المشروع السني.. أين.. وإلى أين..؟

المشروع السني.. أين.. وإلى أين..؟


يشهد العالم تطورات متلاحقة تسير في اتجاه التمايز والفصل بين الناس في سباق يبدو محموماً نحو مرحلة الفرز الاعتقادي التي قد تكون - خاصة في بلاد المسلمين - مقدِّمة للزمان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي (يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير الناس إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه)[1]. ومن الواضح أن تتابع التحديات وتراكمها سيفرض على المسلمين المنتسبين لمذهب أهل السنَّة - خاصتهم وعامتهم؛ أن تكون لهم وجهتهم وطريقتهم الخاصة بهم في مشروع يميِّزهم عن بقية أصحاب المشاريع، سواء على المستويات العالمية أو الإقليمية أو المحلية.. وإذا كان الخطاب الدعوي فيما مضى قد ركز على استمرار الصراع بين الإسلام وغيره من الملل حتى أصبح ذلك معلوماً مشهوراً؛ فإن ما لم يُعلم عند الكثيرين أو يشتهر هو الصراع بين أهل السنة وأهل الأهواء والنحل، وكلا الصراعين يمثلان صورةً من النزال بين الدين الحق الذي خُتمت به الرسالات، وبين الباطل المخترع في الأهواء والخيالات.

تثبِت الأحداث أن المشروعات المنسوبة للدين تحت مسمى (المشروع الإسلامي)، تحتاج إلى فرز يُنتخب فيه الأصيل من الدخيل، حيث إن هناك مشروعات أو طرائق منسوبة للإسلام أو محسوبة عليه وما هي منه في شيء؛ كمشروع الإسلام الشيعي، أو الإسلام المدني الديمقراطي، أو الإسلام الليبرالي، أو إسلام المدرسة العقلية، أو العصرانية، أو إسلام التوجه القومي العروبي، أو الصوفي.. ونحو ذلك.

لقد تعمَّدْتُ التعبير بـ (المشروع السُّنِّي) تخصيصاً من عموم (المشروع الإسلامي)؛ لأن جملة كبيرة من المشاريع المعادية قد نصَّبت نفسها في مواجهة مشروع أهل السنة على وجه الخصوص، رغم أنهم لم يتأهلوا بعد جيداً للقيام به، فضلاً عن الدفاع عنه.

لا ينبغي هنا أن نستنكف عن الانتساب للسنَّة تجنباً للاتهام بأننا طائفيون، فالحقيقة أنه مثلما أننا أصحاب دين حق بين أديان باطل، فنحن طائفة في مواجهة طوائف، شئنا أم أبينا، غير أن أهل السنة يمثلون الطائفة المنصورة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)[2]، وفي رواية (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله)[3]، والتي أخبر عليه الصلاة والسلام أنها هي الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (قيل يا رسول الله من هم. قال: الجماعة)[4].

من أغرب الأمور، أننا - وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من بَدء ظاهرة (الصحوة الإسلامية) مع بدايات القرن الهجري الخامس عشر؛ لم تتبلور لنا رؤية لمشروع سني واضح له أبعاده وخططه وإمكاناته وأهدافه والجهة القائمة على إنفاذه، مثلما هو الشأن مع (المشروع الصهيوني) المكتمل الرؤى والأهداف والمراحل منذ أكثر من قرن، و(المشروع الصليبي التغريبي) النشط على أرضنا منذ عدة قرون، و(المشروع الشيعي) المدفوع بالطموح والجموح منذ عدة عقود، بل حتى هذا الاسم: «المشروع السني».. لا يزال غريباً على الأسماع، نادراً على الألسنة.

المشروع السنِّي - في حال اكتماله وتكامله – هو في جوهره مشروع لإعلاء كلمة الله على منهاج رسول الله بما يقتضيه ذلك ويستدعيه من نهوض سياسي واقتصادي وعسكري واجتماعي وعلمي وتعليمي وإعلامي وثقافي، فلا شكَّ أن تلك المجالات صارت ميادين تنافس، ومنصات اختراق، يحاول بها أصحاب كل مشروع منازلة الآخر ومصاولته في مضمار سباق كثيراً ما يتحول إلى ميدان صراع، خاصة بعد أن تتضح الحقائق، وتتمايز الصفوف.. فالحق والباطل بعد التمايز لا يتعايشان، بل يتنافسان، ثم يتصارعان، ويتغالبان، لكن العاقبة دائماً للحق وأهله كما نطق الكتاب المبين في قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

المشروع السُّنِّي وضروراته

تفكيك الإسلام الصحيح وإضعاف أهله هو الهدف المشترك للمشروعات المناقضة للسنة والمناهضة لها، سواءً أكانت تلك المشروعات المناوئة ذات طبيعة كفرية أم بدعية (قديمة أو عصرية)، فكل تلك المشروعات - في حال سيطرتها وقوتها - تأتي على المنهجية الإسلامية الصحيحة فتنقصها من أطرافها، أو تنقضها من أسسها، لتبني على ركامها دعائم مغايرة من العقائد والطرائق والمفاهيم، فإذا كان كل مشروع وراءه فكرة للتغيير، أو سبيل إلى بديل، فإن محل ذلك التغيير أو التبديل هو الإنسان في عقيدته وعبادته وسلوكه وطريقته في التفكير. لذلك فإن المشروع السنِّي ضرورة لحفظ الإنسان المسلم بالإسلام الصحيح في حياة إسلامية حتى لا تتبدل عقيدته، أو تزيف عبادته، أو ينحرف سلوكه ويشوه فكره، فهو ليس مشروعَ تدبير معيشي حياتي فقط، بل هو ارتفاع بالحق ودفاع عنه ضد الباطل، الذي لا يستهدف غزو الأراضي والأوطان فقط، بل يرمي إلى غزو القلوب والعقول.

لنأخذ المشروع الشيعي الإيراني مثالاً في الضرر والخطر إذا حلت أو استفحلت أفكاره في ساحة سُنية مستباحة، كما حدث في العراق، ويحدث في البحرين ولبنان، وكما يراد حصوله في اليمن وإمارات الخليج وفلسطين.. إن ذلك المشروع يحاول اختطاف الإسلام فيقدِّم نفسه في منظومة فكرية بديلة قائمة على الأساطير، لكنها مدجَّجة بالأساطيل؛ منظومة تنتظم أمور الدنيا والآخرة لتقول للناس: هذا سبيل النجاة والنجاح. فعند الشيعة: الآخرة لهم.. وصحة الديانة وقف عليهم.. والعاقبة في الدنيا لطائفتهم.. وغايات الرسالة لا تُحمى إلا بهم.. وحُرمات أهل البيت من اختصاصهم.. وحماية المقدسات موكولة إليهم.. ورعاية (مشاريع المقاومة) من أهم غاياتهم.. بل إن فهم أسرار القرآن ومقاصد الإسلام منحة إلهية لم تمنح لغيرهم!! هكذا يدَّعون.. وهكذا يروجون.. ولهذا ينشطون في الهدم والبناء.. الهدم عندنا، والبناء عندهم!

ماذا يبقى من قواعد الإسلام الصحيح وأصوله وفروعه حينما يُمكَّن لمشروع أعداء الصحابة في البلدان التي فتحها الصحابة؟!.. ولماذا لا يقوم أحفاد هؤلاء الصحابة وأتباعهم بما قام به أجدادهم من الاجتماع على السنة التي أوصى بها رسولهم صلى الله عليه وسلم عندما قال بلفظ صريح فصيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)[5].. وقال: (تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه)[6].. إن السُنة هنا ليست مرادفة للنافلة أو التطوع، بل هي مكافئة للحق المبين والطريق المستقيم.

لنأخذ مثالاً آخر لمشروع آخر يتعاظم خطره ويتفاقم ضرره كلما تمكَّن في بلاد المسلمين في غياب المشروع الإسلامي السنِّي؛ إنه المشروع الليبرالي، سواءً بقي على وصفه الغربي ذي النشأة النصرانية والنزعة اليهودية، أو بالغ في الخداع فكساه أصحابه بلبوس إسلامية. لنتأمل حجم التفتيت وكمَّ التفكيك في مفاهيم الإسلام الصحيح وأصوله إذا ذاعت ثم شاعت مفاهيم تلك الليبرالية التدميرية، ولننظر في تلك السلسلة المتواصلة من عوامل الهدم المنهجي لقواعد الإسلام وأصوله عندما تحل المفاهيم العَلمانية الليبرالية محله:

- وحدانية الإله وتفرُّده بالخلق والأمر ليست هي الحقيقة الأخيرة عند الليبراليين العَلمانيين، فالله الذي له الخلق والأمر ليس له عندهم إلا الخلق، أما الأمر والتشريع فمن حق البشر وحدهم بلا شريك! وهذا الإله – عندهم – يقبل أي دين من أي إنسان، فكل البشر عنده سواء، في جنبات الأرض أو في ملكوت السماء، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين!

- عصمة النبوة وكمال الرسالة غير مسلَّم بها عندهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى قوم قدامى بما ناسبهم، فتلك أمة قد خلت.. ولذلك؛ فرسالة الرسول عندهم لا تصلح لكل زمان ومكان، وليست شاملة ولا كاملة، ولا مكان لها في الدساتير إلا من قبيل «الديكور»!

- الالتزام بـ (العبودية لله) عندهم أمرٌ مفزع، ويمثل ردةً عن التقدم والمدنية، والبديل أن يكون الإنسان هو القائد القائم بنفسه لنفسه، بل هو مركز الكون، ومنشأ التشريع، ومصدر الإبداع، ومنه وإليه ترجع أسباب السعادة ومعايير الصواب والخطـأ، بل الحق والباطل!

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما يصرِّحون - موروث ثقافي قاصر مستورد من بيئات متحجرة غير متحررة! وإطلاق الحريات الشخصية؛ الاعتقادية منها والسلوكية، هو المعروف الأكبر في ظل إعمال القوانين الوضعية البشرية التي تمثل عندهم البديل الحضاري المعاصر للشرائع الإلهية؛ ولو كانت تلك القوانين الوضعية أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف!

- الاستقامة الأخلاقية والسلوكية قضية شخصية ترجع إلى ضمير كل فرد، ولكل إنسان الحرية المطلقة في اختيار السلوكيات التي تناسبه وتناسب أسرته ما لم تتعارض مع حريات الآخرين، أما إذا تعارضت مع قيم الدين القيّم فلا يهم، فهي ليست ملزمة له ولا للآخرين!

- المبدأ (المدني) - بمعنى اللاديني - هو البديل الوحيد المقبول لكل ما هو (ديني)، فلا مكان لما كان يُسمى (المجتمع الإسلامي)، بل المقبول هو (المجتمع المدني) الذي لا مكان فيه للشريعة.. فالمجتمع المدني لا يحكمه إلا القانون المدني الذي لا صلة له بالوحي ولا بالرسالة، وحتى تشريعات الأحوال الشخصية، وعلى رأسها تشريعات الزواج والطلاق؛ لا بدَّ أن تؤول - مع تبنّي الليبرالية - إلى قوانين «مدنية» تقوم على (الزواج المدني) الذي يبيح زواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بالمشركات الوثنيات، والذي أوصل في الغرب إلى مرحلة إجراء عقود الزواج «الرسمية» بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء!!

- رابطة الإسلام لا قيمة لها عند الليبراليين، والبديل عنها في ملَّتهم رابطة (المواطنة)، «فالمواطن» مهما كان كافراً أو فاجراً أو مرتداً، له كل الحقوق في موطنه الذي ولد فيه بمنطق «الانتماء الطيني». أما الانتماء الديني فلا يُعطى «غير المواطن» به - مهما علا كعبه في العلم والإيمان - إلا الفتات وربما الرفات من الحقوق.

- في المنظومة الليبرالية يجرى اختيار الحاكم وفق المعايير المنصوصة في الدساتير الوضعية العَلمانية، حيث لا علاقة لها بالشروط المعتبرة في الإسلام لولي الأمر.. وهذه الدساتير التي تشترط «المواطنة» حتى في والدي الحاكم؛ لا تشترط فيه الديانة ولا العدالة ولا حتى الرجولة، فيمكن أن يكون أنثى أو خنثى أو كافراً أو فاجراً!!

- من يختارون الحاكم من الشعب هم عموم العامة والدهماء، ويدخل معهم «عددياً» المفكرون والعباقرة والعلماء - وهم في الاختيار على حدٍّ سواء، فلكل شخص من الشعب «صوت» يستوي في ذلك السكير العربيد الجاهل مع العالم الزاهد المجاهد، فـ «كثرة العدد» هي البديل عن أهل الحل والعقد!

هكذا تفعل الليبرالية بمفاهيمها و«قيمها» في ثوابت الإسلام عندما يتمكَّن مشروعها في بلاد الإسلام، فماذا يبقى للدين الصحيح في بلاد السنَّة إذا غاب أو غُيِّب حكم القرآن والسنَّة؟

إن الضمانة الوحيدة لحفظ حياة المسلمين في أوطانهم على نظام الإسلام، هي اقتران السلطان بالقرآن، ولذلك خوَّف النبي صلى الله عليه وسلم من زمان ينفصل فيه السلطان عن القرآن، لأنه إذا لم يكن الكتاب هو المنهاج في الحكم؛ فإن محكمات الدين تنحل وتتحلل رويداً رويداً، بدءاً من السياسة وانتهاءً بالشعائر؛ لهذا ربط صلى الله عليه وسلم بين إقامة الحكم وإقامة الصلاة فقال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)[7]. وقد جاء الربط قبل ذلك في القرآن، حيث قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41]. ودعا الله المؤمنين كلهم أن يدخلوا في الإسلام كله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].

لقد حذَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من التفريط في شيء - أي شيء - ممَّا أنزله إليه من الشرائع نزولاً على آراء أصحاب الأهواء، وسمَّى ذلك فتنة فقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].

معالمٌ في مشروعنا العالمي

المشروع السني إذاً - في جانبه المنهجي - مشروعُ هداية للحق وحماية من الباطل، ولذلك فإن هناك أموراً مهمة لا بدَّ من تأصيلها نظرياً، ثم تفصيلها عملياً، عند الإقبال على إطلاق ذلك المشروع الذي لم تعد أحوال الأمة تحتمل المزيد من تأخيره وتعطيله:

أولاً: إذا كان مصطلح (المشروع الإسلامي السُّنِّي) يفيد معنى إعلاء كلمة الله، فالتعبير القرآني الأقرب لذلك المصطلح هو (إقامة الدين)، ولذلك فهو مشروع أكبر من الساسة ومن السياسة، فلا يتوقف عمله على قبول رسمي لحزب أو جماعة، ولا ينتظر فوزاً في انتخابات برلمانية أو رئاسية، أو مدد حكم مفتوحة أو مؤقتة، ولا يحتاج في شرعية اعتماده إلى دساتير أو مراسيم أو فرمانات. و(المشروع السني)، أو مشروع إقامة الدين الحق، لا يخاطَب به إلا أهل الحق، كما قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13]، لذلك فإن تفاصيل معاني «إقامة الدين» هي تفاصيل مباني ذلك المشروع.

ثانياً: المشروع السني - في شقه الاعتقادي - يعتمد منهاجاً لا يحتاج إلى زيادة أو نقصان، فهو المنهج القائم على الكتاب والسنة والمتلقى عن القرون الثلاثة المفضَّلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم.. وتثبيت هذا المنهج واعتماده مرجعيةً للمشروع يمثل ضمانةً لعدم الانحراف عنه أو الاحتيال فيه، لأنه في النهاية يمثل الشريعة بمعناها العام المرادف للدين، كما في قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].

ثالثاً: المشروع السنِّي ليس مقصوراً على الأمور الحياتية، بل إن الجانب الديني والأخروي أصيلٌ فيه بل أصل له، لكن شقه الدنيوي لا يجافي شقه الديني؛ لأنه مشروع إصلاح للدنيا بالدين، وتقويم للحياة بشرع الله، لإسعاد الناس في معاشهم وربط دنياهم بآخرتهم: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

رابعاً: المشروع السُّنِّي ليس مشروع شخص ولا جماعة ولا حزب، بل ولا دولة، لكنه مشروع أمة هي خير أمة أُخرجت للناس، ولذلك فإن جماعته هي (الجماعة الأم) بمعناها الكبير الرحب الذي تنضوي تحت لوائه كل التيارات والفصائل والجماعات المنتسبة بحق إلى طائفة الحق. ورغم عدم افتقار هذا المشروع إلى مشروعية من حزب أو جماعة أو دولة؛ فإنه يحتاج للقيام به إلى قوة تحميه، سواء كانت دولة أو عدة دول - كما هو حاصل في المشروعات الأخرى، فإن لم توجد هذه القوة الحامية؛ فإن الضرورة تقضي بأن تتبنّاه - ببُعديه الديني والدنيوي - جماعات كبرى ذات تيار عظيم في الأمة يقوم به وينافح عنه، وبخاصة في ظروف التحدي وعلو المستكبرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة عندما كان مقبلاً على الخروج للعالم بدعوته: (من ينصرني ويؤويني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)[8].

خامساً: لأن المشروعَ السُّنِّي مشروعُ أمة الإجابة؛ فهو مشروعُ كل الجماعات والتجمّعات السُّنِّية على اختلاف أدوارها ووظائفها وتخصُّصاتها، لأنها كلها توزعت عليها الفروض العينية والكفائية، لذلك فهو يحتاج إلى جهود كل هذه الجماعات لتأدية كل تلك الفروض: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

سادساً: ليس من أولويات المشروع السُّنِّي في مراحل انطلاقه ونهوضه الصدام أو المواجهة مع المناوئين له، إلا إذا فرضت عليه المواجهة، فأمامه مشوار طويل من البناء وتثبيت الأقدام والتسلح بكل أسباب القوة المعنوية والمادية، وبخاصة ضلعيها (القوة الاقتصادية) و(القوة السياسية) المحميتين بالقوة العسكرية.. فالإعداد المبكر بمعناه الشامل هو السبيل الأوحد - بعد الاستعانة بالله - لتفادي سياسات «الإجهاض المبكر»: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]. ومن التسطيح للأمور الناشئة عن الجهل بسنن الله، التوهم بأن مشروع إقامة الدين مستغنٍ عن الإعداد والجهاد، وأنه سيمضي في طريق «سلمية» إلى النهاية فيتسلم رايات التمكين للدين تحت هتافات المظاهرات فقط، أو يأتيه نصر الله والفتح بفتح صناديق الانتخابات فحسب، لذلك فلا مناص للمشروع من يدين عاملتين، إحداهما للبناء والأخرى للفداء: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

سابعاً: الحرب المنهجية (حرب الأفكار) في مواجهة السنة وأهلها ليست بأقل خطراً من الحروب الميدانية المفتوحة ضدهم في كل مكان منذ زمان، فمعارك التفكيك الفكري أو الاختطاف المنهجي ستظل تلاحق كيانات أهل السنة لتسبي قطاعات من المنتسبين إليها عن طريق الاستدراج إلى البدع القديمة أو المعاصرة، الناقلة عن الملة أو السنة، وستظل تلك السُّنة غرضاً للمعادين لنهج الإسلام الصحيح، يرمونها بسهام ضلالات الأديان، وخرافات البدع الشيعية أو الصوفية أو العقلانية العصرانية، أو يحقنون أهلها - باسم الحرية – بسموم التوجّهات الإلحادية، وعلى رأسها العَلمانية، بشقي الشقاء فيها: الليبرالية واليسارية، ولذلك لا بد من استراتيجية مواجهة فكرية تشمل الدفاع والهجوم، لأن الدفاع عن حدود الله ليس بأقل قدراً من الدفاع عن حدود الوطن.

ثامناً: لأن المشروع السُّنِّي اعتقاديٌ في جوهره، وشرعيٌ في مظهره، ولأن المنهج هو عامل القوة الأكبر فيه؛ فإن أصحاب هذا المشروع والقائمين عليه لا تسوغ لهم الاستجابة للابتزاز المنهجي من الكارهين لما أنزل الله بالتنازل عن محكمات الدين، أو التجاهل للمحاذير الاعتقادية أو التشريعية بحجة (احترام الآخر)، أو (المحافظة على اللحمة الوطنية)، أو (السلام الاجتماعي)، أو (الشراكة السياسية)... إلخ، فكل ذلك إن كان مهماً، فإن أهميته لا تساوي شيئاً أمام وهن القوة المنهجية التي لأجلها يجتمع الناس حول أهل الإسلام.

ونعود إلى السؤال:

(المشروع السني.. أين؟)..

- أين هو في العراق، وأين هو في لبنان؟ وأين هو في البحرين ودول الخليج وسورية؛ لمواجهة تغوّل المشروع الشيعي الإيراني؟!

- أين هو - في وضوحه وقوته ووحدته - في مصر وليبيا وتونس واليمن وبقية بلاد الثورات - التي قامت والتي لم تقم بعد؟ أين هو كي يتصدى لحالة الاستنفار والتأهب لدى جماعات (الخشب المسنَّدة) من العَلمانيين الليبراليين الساعين بإصرار إلى استعادة السطوة والنفوذ، مستندين بذلك إلى جدار الحماية والغواية الغربي النصراني؟!

- أين هو في باكستان بشعبها السني المحكوم بشرذمة عَلمانية ذات أصول شيعية منذ عقود؟.. وأين هو في أفغانستان التي استباحها عملاء الأمريكان؟

- أين هو في إندونيسيا ونيجيريا وبقية بلدان آسيا وإفريقيا التي استوطنت فيها الصوفية الغالية حتى كادت تُخرِج فئاماً كثيرة من البسطاء عن الملة بعد أن أخرجتهم عن السنة؟

- أين هو في صيغته الإقليمية، وصبغته العالمية؟

ونرجع للشق الثاني من السؤال: (إلى أين؟)..

أإلى غير شِرعة الله نلجأ وقد جعلنا أمة وسطاً، وجعلنا خيار خير أمة؟!.. أم إلى غير السنة نتجه ونحن المخصوصين دون غيرنا بمسمى (أهل السنة)..؟

إنها دعوة لأهل العلم والفكر والدعوة للتلاقي حول مشروع (واحد واضح) لحماية السنة والنهوض بأهلها في بلادها، حيث لن تقوم قائمة لأهل السنة بغير مشروع قائم على القرآن والسنة.

:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (9/24) وصححه أحمد شاكر; وأخرجه أبو داود في سننه وصححه الألباني في صحيح الجامع (4194).

[2] أخرجه مسلم برقم (1037).

[3] أخرجه ابن جرير الطبري في مسند عمر (2/814) وقال إسناده صحيح.

[4] أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (3241).

[5] أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (40).

[6] أخرجه مالك في الموطأ (1395) والحاكم وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1761).

[7]أخرجه البوصيري في إتحاف المهرة (8/35) وقال سنده صحيح وله شاهد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (572).

[8] أخرجه البوصيري في إتحاف المهرة (7/352) وقال: إسناده صحيح؛ وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة برقم (76) وقال الذهبي في المهذب: إسناده جيد.

أعلى