• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مآلات الحرب على غزة

هل سيستطيع الرأي العام العالمي تغيير سياسات الدول المؤثرة والمنحازة للصهاينة؟ وما حقيقة مواقف الدول الإقليمية والدولية، وهل يملكون الرغبة أو القدرة على وقف حملة الإبادة الصهيونية في غزة؟


«متى ستنتهي الحرب في غزة؟»

سؤال يفرض نفسه على العالم كله، في وقتٍ تستمر فيه قوات الجيش الصهيوني بالتوغُّل داخل قطاع غزة شماله وجنوبه، في محاولة لفرض سيطرة عسكرية على الأرض. بينما تحت الأرض لا تزال المقاومة هي اللاعب الأساسي، تُلحِق بالقوات المتوغلة خسائر فادحة، ثم تعود إلى مقراتها.

وما بين فوق الأرض وتحتها، يتواصل القصف على أهل غزة؛ ليتم تدمير البيوت والمستشفيات والملاجئ فوق رءوس الأطفال والنساء والكهول، لتنقل الشاشات تغريبة جديدة لأهل فلسطين من شمال غزة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ويتمنَّى المُهجَّرون أن يتوقف التهجير عند هذا الحد ولا يتعداه إلى الشتات خارج فلسطين، في ظل منع الطعام والماء والكهرباء والوقود والعلاج إلا النزر اليسير، بصورة لم تشهدها البشرية من قبل، أي حصار 2.5 مليون إنسان، ومنع مقومات الحياة الأساسية عنهم، بل وقصفهم بالطائرات والدبابات.

وفي أثناء ذلك، دخلت حرب غزة في مرحلة جديدة عُرفت إعلاميًّا بالهدنة المؤقتة، وجرت في خِضَم شروط بدا فيها الاحتلال الصهيوني وكأنه تنازل عن كثير من الغطرسة وإن كانوا لا يزالون يرددون الأقوال التي كانوا يتبارى بها قادة الحرب في بداية المعركة؛ من ضرورة تحطيم حماس، وتحرير الرهائن بقوة جيشهم وضرباتهم العسكرية، بالرغم من أنهم فعليًّا قد قَبِلوا المفاوضات غير المباشرة مع حماس!

وبعد انتهاء فترة الهدنة تعود الأسئلة لتُثَار: هل ستعود الهدنة لفترات أخرى؟ أم ستتحول إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار؟ أم سيتم استئناف القتال والقصف؟ أم أن هناك احتمالات أخرى سيؤول إليها الصراع في غزة؟ هل الجيش الصهيوني له القدرة على حسم الصراع؛ سواء بهجومه البري أو الجوي أو البحري؟ ما مدى استعداد المقاومة للصمود في أنفاقها؟ وهل أعدت بالفعل الخطط والمؤن من سلاح وذخيرة وطعام وشراب ما يكفي لمواصلة القتال؟ وما المدى الزمني لنفاد تلك المؤن؟ وهل سيستطيع الرأي العام العالمي تغيير سياسات الدول المؤثرة والمنحازة للصهاينة؟ وما حقيقة مواقف الدول الإقليمية والدولية، وهل يملكون الرغبة أو القدرة على وقف حملة الإبادة الصهيونية في غزة؟

التفكير في الإجابة عن هذه الأسئلة يجعلنا نحاول أن نُحلِّل مواقف الأطراف التي تؤثر على ما تؤول إليه حرب غزة؛ حيث يمكن اختزالها في ثلاثة أطراف وثلاثة سيناريوهات:

فالأطراف المؤثرة على مآلات الحرب هي: الطرف الصهيوني والطرف الفلسطيني وطرف القوى الخارجية؛ سواء كانت إقليمية أو دولية.

أما السيناريوهات التي يمكن أن يؤول إليها الصراع في غزة؛ فهي:

سيناريو توقف القتال واستمرار حصار غزة.

وسيناريو انتصار المقاومة وانسحاب الصهاينة وفك حصار غزة.

وسيناريو نجاح المخطط الصهيوني وهزيمة المقاومة.

وسنتناول على حدة قدرات وإمكانيات كل طرف على تشكيل السيناريو المفضَّل له، لنصل في النهاية إلى السيناريوهات الأكثر احتمالاً للصراع.

الصهاينة ومُحدِّدات المستقبل

يواجه الكيان الصهيوني عدة تحديات تؤثر على اختياراته المستقبلية فيما يتعلق بحرب غزة:

أول هذه التحديات هو الخلاف والانقسام السياسي الواسع داخل النُّخبة السياسية الصهيونية. ويكاد يُجمع المراقبون على أن الحكومة الصهيونية الحالية بتشكيلتها الحالية، والتي تقود دولة الكيان الصهيوني منذ عدة سنوات، على أنها أكثر الحكومات المتطرفة في تاريخ دولة الكيان.

فقد قامت هذه الحكومة على تحالف بين الصهيونية السياسية المتمثلة في حزب الليكود بزعامة نتانياهو، وأحزاب الصهيونية الدينية، والتي يمثلها عدة وزراء في الحكومة، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.

وانعكس ذلك التحالف على خيارات الكيان الصهيوني ومواقفه إزاء القضايا المصيرية والأهداف الإستراتيجية لدولة الكيان الصهيوني؛ سواء عبر استعجاله في تنفيذ مخططات الاستيطان، أو تلك المتعلقة بالاستيلاء على المسجد الأقصى؛ تمهيدًا لهدمه وإقامة هيكلهم المزعوم، أو غيرها من القضايا التي تُواجه الكيان وبالطبع خياراتها في حرب غزة.

وكان من الطبيعي أن تنظر النخبة السياسية القديمة بارتياب لذلك التحالف، وبالرغم من محاولات نتانياهو احتواء تلك الخلافات في حرب غزة بتكوين مجلس مصغّر للحرب يضم غانتس وغالانت، إلا أن محاولاته لم تفلح في إخفاء الخلاف بين أركان مجلس الحرب الثلاثة، بل خرج إلى العلن، فأصبحت المؤتمرات الصحفية يعقدها كل شخص منهم على حدة.

ثاني هذه التحديات هو ضغط الرأي العام الصهيوني؛ فهناك نسبة كبيرة من المجتمع الصهيوني ترفض الحكومة المتطرفة أصلاً، وبعد حرب غزة انضمت لها فئات أخرى من أهالي الأسرى ومن المتعاطفين معهم، لتتجمع هذه الفئات وتُشكّل ضغطًا على الحكومة الصهيونية، وتؤثر على خياراتها؛ سواء باتجاه التفاوض أو باتجاه الهدنة، والتي تتمكن عن طريقها من تحريرهم، ولكنَّ حكومة الكيان خدعتهم وأوهمتهم أن المقاومة ما كان لها أن تطلق سراحهم إلا بالمجازر والضغط العسكري على غزة، ولكن كثيرًا من عامة الصهاينة باتوا يُدركون الحقيقة، ويحاولون تغيير اتجاهات الحكومة بالضغط الشعبي والاحتجاجات، ليس لإيقاف الحرب، ولكن لتأجيلها لحين إطلاق سراح الأسرى.

ثالث هذه التحديات تدور حول شخصية رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو.

فالرجل بشخصيته الانتهازية الطموحة والماكرة، والذي استطاع أن يستمر سياسيًّا في دولة الكيان لعدة عقود، فيما لم يتحقق لأيّ رئيس وزراء صهيوني سابق. وعلى بالرغم من فساده وارتباط اسمه بقضايا تتعلق بالرشوة، إلا أنه يَعرف كيف يتموضع إستراتيجيًّا على المستوى الشخصي؛ ليبقى في قمة القرار السياسي الصهيوني طوال تلك المدة.

وعندما حدثت هجمات طوفان الأقصى، رفض الرجل أن يتحمّل مسؤوليته في الهزيمة التاريخية التي تعرضت لها دولة الكيان الصهيوني، والتي يكاد يُجمع المؤرخون على أنها أقسى هزيمة تعرَّض لها الكيان في تاريخه.

بل إن نتانياهو حاول توجيه اللوم للقيادات العسكرية والاستخبارية، وهذا الأمر جعله عُرضة للنقد والاستياء من النخبة السياسة، فضلاً عن الجمهور الصهيوني، ووصل الأمر إلى أن المُفْرَج عنهم مِن قِبَل المقاومة الفلسطينية رفضوا مقابلته، وحمَّلوه مسؤولية ما حدث لذويهم في حرب طوفان الأقصى.

ويدرك كثير من النخبة السياسية الصهيونية أن نتانياهو يدفع في اتجاه استمرار الحرب وبقائها أطول فترة ممكنة؛ لأنه فور إيقافها سيتم تشكيل لجنة للمحاسبة على ما حدث في السابع من أكتوبر، وبالطبع ستتهمه تلك اللجنة بالتقصير، ومن ثم إنهاء حياته السياسية، والتي بعدها في الأغلب سيتم الزَّجّ به في السجن بتُهَم الفساد.

وتتزايد الضغوط السياسية والشعبية على نتانياهو لترك الحكم، أو التعرض لفتح ملفات الفساد، وهذا لا شك سيؤثر على اتجاهات الحرب على غزة.

والتحدي الرابع الذي يواجه الكيان الصهيوني هو تزايد الشكوك في قدرة الاقتصاد الصهيوني على الصمود، فآثار ضربة المقاومة في السابع من أكتوبر لم تؤثر على الكيان سياسيًّا أو أمنيًّا أو إستراتيجيًّا فقط، بل تعدَّى تأثيرها إلى اقتصاد دولة الكيان، ومن أبرز القطاعات المتأثرة جراء الحرب الدائرة حاليًّا هي قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والطاقة والبنوك والسياحة والطيران والغذاء.

وهناك بُعْد اقتصادي خطير يتمثل في استدعاء الحكومة الصهيونية لـ360 ألف جندي من قوات الاحتياط لينضموا إلى 150 ألفًا هم قوام الجيش الصهيوني، وهو أكبر استدعاء إسرائيلي لقوات الاحتياط منذ حرب أكتوبر 1973م. ومن شأن هذا الاستدعاء أن يضرّ كثيرًا بالاقتصاد الإسرائيلي، فهذه الأعداد الكبيرة تحتاج إلى تجهيزات وغذاء ومأوى إلى جانب سَحْبها من سوق العمل وتعطيل الأعمال التي كانت تقوم عليها، وهذا بالتالي سيؤثر على الفترة الزمنية للحرب في غزة.

أما التحدي الخامس فيتمثل في أداء الجيش أو الاستخبارات، سواء عند حدوث اجتياح طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، أو حول أدائه في الاجتياح البري.

بالنسبة لموقفه عند اجتياح المقاومة للمستوطنات في طوفان الأقصى؛ فقد تعددت التقارير الغربية، والتي أبرزت الأداء المترهل والضعيف للجيش الصهيوني واستخبارات الكيان.

أما أداء الجيش الصهيوني عند اجتياحه قطاع غزة، فقد عبّر عنه الكاتب الأمريكي الشهير ديفيد أغانثيوس -وهو من أشهر كُتّاب «واشنطن بوست»، ويكتب مقالين أسبوعيًّا في تلك الصحيفة-؛ حيث كتب مقالًا بعد أن ذهب إلى دولة الكيان في أعقاب الاجتياح البري، وأجرى مقابلة مع 12 جنرالًا صهيونيًّا موجودين في الخدمة.

وبعدها خلص الكاتب الأمريكي إلى أن المسؤولين العسكريين في جيش الكيان لا يريدون مثلًا مناقشة إستراتيجية مواجهة أنفاق حماس، بالرغم من حديث جنرال صهيوني له عن أن شبكة أنفاق حماس أكثر تطورًا مما كان الجيش يعتقد، وأنه تم اكتشاف وإغلاق ما لا يقل عن ستمائة فتحة نفق في الشمال وحده، ولكن عند الضغط عليه، أدلى وزير الدفاع غالانت بهذا التعليق المبهم: «أنت بحاجة إلى حل غير طبيعي».

هذا الأداء السيئ للجيش الصهيوني أو استخبارات دولة الكيان؛ سواء ما قبل الاجتياح البري أو بعده يدفعنا إلى التساؤل: إلى متى سيستمر الجيش الصهيوني في عملياته؟ أو بمعنى أدق: ما المدى الزمني لتوقف عملياته؟ وما هو الحد الأدنى الذي إذا حققته دولة الكيان يمكن حينها أن تتوقف عن القتال؟

وبالنسبة للهدف؛ هل هو تدمير حماس؟ هذا ما أعلنه قادة الحرب الصهاينة على أنهم لم يعودوا بإمكانهم العيش مع حكم حماس لغزة، وتتجاوب معهم في هذا الهدف غالبية الشعب الصهيوني، كما يُظهر آخر استطلاع للرأي الذي حدد أن أكثر من 70% من الصهاينة يريدون استمرار الحرب في غزة.

وإذا عجز قادة الحرب الصهاينة عن تحقيق هذا الهدف في حالة صمود حماس ونجاح إستراتيجيتها، فما هو اتجاه قادة الصهاينة؟

بعض القادة باتوا يتحدثون عن صياغة جديدة للهدف، من تدمير حماس إلى إنهاء حكمها في القطاع، ولكن هل يقبلون بصيغة تكون فيها حماس جزءًا من حكم غزة؟

هذا على ما يبدو أحد خيارات مجموعة الحرب الثلاثية، والتي تدير الحرب في غزة (نتانياهو وغالانت وغانتس)، ولذلك أوفدوا رئيس الموساد إلى الدوحة؛ ليشارك في اجتماع رؤساء مخابرات كلّ من مصر وأمريكا، وبمشاركة قطرية، والذي ناقشوا فيه صيغة لوضع غزة، ليس ما بعد إنهاء حكم حماس، ولكن كسبيل لوقف الحرب.

أما بالنسبة للمدى الزمني؛ فتذكر صحيفة فايننشال تايمز البريطانية نقلاً عن مسؤول عسكري صهيوني كبير قوله: «بالنسبة لشمال القطاع، قد يتطلب الأمر للسيطرة عليه من أسبوعين لشهر، والهجوم البري على جنوب غزة سيتم بالتوازي مع العمليات في الشمال».

بينما تتحدث تقارير صحفية في نهاية الهدنة، أن أمريكا مَنحت دولة الكيان شهرًا واحدًا، ولكن بدون التدمير المماثل لما قبل الهدنة، ولكن تعود صحيفة وول ستريت جورنال لتنقل عن مسؤول أمريكي، أن بلينكن في زيارته الأخيرة للكيان ضغط على نتنياهو بشأن مدة الحرب، ولم يتلقَّ إجابة واضحة، وهذا ربما ما قصده بايدن في المؤتمر الصحافي الأخير الذي عقده. وردًّا على سؤال حول هذه النقطة، قال بايدن: «إن القضاء على حماس هدف مشروع»، معترفًا بأن «هذه مهمة صعبة، ولا أعرف كم من الوقت ستستمر الحرب».

وقد أكد على فترة الشهر هذه ما نقلته وسائل إعلام صهيونية من تصريحات لغالانت وزير الحرب الصهيوني، عندما وجَّه رسالة إلى جنوده الصهاينة قائلاً: «إن أمامكم أسابيع، وليس شهورًا، لإنهاء العملية في جنوب غزة».

ولكن فور استئناف الحرب بعد الهدنة وتواصل ضربات المقاومة للجيش الصهيوني؛ خرج المتحدث العسكري باسم هذا الجيش يقول: «هذه الحرب ستكون طويلة، ولن تكون محددة بوقت».

بينما ينقل الكاتب الأمريكي ديفيد أغانثيوس في «واشنطن بوست» عن القادة العسكريين الصهاينة قولهم: «إن الأمر قد يستمر ثلاثة أشهر (منذ بداية العملية البرية)، وإذا طال الأمر عن تلك المدة فإن الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعتمد على أكثر من 300 ألف جندي احتياطي تم استدعاؤهم، سوف يبدأ بالانهيار».

الأدوار الخارجية

تؤثر عدد من الدول الإقليمية والدولية على مستقبل الحرب في غزة، وإلى أيّ من السيناريوهات ستؤول إليها هذه الحرب.

ولكن تعتبر الولايات المتحدة ومصر، هما أكثر الدول تأثيرًا في مآلات الحرب على غزة.

وينبع تأثير الدولتين من حقيقتين: بالنسبة لمصر، فإن قدر غزة أن تكون مصر هي دولة الجوار الوحيدة.

وموقف الحكم المصري المعلن، هو وقف الحرب، ورفض أيّ تفكير في تهجير أهل غزة إلى مصر، وفي نفس الوقت رهن فتح المعبر وإغلاقه بالتوجيهات الأمريكية، حتى باتت أخبار فتح المعبر ودخول المساعدات وحجمها تعلنها الجهات الرسمية الأمريكية.

وهذا الموقف يتداخل فيها ثلاثة عوامل مجتمعة: الحساسية في العلاقة بين الرئيس المصري والمؤسسة العسكرية، وتدهور الاقتصاد المصري واحتمالات انهياره، ثم إستراتيجية الحكم المصري تجاه الحركات الإسلامية.

أما أمريكا، فإن وجود الكيان وبقاءه قويًّا يرتبط ببُعْد أيديولوجي وبُعْد إستراتيجي.

فأيديولوجيًّا، يرتبط وجود الكيان الصهيوني بنبوءات إنجيلية في العهد الجديد، بشرط نزول المسيح المزعوم لديهم ليقود المسيحيين إلى حُكم العالم، والدين هو أحد القواعد الثلاث التي تأسست عليها أمريكا.

أما إستراتيجيًّا، فالكيان الصهيوني تم زرعه عن طريق بريطانيا ليفصل شرق المنطقة العربية عن غربها، ويحول دون وحدة هذه الأمة ونهضتها لتقود البشرية مرة أخرى كما فعلت في السابق، وبالطبع ورثت أمريكا بريطانيا في قيادة الغرب، وورثت معها مخططاتها وإستراتيجيتها.

ما فعلته المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر أنها تدخَّلت في الإستراتيجية الأمريكية (الغربية) تلك، والتي تم تطبيقها منذ نحو قرن من الزمان لتقويضها، وهنا مكمن الغضب الأمريكي الذي تم ترجمته إلى انحياز غير مسبوق لدولة الكيان الصهيوني.

ولكنَّ تأخُّر حسم الجيش الصهيوني للمعركة، وعدم قدرته على تحقيق تقدم عسكري حقيقي إلا بإبادة البشر والحجر؛ جعل إدارة بايدن تعاني مأزقًا حقيقيًّا يتمثل في وقوعها بين تجاذب عاملين متضادين مع قرب الانتخابات الرئاسية بعد أقل من عام:

الأول: يتمثل في ضغط رأي عام قويّ، خاصةً داخل شباب الحزب الديمقراطي والتيار اليساري والعربي بداخله، مستنكرًا الموقف الأمريكي الداعم لجرائم دولة الكيان، وهو التيار الذي رجَّح كفة الحزب في الانتخابات الرئاسية السابقة، وهذا ما عبَّرت عنه شبكة «إن بي سي الأمريكية» بقولها: «بسبب غزّة.. إدارة بايدن تُواجه معارضة داخلية غير مسبوقة في تاريخ واشنطن، وتنقل الشبكة عن مسؤولين أمريكيين، أنّ المعارضة للحرب وصلت حتى داخل الحكومة الأمريكية نفسها، تتجاوز أي شيء شُوهِدَ في الإدارات السابقة بسبب دعم واشنطن لإسرائيل في عدوانها على غزة.

أما العامل الثاني فهو ضغط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وتغلغله في وسائل الإعلام وتحكمه في الاقتصاد الأمريكي وتمويله لحملات المرشحين.

هذه الضغوط المتناقضة فضلاً عن حرب أوكرانيا، دفعت إدارة بايدن لإعطاء فترة زمنية لحكومة نتانياهو لإنهاء الحرب، أو إيجاد بديل آخر غير الحرب لاحتواء حماس.

ففي الأيام الماضية، وقبل انتهاء الهدنة، عُقد في الدوحة اجتماع ضم رؤساء مخابرات كلّ من مصر والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية بحضور رئيس الوزراء القطري؛ حيث ناقش الاجتماع إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية بحيث يجري إدخال حماس بشكل رسمي كجزء من تلك السلطة، وباعتراف غربي لأول مرة، نظير رهن قرار المقاومة العسكري وإدخاله في منظومة السلطة.

ولكن هل تقبل حماس هذا السيناريو؟

أعتقد أن حماس تميل لنموذج حزب الله في لبنان، وهو نموذج تحتفظ فيه الحركة بسلاحها، وتترك إدارة غزة الحياتية والمعيشية لسلطة أو حكومة لا تهيمن عليها حماس، ولكن يظل لحماس رأي حاسم في قرار الأمن والحرب في غزة.

والسيناريو هذا يتضمَّن إدخال قيادة جديدة للسلطة من خارج حماس توافق عليها حماس، ويتم الاعتراف بها عالميًّا، لذلك يتضمَّن هذا السيناريو المفاضلة بين نموذجين يتم تصعيد واحد منهما لرأس السلطة الفلسطينية: مروان البرغوثي، والذي قد يخرج في صفقة الرهائن الشاملة، وهو نموذج أقرب لياسر عرفات، أو محمد دحلان خاصَّةً أن ذراعه الأيمن سمير المشهراوي وصل إلى الدوحة في وقت المؤتمر.

ومِن الملاحظ أنه تم استبعاد محمود عباس أو مَن يمثله من المشاركة في محادثات قطر، كما أنه لم يُدْعَ قبل اجتماع الدوحة مباشرة إلى اجتماع الملك عبدالله والسيسي في القاهرة، والذي كان يهدف إلى توحيد مواقف الدولتين إزاء ترتيبات السلطة الفلسطينية الجديدة.

المقاومة الفلسطينية وخياراتها

في عام 2007م عندما اجتاحت قوات حماس مقرات السلطة الفلسطينية المتعاونة مع الكيان الصهيوني في إنهاء المقاومة؛ ظن الكيان الصهيوني بأنه بفرض الحصار الشامل على قطاع غزة قد حشر حماس في الزاوية.

حاولت حماس تطبيق ما يُعرف بإستراتيجية توازن القوة لإجبار الكيان على كسر الحصار والتفاوض، فكان تصنيع الصواريخ وإطلاقها على مدن الكيان، فكان رد الكيان على ذلك باستخدام إستراتيجية الردع؛ والتي تقوم على استخدام القوة المفرطة من خلال هجماته الجوية لتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، وبالتالي ينتهي القتال بين الطرفين بكسر بعض قيود الحصار جزئيًّا، وسرعان ما يتراجع عنها، وبمرور الوقت استقر الصراع بين الطرفين على توازن القوة، فبالقوة والقوة المضادة تصل الرسائل المتبادلة، ويبدو أن الكيان الصهيوني قد استراح إلى تلك النتيجة، ولكن حماس وإن بقيت على رأس حكم غزة فإنها لم تَستطع كسر الحصار.

وفي عام 2021م، حاولت حماس تطوير إستراتيجية التوازن، بتوسيع أهدافها من فكّ الحصار على فلسطيني غزة، إلى مد مظلة حمايتها لكل الفلسطينيين؛ سواء في الضفة أو في الداخل، فكانت عملية سيف القدس ردًّا على الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى، ولكن لم تستطع الحركة أيضًا كسر إستراتيجية الاحتواء التي يتبعها الاحتلال معها، وحصر مجال مقاومتها داخل كانتون غزة.

لذلك جاء يوم السابع من أكتوبر وطوفان الأقصى ليكون بمثابة انقلاب من حركة حماس والمقاومة على إستراتيجية الاحتواء، والتحول من استخدام القوة الصاروخية إلى الهجوم والدفع بإمكانيات الحركة العسكرية، من قوة جوية وبحرية وبرية.

في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية بعنوان: «كيف تفكر حماس؟» ذُكِر فيه، أن خيارات الحركة كانت تتراوح ما بين الخنق البطيء كسلطة تُناط بها مهمة حكم قطاع غزة، بينما تُصبح إسرائيل مندمجة مع الأنظمة العربية التي تخلَّت بمجملها عن القضية الفلسطينية، أو توجيه ضربة حاسمة قد تُفضي إلى الإخلال، بفرضية أن الفلسطينيين قد هُزموا وأذعنوا، وأنه بات بإمكان إسرائيل المُضِيّ قدمًا في نظامها القائم على الفصل العنصري دون أن يكلفها ذلك شيئًا.

وهذا ما عبَّر عنه خليل الحية -والذي صعد منذ أيام قليلة من عضو المكتب السياسي لحماس إلى نائب قائد حماس في غزة؛ أي نائب يحيى السنوار صاحب القرار في الحركة- بقوله: «إنه كان من الضروري تغيير المعادلة بأكملها، وليس مجرد المواجهة العسكرية».

يقصد «الحية» بتغيير المعادلة؛ تغيير البيئة الإستراتيجية للمنطقة، والتي كان السياق الإقليمي والدولي يسير فيها وقطع فيها شوطًا كبيرًا، والتي كانت ترمي إلى تصفية مقاومة غزة باعتبارها حجر عثرة في استكمال خطوات التطبيع وتوسيع المشروع الإبراهيمي، وهذا ما أكَّدته صحيفة لوفيغارو الفرنسية، حين قالت في تحليل لها: «إن هذا الهجوم غير المسبوق يمكن أن يُحْبِط إعادة تشكيل الشرق الأوسط المأمول، من خلال ما يحدثه الهجوم من امتدادات للصراع».

اتبعت المقاومة الفلسطينية إستراتيجية الدفع والجذب، فكان الهجوم على المستوطنات لاستدراج الجيش الصهيوني إلى غزة، وجرّه إلى هجوم بريّ ومستنقع طويل وعميق؛ حيث الأرض الأصيلة للمقاومة وحاضنتها، وتوجد الأنفاق خط دفاع المقاومة، والتي جهّزتها كمقر لحرب عصابات طويلة ضد الكيان.

وحاول جيش الكيان الصهيوني حرق الأرض تحت حماس بالقيام بحملة إبادة ضد الحاضنة الشعبية لها في غزة، ولكن المقاومة لا تزال تُكبِّد العدو خسائر حقيقية في صفوفه بأداء عسكري رائع لمقاتليها باعتراف المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري خلال مؤتمره الصحفي اليومي والذي قال: «إن حماس تعرف مناطق قطاع غزة جيدًا، وتتفوق على إسرائيل في ذلك».

مآلات الصراع

بعد الاستعراض السابق هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الحرب في غزة، فلا يتصور أحد عودة الوضع في المنطقة كما كان قبل طوفان الأقصى:

السيناريو المحتمل الأول: توقف الحرب وانسحاب جيش الكيان وفك الحصار

ولكي يحدث هذا السيناريو لا بد من توافر عدة شروط؛ منها:

1- إلحاق المقاومة خسائر كبيرة في صفوف الجيش الصهيوني؛ بحيث يكون بقاؤه في غزة أكثر كلفةً من الانسحاب.

2- تخلي نتانياهو عن الحكم بسبب الضغوط الحزبية والشعبية، ومجيء حكومة تعتمد الحل السياسي كوسيلة لتحجيم حماس وإرجاع الأسرى.

3- إجبار أمريكا الكيان الصهيوني على الانسحاب بعد انقضاء المهلة في نهاية ديسمبر، وتزايد الضغوط داخل الحزب الديمقراطي والانقسامات داخل الإدارة الأمريكية.

4- الإتيان بسلطة فلسطينية جديدة تشارك حماس فيها، مع بقاء سيطرتها على القرار العسكري والأمني لغزة.

السيناريو المحتمل الثاني: توقُّف الحرب وانسحاب الصهاينة واستمرار الحصار

شروط حدوث هذا السيناريو:

1- ثبات المقاومة وعدم انكسارها، وعجز الجيش الصهيوني عن تحقيق أيّ تقدُّم على الأرض.

2- رحيل نتانياهو ومجيء حكومة حرب جديدة تنسحب لتُؤجّل القتال إلى وقتٍ آخر بعد أن تُعيد هيكلة الجيش.

3- تشديد الولايات المتحدة وحلفائها الحصار على غزة، مع إبقاء الضغوط على الكيان الصهيوني؛ لضمان توقف الحرب حتى نهاية الانتخابات الرئاسية في نهاية العام القادم.  

4- استمرار حماس في حكم غزة، وتحاول لَمْلَمة جراح أهل غزة، وتعويض مخزون سلاحها وصواريخها.

السيناريو المحتمل الثالث: سيطرة الجيش الصهيوني على غزة وتهجير أهلها

وشروط حدوث ذلك السيناريو:

1- استمرار القتال لفترة طويلة، الأمر الذي يستنزف المقاومة ونفاذ مخزون سلاحها ومؤنها.

2- نجاح الجيش الصهيوني في إيجاد وسائل لتفكيك الأنفاق.

3- انفراد الصهيونية الدينية بالحكم في دولة الكيان الصهيوني.

4- تكتل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لاستمرار الدعم الأمريكي لدولة الكيان.

5- انهيار حكم حماس في غزة، وبدء سيناريو التهجير بعد تدفق أهل غزة على الحدود المصرية.

ويبقى قدَر الله هو الغالب، وهو مسبِّب الأسباب، والقادر على إنفاذها إن شاء تعالى، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وقد يشاء سبحانه أن يُؤجِّل نصره لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو، ويبقى على أهل الايمان التسليم بقدره والرضا بقضائه.

 

أعلى