ أن عزمت على هذه الرحلة كنت أتأمل الهدف: (كسر
الحصار)، فقلت في نفسي: إنَّ
أبطال غزة لا يضرهم الحصار وتكالب الأمم عليهم، بل سيزيدهم قوة وثباتاً، ومَن كان
مع الله – عز وجل – فإنَّه
ناصره ومعينه، قال جل شأنه: {إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]، وقال
سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ
الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ 20 أَمَّنْ هَذَا الَّذِي
يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [الملك: 20 - 21]،
وقد تأملت حديث الطائفة المنصورة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما
أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك). فوجدت
أنَّ لتلك الأرض المقدسة نصيباً وافراً من هذا الحديث، ففي بعض رواياته سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم: وأين هم؟ فقال: (ببيت
المقدس، وأكناف بيت المقدس)[2].
ولهذا؛ فإنني في الحقيقة لم آت لكسر الحصار
عن غزة، وإنما يمّمت هناك محاولاً كسر الحصار عن نفسي، إنه حصار الوهن والعجز،
وحصار القعود وحب الدنيا، لقد كبَّلنا الوهن من كل مكان، وجلَّلنا من الأخمص إلى
الناصية؛ وهن سياسي وإعلامي، وعجز اجتماعي وثقافي، لقد أنهكتنا ثقافة الهزيمة
والتطبيع والاستسلام، وأحاطتنا من ورائنا وأمامنا في أكثر الميادين، حتى استمرأ
بعضنا العجز والخذلان!
(2)
وصلنا – بحمد
الله تعالى – إلى غزة الشموخ والعزة، وأول ما يستثيرك في
هذه الأرض المقدسة أنَّ عبق الشهادة يعمر ذلك الشريط الممتد على طرف البحر
المتوسط، ومعاني البطولة والرجولة شامخة في كل الميادين، حتى إنني لم أزر أحداً
إلا يقولون لي هذا البيت استشهد فيه شهيد أو شهيدان أو ثلاثة، بل زرت بيت العالم
المجاهد نزار ريان – رحمه الله تعالى - وأخبروني
أنه لقي الله هو وزوجاته الأربع ومن كان حاضراً من أبنائه، فكان عدد من قضى نحبه
في هذا البيت المبارك سبعة عشر شخصاً، رفع الله درجاتهم في منازل الشهداء، ولو
كانت الشجاعة والبذل في سبيل الله تشترى لم أبرح منزلهم! أسأل
الله – تعالى – أن
يرفع درجاتهم في جنات النعيم.
ولا تكاد تجد أسرة في قطاع غزة إلا وفيها
أسير أو أكثر ما زالوا أو قد مروا على سجون الاحتلال، يستوي في ذلك الرجال والنساء
والأطفال، وإذا كان العدو الصهيوني يهدف إلى ترويض الشعب وكسر إرادته بكثرة القتل
والاعتقال والهدم؛ فإن المحن وأنفاس الجهاد وآيات آل عمران والأنفال تربي المجتمع
على الإصرار والثبات، ولهذا نجد أن أهل غزة لا تزيدهم الجراحات والتضحيات إلا عِزة
وأنفة.
ومن المواقف التي استصغرت نفسي عندها: أنني
رأيت طفلاً في العاشرة من عمره فقلت له: في أي صف تدرس؟ قال: في
الصف الرابع. فقلت له مشجعاً أريد أن أعلي همته: ستصبح
طبيباً أو مهندساً إذا كبرت بإذن الله؟ فقال بكل عفوية: ما
يهم! فلما
رأى الاستغراب في وجهي قال: بدي أستشهد!
فقل لي بربك: شعب
بهذا الإصرار والأنفة والشموخ أتراه ينكسر؟!
شعب أطفاله رجال، ورجاله جبال، هل سيقبل
مشاريع بيع الأرض والتفريط في الحقوق؟!
وأذكر أنني رأيت أحد الأبطال الذين أصيبوا
بإعاقة دائمة جراء القصف اليهودي العشوائي على غزة، فأردت أن أصبِّره وأبشره بفضل
الله عليه، وإذا به يتلو قول الحق – تبارك وتعالى -: {إن يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [آل عمران: 140]،
ثم رأيت دموعه تتساقط، فقلت له: لعلَّ قدميك سبقتاك إلى
الجنة فاصبر واحتسب. فقال: والله
ما بكيت عليها، لكنني أبكي لأنني لم أُتخذ من الشهداء؛ فالشهادة اصطفاء! ثم
أخذ يوصيني حتى استحييت من نفسي!
ولا تظنن أنَّ هذه القمم السامقة وأنَّ هذه
التضحيات لخواص الناس، لا والله! فعامة الناس عندهم من
الحمية والغيرة والإقبال على العطاء ما يعجز القلم عن بيانه، وقد زرت محطة صغيرة
لتحلية المياه تحت الإنشاء، وفيها عمال يشتغلون فيها، فسلّمت عليهم ودار بيني
وبينهم حديث جانبي عابر، فاستأذن أحدهم بالانصراف، فطلب منه صاحبه الانتظار
قليلاً، فاعتذر؛ لأنه سيذهب لقضاء بعض حاجات أهله قبل أن يذهب إلى الرباط على ثغور
المدينة!
ومن المشاهد التي لا تخطئها العين في غزة: مشاهد
المنازل والمؤسسات المدمرة، وهي تدل على صلف وجبروت العدو الصهيوني من جهة، وعلى
حجم التضحية والمعاناة التي يعانيها الشعب من جهة ثانية، وعلى صلابته وقوة إرادته
واستعصائه على الترويض.
لقد أدركت أنَّ التضحية والشجاعة ليست خطبة
تصدح بها المنابر، ولا قصيدة يتغنى بها الشعراء، ولا دروساً يتزين بها الداعية
أمام الناس؛ بل هي موقف تسمو به النفس، وسجية تحلق في ظلال العزيمة والعطاء، بلا
تكلف أو تصنع. وأحسب أنَّ من أسرار شموخ أولئك الأبطال: أنَّ
قادتهم يسابقون إخوانهم في مقدمة الصفوف، فشموخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي
ونزار ريان ومحمود صيام.. وغيرهم كثير – رحمهم
الله أجمعين –؛ كان من أعظم دروس التأسي في التضحية
والإقدام.
ولهذا قلت لإخواني في هذه الزيارة: إنني
ما جئت إليكم معلماً أو ناصحاً، معاذ الله، بل جئتكم متعلماً، أتربى على أيديكم،
لعلي أقتبس من نور العزة شعلة من ضياء؛ لكن هيهات هيهات أن ينجح من يتطلب في الماء
جذوة نار!
وقديماً كنت أسمع من بعض الدعاة: أنَّ
الأمة إذا نهضت من كبوتها، واستيقظت من غفلتها؛ تحررت القدس، فلما دخلت غزة ورأيت
مساجدها ومرابطيها وأبناءها البررة، أيقنت أنَّه إذا نهضت فلسطين نهضت الأمة!
(3)
لقد صليت في عدد من المساجد في قطاع غزة،
وسرَّني جداً إقبال الشباب على المساجد وحضور الجماعات والعناية بحفظ القرآن
العظيم، ولا شك أنَّ هذا من أعظم العدة على النصر، قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ،
ولهذا كانت وصية الله – تعالى – لنبيه صلى الله عليه وسلم أن
يجاهد مخالفيه بالقرآن، فهو العُدَّة والزاد، قال تعالى {وَجَاهِدْهُم بِهِ
جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما
ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)[3]،
ولهذا كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول
لأصحابه قبل القتال: (عمل صالح قبل الغزو؛ فإنكم إنما تقاتلون
بأعمالكم)[4].
إنَّ معركة فلسطين هي (معركة
المساجد)، ابتداء بالمسجد الأقصى المبارك قلب الصراع
مع العدو الصهيوني، مروراً بالمساجد التي درج اليهود على قصفها واستباحتها
وتدنيسها، وكلما تعلقت القلوب بالمساجد وتعفّرت الوجوه بترابها ذلاً وإخباتاً
لربها – سبحانه وتعالى –؛
تحقق موعود الله بالنصر والتمكين. والنفوس إنما تزكو وتشرف
بعملها، وليس بمجرد بقائها في الأرض المقدسة، ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان
الفارسي – رضي الله عنهما – أن
هلمَّ إلى الأرض المقدسة، كتب إليه سلمان: (إنَّ
الأرض المقدسة لا تُقدِّس أحداً وإنَّما يقدس الإنسانَ عملُه)[5].
إنَّ الترف والتعلق بالدنيا من أعظم العوائق
التي تقيّد المجتمع وتجعل أبناءه أرقاماً هامشية لا قدر لها من موازين الأمم، ولا
قيمة لها في ميادين الصراع. أما إذا سمت النفوس
بإيمانها وتعلقت بكتاب ربها وتخلصت من أثقال الدنيا؛ رأيت أثر ذلك في سرعة الإقبال
والتسابق على العطاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة
أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه)[6].
أسأل الله – تعالى – أن
يستخدمنا لنصرة دينه، وأن يرزقنا الصلاة في المسجد الأقصى مطهراً من دنس اليهود.
:: مجلة البيان العدد 309 جمادى
الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.
[1]
مختصر الفتاوى المصرية: (2/60).
[2] أخرجه: أحمد رقم
(22320). والطبراني في الكبير، رقم (7643)، وحديث الطائفة المنصورة له روايات
كثيرة، وعده جمع من أهل العلم من المتواتر، انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/69)،
وقطف الأزهار المتناثرة من الأخبار المتواترة، رقم (81).
[3]
أخرجه: النسائي في السنن الكبرى، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف (4/305)، رقم
(4372).
[4]
أخرجه: ابن المبارك في كتاب الجهاد، رقم (5)، وبوَّب له البخاري في كتاب الجهاد في
صحيحه، فقال: (باب عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم)
(6/24).
[5]
أخرجه: مالك في الموطأ (2/235)، والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (4/69)،
وانظر: كشف الخفاء (1/126).
[6]
أخرجه: مسلم في كتاب الجهاد، رقم (1889).