• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدعاء للأولاد في ضوء القرآن الكريم (1-2)

وذكر القاسمي -رحمه الله- أنهم سألوا الله -تعالى- أولادًا وحَفَدة تقرّ بهم العيون، وتسرّ بمكانهم الأنفس؛ لحيازتهم الفضائل، واتصافهم بأحسن الشمائل[15].

 

خلق الله -تعالى- الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، واختص الله -سبحانه- الإنسان بمزيد من التكريم على كثير من خلقه، وسخَّر له ما في السماوات والأرض لمصلحته، قال -تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وأسبغ عليه من نِعَمه الظاهرة والباطنة، قال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

ومنها: نعمة الأولاد (الأبناء والبنات)، فإنها من أجلّ النعم الدنيوية التي تفضَّل الله بها على الإنسان في الدنيا، وشمل بهذه النعمة عموم خَلْقه من الكفار والمؤمنين، والأغنياء والفقراء، والأتقياء والفجار، ومنَعها عمَّن شاء منهم؛ بناءً على ما اقتضته حكمته البالغة، ومشيئته النافذة، قال -تعالى-: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِـمَن يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِـمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ 49 أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50].

ونعمة الأولاد -كغيرها من النعم الدنيوية- لا تدل بحدّ ذاتها على حبّ الله -تعالى- للمُنعَم عليهم بها، ولا على بُغْضه للمحرومين منها، وإنما تفضَّل الله بها على عموم خلقه: «ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد، ويحق الأمر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها...»[1].

وبناءً على هذه الحِكَم -وغيرها- فإن هذه النعمة قد تنقلب إلى نقمة، وقد يُضاف إليها نعمة أخرى؛ تبعًا لموقف الإنسان من هذه النعمة، وطريقة تعامله معها، فقد تتحوَّل إلى نقمة إذا أُعجب بها الإنسان إعجابًا مذمومًا، كما هو شأن الكفار والمنافقين الذين زعموا أن الأولاد سيدفعون عنهم عذاب الآخرة، ويحمونهم من النار، وقد جاء في القرآن الرد على زعمهم هذا في مواضع عدة، وفي سياقات مختلفة، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10]، وقال -تعالى-: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة: 17].

وقال -تعالى-: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]، وقال -تعالى-: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، وقال -تعالى-: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].

وقد تتحوَّل نعمة الأولاد إلى نقمة؛ إذا طغى حُبّ هذه النعمة على الإنسان، حتى صار مانعًا له عن القيام بما أوجب الله عليه، أو دافعًا لارتكاب ما حرَّم الله -تعالى-، وهو ما جاء التحذير منه في القرآن مواضع عدة، وفي سياقات مختلفة، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].

*    *    *

وتبعًا لذلك؛ فإن أنبياء الله ورسله -عليهم السلام- لم يسألوا الله -تعالى- نعمة الأولاد بحدّ ذاتها، وإنما سألوه إياها مقيَّدة بأوصاف جامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقد حكى الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- أنه دعا ربه، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وأن الله -تبارك وتعالى- أجاب دعاءه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، قال ابن جرير -رحمه الله-: «سأل إبراهيم ربه أن يرزقه ولدًا يكون من الصالحين الذين يُطيعونك، ولا يعصونك، ويُصلحون في الأرض، ولا يفسدون»[2].

 وقال ابن كثير -رحمه الله- سأل ربه «أولادًا مطيعين عِوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم، قال الله -تعالى-: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وهذا الغلام هو إسماعيل -عليه السلام-؛ فإنه أوّل ولد بُشِّرَ به إبراهيم -عليه السلام-، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب»[3]، وقال الرازي -رحمه الله- معلقًا على دعاء إبراهيم -عليه السلام-: «هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحُلُم، وأنه يكون حليمًا، وأيُّ حِلْم يكون أعظم من ولدٍ حين عرض عليه أبوه الذبح، قال: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ثم استسلم لذلك!!»[4].

وقال ابن عاشور -رحمه الله-: «وصفه بأنه من الصالحين؛ لأن نعمة الولد تكمل إذا كان صالحًا، فإن صلاح الأبناء قُرَّة عين للآباء ومن صلاحهم بِرّهم لوالديهم، ولعل من المناسب في هذا المقام التنبيه إلى أن بعض الناس لا يُلْقُون بالاً عند طلبهم الأولاد من الله -تعالى- لكونهم صالحين، بل يكتفون في دعائهم بأن يُرْزَقُوا أولادًا، كما أنَّ بعضهم لا يدركون أهمية سلاح الدعاء لصلاح الأبناء، ولا يلجؤون إليه إلا إذا ابتُلوا بفسادهم، ولكنَّ خليل الرحمن -عليه السلام- على عكس هؤلاء وأولئك، فقرن دعاءه من ربه للأولاد بأن يكونوا صالحين، وذلك قبل وجودهم»[5].

وتبعه في ذلك زكريا -عليه السلام-؛ فقد حكى عنه القرآن أنه دعا ربه، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}، وقال: {رَبِّ إنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإنِّي خِفْتُ الْـمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: ٤ - ٦] ، وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، وقد أجاب الله دعاء زكريا -عليه السلام-: {فَنَادَتْهُ الْـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْـمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِـحِينَ} [آل عمران: 39].

قال البغوي -رحمه الله-: «دعا زكريا ربه فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وناجى ربه: {رَبِّ} أيْ يا رب {هَبْ لِي}؛ أعطني {مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}؛ أي ولدًا مباركًا تقيًّا صالحًا رضيًّا، {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}؛ أي: سامعه، وقيل: مجيبه»[6].

وقال العلماء: «دعاء زكريا -عليه السلام- في الولد إنما كان لإظهار دِينه، وإحياء نُبُوّته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوَّده الإجابة، ولذلك قال: {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]؛ أي بدعائي إياك»[7].

وقال ابن سعدي: «دعا زكريا -عليه السلام- ربه أن يرزقه {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}؛ أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم؛ فاستجاب له دعاءه، وبينما هو قائم في محرابه يتعبَّد لربه ويتضرع نادته الملائكة: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}؛ أي: بعيسى -عليه السلام-؛ لأنه كان بكلمة الله، {وَسَيِّدًا}؛ أي يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدًا يُرجَع إليه في الأمور، {وَحَصُورًا} أي ممنوعًا من إتيان النساء، فليس في قلبه لهُنَّ شهوة، اشتغالًا بخدمة ربه وطاعته، {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِـحِينَ}»[8].

وقال القرطبي -رحمه الله- مجيبًا على الآيات التي ورد فيها التحذير من آفات الأولاد؛ كقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]، وقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]: «إن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسُّنة... ثم إن زكريا -عليه السلام- تحرَّز، فقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]، وقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]، والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حدّ العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة»[9].

وإذا وهب الله الآباء والأمهات أولادًا بهذه المواصفات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ فقد أضيف إلى هذه النعمة نعمة أخرى، وهي: (هداية الأولاد)، وبهذه الإضافة تتحوَّل نعمة الأولاد إلى نعمة دينية يُنتفع بها في الدنيا والآخرة، وتصير من أجلّ النعم التي جاء وصفها على لسان أحد الشعراء المعاصرين بقوله:

نِعَم الإله على العباد كثيرة

وأجلهنَّ هداية الأولاد

*    *    *

وقد سار عباد الرحمن على المنهج الذي سار عليه أنبياء الله ورسله في سؤال -تعالى- نعمة الأولاد مُقيَّدة بأوصاف جامعة لخيرَي الدنيا والآخرة، فقد حكى القرآن عنهم أنهم دعوا الله -تعالى-، فقالوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]؛ ففي هذا الدعاء سألوا الله -تعالى- أن يهبهم ذرية صالحة تَقرّ بها أعينهم في الدنيا والآخرة؛ قال ابن عباس -رضي الله عنه-: «يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة»[10].

 وقال عكرمة -رحمه الله-: «لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالًا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين»[11].

 وقال ابن جريج -رحمه الله-: «يعبدونك فيُحسنون عبادتك، ولا يَجُرُّون علينا الجرائر»[12].

وقال ابن العربي -رحمه الله- مُعلِّقًا على قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]: «معناه: أن النفوس تتمنَّى، والعيون تمتدّ إلى ما ترى من الأزواج والذرية، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة، أو كانت عنده ذريته محافظين على الطاعة، معاونين له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد، ولا إلى ولده، فتَسكُن عينه عن الملاحظة، وتزول نفسه عن التعلق بغيرها؛ فذلك حين قرة العين وسكون النفس»[13].

وذكر القرطبي -رحمه الله- «أن الإنسان إذا بُورِكَ له في ماله وولده؛ قرَّت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفَّة ونظر وحوطة، أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، مُعاونون له على وظائف الدين والدنيا؛ لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، فذلك حين قرة العين، وسكون النفس»[14].

 وذكر القاسمي -رحمه الله- أنهم سألوا الله -تعالى- أولادًا وحَفَدة تقرّ بهم العيون، وتسرّ بمكانهم الأنفس؛ لحيازتهم الفضائل، واتصافهم بأحسن الشمائل[15].

وبهذا الأدعية التي حكاها القرآن عن أنبياء ورسله وعباد الرحمن انقلبت نعمة الأولاد من نعمة دنيوية بحتة إلى نعمة دينية يعود نفعها على الأولاد، وعلى الوالدين في حياتهما وبعد موتهما.

*    *    *

ولم يكتفِ أنبياء الله ورسله -عليهم السلام- بسؤال الله -تعالى- أن يهب لهم نعمة الأولاد مقيدة بأوصاف جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وإنما استمروا في الدعاء لهم بهذه الأوصاف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة عند وجودهم؛ فقد حكى الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- أنه حمد الله -تعالى- على هبته له وَلَدَيه: إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- على الرغم من كِبَر سنّه، فقال مثنيًا على ربه: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39].

قال النسفي -رحمه الله-: «{عَلَى} بمعنى «مع»، وهو في موضع الحال؛ أي: وهب لي وأنا كبير {إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ}... وإنما ذكر حال الكبر؛ لأن المنَّة بهبة الولد فيها أعظم؛ لأنها حال وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم»[16].

وقال الرازي معلقًا على قوله: {عَلَى الْكِبَرِ}: «إن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛ من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم»[17].

وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «هبتهم (أي الأولاد) من أكبر النعم، وكونهم على الكبر في حال الإياس من الأولاد نعمة أخرى، وكونهم أنبياء صالحين أجلّ وأفضل، {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}؛ أي: لقريب الإجابة ممن دعاه، وقد دعوته فلم يخيب رجائي»[18].

 وبيَّن الرازي -رحمه الله- المناسبة بين دعاء إبراهيم -عليه السلام- هذا وبين دعائه: {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38] : «كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرح بهذا المطلوب، بل قال: {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}؛ أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ}، وذلك يدل ظاهرًا على أنهما يبقيان بعد موته، وأنه مشغول القلب بسببهما، فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض»[19].

ودعا إبراهيم -عليه السلام- أن يُجنّبه وولَدَيْه الشِّركَ؛ لمناقضته للتوحيد كليًّا أو جزئيًّا، فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]؛ قال البغوي -رحمه الله-: «{وَاجْنُبْنِي} أبعدني، {وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}؛ يقال: جنّبته الشيء أجنبته جنبًا، وجنبته تجنيبًا، واجتنبته اجتنابًا بمعنى واحد، فإن قيل: قد كان إبراهيم معصومًا من عبادة بنيه الأصنام؛ فكيف يستقيم السؤال وقد عبد كثير من الأصنام فأين الإجابة؟ قيل: الدعاء في حق إبراهيم لزيادة العصمة والتثبيت، وأما دعاؤه لبنيه فأراد بنيه من صُلبه، ولم يَعْبُد منهم أحدٌ الصنم، وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنًا من بنيه»[20].

وقد أجاب الله -تعالى- دعاءه فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشركٌ، قال مجاهد -رحمه الله-: «استجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يَعبُد أحد من ولده صنما بعد دعوته»[21].

وقال ابن كثير -رحمه الله- معلقًا على قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}: «ينبغي لكل داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته»[22].

ودعا إبراهيم -عليه السلام- لذريته بالثبات على الإسلام، والمحافظة على شعائره، والقيام بفرائضه، وفي مقدمة ذلك: الصلاة، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [إبراهيم: 37]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم: 40]، قال القرطبي -رحمه الله- معلقا على قوله -تعالى-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ}: «أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه، {وَمِن ذُرِّيَّتِي} أي واجعل من ذريتي من يقيمها {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} أي عبادتي»[23].

وقال البغوي -رحمه الله-: «يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها، ويحافظ عليها، {وَمِن ذُرِّيَّتِي} يعني: واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة، {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}؛ أي عملي وعبادتي»[24].

وقال الرازي -رحمه الله-: «تقدير الآية: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، أي واجعل بعض ذريتي كذلك؛ لأن كلمة: «من» في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} للتبعيض، وإنما ذكر هذا التبعيض؛ لأنه علم بإعلام الله -تعالى- أنه يكون في ذريته جَمْعٌ مِن الكفار، وذلك قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِـمِينَ} [البقرة: 142] {لا ينال عهدي الظالمين}[25]. وقد أجاب الله -تعالى- دعاءه: «فأخرج من ذرية إسماعيل محمدًا # حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي، وإلى ملة أبيهم إبراهيم؛ فاستجابوا له، وصاروا مقيمي الصلاة»[26].

*    *    *

ولم يكتفِ إبراهيم -عليه السلام- بالدعاء لأولاده بالتمسك بالعقيدة الصحيحة، والمحافظة على العبادة السليمة فحسب، وإنما دعا لولَدَيه بالوسائل المعينة على ذلك، وأبرزها ثلاث خصال: الأولى: الجليس الصالح. الثانية: الرزق الحلال. الثالثة: الوطن الآمِن، وبهذه الوسائل الثلاث يتحقق لهم الأمن بمفهومه الشامل (الأمن النفسي، والغذائي، والوطني).

فدعا لوَلَدَيْه بالجليس الصالح، فقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]؛ قال الرازي -رحمه الله-: «إن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا، أما الدين فلأنه يدخل فيه مَيْل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله -تعالى-، وأما الدنيا فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم، ويكثر طعامهم ولباسهم»[27].

وفي هذا الدعاء قيَّد إبراهيم -عليه السلام- بمجالسة الصالحين، فقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ}، ولم يقل: اجعل أفئدة الناس، وإنما قيَّدها بأفئدة بعض الناس، وهم أهل التوحيد والإيمان، لا أهل الشرك والكفران، قال مجاهد -رحمه الله-: «لو قال: أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند». وقال سعيد بن جبير -رحمه الله-: «لحَجَّت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ}؛ فَهُم المسلمون»[28].

وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «أجاب الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدًا # حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي، وإلى ملة أبيهم إبراهيم؛ فاستجابوا له، وصاروا مقيمي الصلاة، وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم، وجعل فيه سرًّا عجيبًا جاذبًا للقلوب، فهي تَحُجّه ولا تقضي منه وطرًا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه؛ ازداد شوقه وعظم وَلَعُه وتَوْقُه»[29].

ودعا إبراهيم -عليه السلام- لأولاده بالرزق الحلال، فقال: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، قال القاسمي: «{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ}؛ أي فتجلبها إليهم التجار {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}؛ أي: نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها على كمال الإخلاص والتوحيد، مع فراغ القلب»[30].

وقال الرازي -رحمه الله-: «لم يقل: وارزقهم الثمرات، بل قال: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}، وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.. ويحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات، وإنما يكون المراد: عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها، ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات، وإقامة الطاعات، فإن إبراهيم -عليه السلام- بيَّن أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات، وأداء الواجبات»[31].

وقال الشوكاني -رحمه الله-: «{وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}؛ أي: ارزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه، أو تُجلَب إليه {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نِعَمك التي أنعمت بها عليهم»[32].

وقد أجاب الله دعاءه، ورزق ذريته وكلّ مَن انحاز إليهم بما أَنبت لهم من أَشجار الفاكهة المختلفة، أو ما يجلب إليهم من الأمصار والأقطار الشاسعة من مختلف الفواكه والثمار، قال ابن سعدي -رحمه الله-: «أجاب الله دعاءه فصار يُجْبَى إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب»[33].

ودعا إبراهيم -عليه السلام- لولديه بالوطن الآمِن؛ فقال داعيًا ربه أولًا أن يُهيِّئ لولديه الوطن الآمِن: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، ثم سأله ثانيًا أن يُديم على وطنه الأمن والاستقرار، فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]؛ قال الرازي -رحمه الله-: «طلب من الله نعمة الأمان،... والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به»[34].

 وقال الشوكاني -رحمه الله- مُعلِّقًا على قوله -تعالى-: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} المراد بالبلد هنا مكة دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنًا، أي: ذا أمن، وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده؛ لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا»[35].

وقد استجاب الله -تعالى- دعاءه، قال ابن كثير -رحمه الله-: «دعا لمكة بالأمن... وقد استجاب الله له، فقال -تعالى-: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]؛ الآية، وقال -تعالى-: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96، 97]»[36].

وقال ابن سعدي  -رحمه الله-: «إذ قَال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ}؛ أي: الحرم {آمِنًا}؛ فاستجاب الله دعاءه شرعًا وقدرًا، فحَرَّمَه الله في الشرع، ويسَّر من أسباب حُرْمته قدرًا ما هو معلوم، حتى إنه لم يُرِدْه ظالِمٌ بسوءٍ إلا قصمه الله؛ كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم»[37].


 


[1] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 16/ 49.

[2] ينظر: جامع البيان، لابن جرير: 21/ 72.

[3] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 7/ 23.

[4] مفاتيح الغيب، للرازي: 26/ 345.

[5] التحرير والتنوير، لابن عاشور: 23/ 148.

[6] ينظر: معالم التنزيل، للبغوي: 1/ 435.

[7] الجامع لأحكام القرآن: 11/ 79-11/ 80.

[8] تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص: 129.

[9] الجامع لأحكام القرآن: 11/ 80.

[10]  تفسير القرآن العظيم: 6/ 119.

[11] تفسير القرآن العظيم: 6/ 119.

[12] تفسير القرآن العظيم: 6/ 119.

[13] أحكام القرآن، لابن العربي: 3/ 455- 456.

[14] الجامع لأحكام القرآن: 13/ 82.

[15] محاسن التأويل: 7/ 445.

[16] مدارك التنزيل، للنسفي: 2/ 176.

[17] مفاتيح الغيب: 19/ 105-106.

[18] تيسير الكريم الرحمن، ص: 427.

[19] مفاتيح الغيب: 19/ 105 -106.

[20] معالم التنزيل: 3/ 42.

[21] فتح القدير، للشوكاني: 3/ 136.

[22] تفسير القرآن العظيم: 4/ 441.

[23] الجامع لأحكام القرآن: 9/ 375.

[24] معالم التنزيل: 3/ 44.

[25] مفاتيح الغيب: 19/ 107.

[26] تيسير الكريم الرحمن، ص: 427.

[27] مفاتيح الغيب: 19/ 104-105.

[28] معالم التنزيل: 3/ 44.

[29] تيسير الكريم الرحمن، ص: 427.

[30] محاسن التأويل: 6/ 319.

[31] مفاتيح الغيب: 19/ 105.

[32] فتح القدير: 3/ 135.

[33] تيسير الكريم الرحمن، ص: 427.

[34] مفاتيح الغيب: 19/ 103- 104.

[35] فتح القدير: 3/ 134.

[36] تفسير القرآن العظيم: 4/ 440.

[37] تيسير الكريم الرحمن، ص: 426.

أعلى