تأمُّلات شرعية   في ظل الربيع العربي

تأمُّلات شرعية في ظل الربيع العربي


ما زالت تداعيات الربيع العربي تتوالى، وما زالت الحاجة ماسَّةً إلى النظر إليها في ضوء الأحكام الكونية القدرية، والأحكام الدينية الشرعية؛ للاعتبار، وضبط المسار.. وإن من أهم الأمور التي ينبغي الوقوف عندها في خضم تلك الأحداث ما يلي:

الأمر الأول:

اليقين الجازم والاعتقاد الراسخ بأن ما يجري اليوم من أحداث ونوازل في الأمة، إنما هو بعلم الله عز وجل، وكتابته لها، وإرادته سبحانه لها، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]. وإرادته ومشيئته سبحانه ليست مجردة عن حكمته، بل له سبحانه الحكمة البالغة في خلقه وأمره. والعارفون لربهم عز وجل يعلمون ذلك ويوقنون به، لذا فهم يحسنون الظن بربهم ويحمدونه سبحانه على خلقه وأمره، ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله عز وجل خيرٌ ومصلحة ولطف بالموحدين - إن شاء الله تعالى. ومع أنها موجعة وكريهة، إلا أننا نلمس لطف الله عز وجل وحكمته ورحمته في أعطافها، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى: (وأسماء الله الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجب لموجبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود، فإن من أسمائه: الخلاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه: الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحكم العدل... إلى سائر الأسماء، ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلا لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه وعند ذكرِ مُلكه وربوبيَّته، إذ هما مصدر الخلق والأمر)[1].

الأمر الثاني:

إن من حكمة الله البالغة في هذه الأحداث أن يعرفنا على سننه سبحانه التي لا تتبدل ولا تتحول، ومن معرفة هذه السنن الإلهية يتضح الطريق المستقيم، ويهتدي المسلم إليه، ويوفق إلى الموقف الحق والمنهج الصائب؛ يقول الله عز وجل آمراً لنا بالنظر في سننه سبحانه المطردة {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، وقال سبحانه: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

لذا وجب على المسلمين بعامة، وعلى دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله عز وجل بخاصة؛ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله عز وجل وما تضمن من الهدى والنور، ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذٌ بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وعناء.

ومن هذه السنن التي ينبهنا الله عز وجل إليها في مثل هذه الأحداث ما يلي:

1 - سنة الابتلاء والتمحيص والمدافعة:

قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، ويقول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال في السورة نفسها: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: ٤]، وقال الله عز وجل معقباً على غزوة أحد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال سبحانه في الحدث نفسه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند الآية الثانية: (أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليّه ويفتضح فيه عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر). ويقول صاحب الظلال - رحمه الله تعالى: (ويقطع النص القــرآني بـــأنه ليس من شأن الله – سبحانه – وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته؛ أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام).. وبالنظر إلى هذه الأحداث الضخمة المتسارعة في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص، نرى أن هذه السنة المطردة الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها سبحانه وتعالى لتؤتي أكلها الذي أراده الله عز وجل، ومن ذلك تمحيص عباده المؤمنين ولطفه بهم ورحمته وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة وينكشف أمرهم للناس، وحتى يتعرف المؤمنون أنفسهم على أنفسهم وما فيها من الثغرات والآفات التي تحول بينهم وبين التمكين والنصر، فيتخلصوا منها ويغيّروا ما بأنفسهم؛ لأن الله عز وجل لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فإذا ما تمايزت الصفوف، وتساقط المتساقطون في أتون الابتلاء، واستبان سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، وخرج المؤمنون الصابرون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلَّص من شوائبه بالنار؛ حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين ثبتوا في الابتلاء وما بدلوا تبديلاً.

2 - سنة الإملاء والاستدراج للكفار:

قال الله تعالى عن هذه السنة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]، وهذه السنة تعمل عملها في هذه الأوقات، وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق، وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكبر والغطرسة والظلم والجبروت والطغيان مبلغاً عظيماً ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والطغيان، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأمّلها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة؛ لا يستغرب ما يرى، ولا يحيك في نفسه شيء من هذا، لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الظلمة اليوم يعيشون سنة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم المحتومة وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، ففي الإملاء للظالمين وتركهم يتسلَّطون على المسلمين في مدة من الزمن، ابتلاءٌ وتمحيصٌ للمؤمنين، حتى إذا آتت سنن الابتلاء أكلها وتميَّز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء ممحَّصاً نظيفاً، عندئذ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها، فيحق القول على الظالمين ويمحقهم الله كرامة ونصراً للمؤمنين الممحَّصين الذين يمكِّن الله لهم في الأرض ويستخلفهم فيها بعد محق الكافرين، قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، فذكر الله سبحانه التمحيص قبل المحق، ولو محق الله عز وجل الكفار قبل تهيُّؤ المؤمنين الممحصين فمَن يخلف الكفار بعد محقهم؟

الأمر الثالث:

وفي ضوء ما سبق في الأمر الأول والثاني، فإنه يمكن فيما يلي تسجيل بعض التفسيرات لما يحدث، كما يمكن تسجيل بعض الوصايا في ظل ما يحدث؛ فإن تك صواباً فمن الله وحده فهو المان بذلك، وإن تك خطأً فمني ومن الشيطان وأستغفر الله من ذلك. ويمكن إجمال هذا التفسيرات والوصايا في الوقفات التالية:

الوقفة الأولى:

اختلفت آراء المراقبين من فئات المسلمين لهذه الأحداث وتفسيرها ما بين ناظر إليها على أنها عفوية غير مخطط لها وإنما جاءت لتراكمات وضغوظ شديدة على الشعوب في تلك البلدان في دينها ومعيشتها وأعراضها وبعد أن بلغ الظلم والكبت منتهاه انفجرت تلك النفوس المكبوتة لتعبِّر عن معاناتها في مظاهرات وثورات انتهت بأفول الطواغيت في تلك البلدان. وفي المقابل لهذا الرأي هناك من ينظر إلى هذه الأحداث على أنها نتيجة تخطيط وتواطؤ أمريكي مع الفئات الليبرالية ومن تراهم أمريكا من المعتدلين الإسلاميين لإسقاط تلك الأنظمة الديكتاتورية التي جثمت على صدور شعوبها ردحاً من الزمن وأذاقتها الظلم والأمرين بعد أن استنفدت أغراضها وبلغت كراهية الشعوب لها مبلغاً لا يحتمل، وتسبب ذلك في كراهية أمريكا التي كانت تدعم هذه الأنظمة الظالمة، فأرادت أمريكا أن تخفف من كراهية الشعوب الإسلامية لها لا سيما بعد غزوها العراق وأفغانستان ودعمها الواضح الصريح لدولة اليهود في فلسطين، ولذا يرى أصحاب هذه النظرة أن الأصابع الأمريكية وراء هذه الأحداث، وأن أمريكا أرادت تغيير الوجه الحاكم في تلك البلدان بحيث تخف الوطأة وتخف الكراهية بعد أن تأتي بخليط من الإسلاميين والليبراليين على نمط التجربة الإسلامية التركية (الإسلام الأمريكاني)، وحينها تمرر أمريكا ما تريد من أفكار وتغييرات في المنطقة بصورة غير استفزازية ومقبولة من الشعوب دون إنكار لها.

وهناك رأي ثالث وسط بين الرأيين السابقين، ولعله الأقرب إلى الصواب، وهو قول من يقول أن هذه الأحداث والثورات جاءت دون تخطيط مسبق لها من الخارج، وإنما هي تنفس المكبوت وثورة المظلوم على الظالمين، وهذا مقتضى ما أشير إليه في المقدمة من أنها من تقدير العزيز العليم اللطيف الخبير الحكيم، وأنها جاءت في وقتها الذي أراده الله عز وجل بحكمته ورحمته وعلمه ولطفه وعزته وسنته في الظالمين، وهي مقتضى أسمائه سبحانه الحسنى ومقتضى سنته التي لا تتبدل ولا تتحول. ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الأحداث وإن لم يُخطِّط لها أعداء الإسلام من الخارج إلا أنهم بذلوا وسعهم في استثمارها وركبوا موجتها ساعين إلى ألا يقطف الثمرة من يسمونهم الإسلاميين الأصوليين وأن يحولوا بينهم وبين استثمار هذه الفرص والفوز بها، فسعوا جاهدين لدعم التيار الليبرالي ومن يسمونهم المعتدلين الإسلاميين في قطف ثمرة هذه الثورات والتي بها يضمن الغرب وأمريكا بقاء الولاء لهم وبقاء هذه الأنظمة الجديدة تدور في الفلك الأمريكي لكن بصورة غير ظاهرة وغير استفزازية كما كانت في الأنظمة السابقة. وهذا هو شأن السياسة الأمريكية، فعندما تفشل في تحقيق هدف كبير لها فإنها ترضى بما دونه من الأهداف ولو كان لا يعجبها، فهي لما فشلت في القضاء على الإسلام والاطمئنان في دياره رضيت بما دون ذلك ولو كان فيه ظهور وحرية جزئية للمسلمين ودعوتهم؛ وهذا شأن الشيطان الرجيم، حيث إنه لا ييأس من إظهار الشر وإضلال الناس، فهو يبدأ بإضلالهم وإيقاعهم في الكفر والشرك الأكبر، فإن فشل في ذلك رضي بإيقاعهم في البدع، فإن فشل في ذلك ذهب إلى إيقاعهم في الكبائر... وهكذا، حتى إذا يئس من عصيانهم لله تعالى أشغلهم بالمباحات وتقديم المفضول على الفاضل، وهكذا السياسة الأمريكية الشيطانية.

هذا ما يخطط له البشر الجاهل الظالم، لكن لا يبقى ولا يكون إلا ما يريده الله عز وجل ويدبره، فهو - سبحانه - مدبر الأمور بعلمه وحكمته وعدله ولطفه ورحمته وعزته، والجميع في قبضته ونواصي الخلق بيده، ولا يأتي من ربنا عز وجل إلا الخير لعباده المؤمنين، ومن سنته سبحانه أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.

الوقفة الثانية:

وكما اختلفت وجهات النظر السابقة في تفسير هذه الأحداث ومنشَئها، فقد اختلفت أيضاً مواقف الدعاة إلى الله عز وجل والمحبين لهذا الدين إزاء النتائج التي تمخَّضت عنها وإزاء القائمين عليها والماسكين بزمام الأمور فيها، ونشأ من جراء ذلك ثلاثة مواقف؛ طرفان ووسط، وخير هذه المواقف أوسطها والله أعلم.

الطرف الأول:

المفرطون في التفاؤل وهم الذين نظروا إلى هذه الأحداث وما تمخَّض عنها من تخفيف الوطأة على المسلمين والحرية في تطبيق بعض أحكام الإسلام، على أنها النصر المنشود للإسلام والمسلمين، وأن هذا العهد الجديد الذي خَلَفَ العهد البائد هو تمكين للإسلام في الأرض وعودة إلى الحكم بالشريعة بين الناس.

الطرف الثاني:

ويأتي مقابلاً للطرف الأول ومضاداً له، وهم الذين أفرطوا في التشاؤم من هذه الأحداث ونتائجها فشككوا في كل شيء ولم يروا أن شيئاً قد تغير ولم يعيروا اهتماماً بالخير الذي ظهر من هذه الأحداث ولا إلى الشر الذي خفت، ووقفوا خصوماً للقائمين عليها ومَن تعاطف معهم.

الموقف الوسط:

وهم الذين استبشروا من هذه الأحداث خيراً، ففرحوا بما فتح الله فيها من أبواب الخير وارتفاع صوت الإسلام، وفرحوا بما أغلق بها من أبواب الشر والظلم وسقوط الظالمين، لكنهم لم يروا أن هذه الأحداث ونتائجها هي النصر المنشود للإسلام والمسلمين والتمكين لهم في الأرض، حيث لم تتوافر شروط ذلك بعد، بل إن في الواقع من الموانع ما يمنع ذلك، ولعل في التغيرات الجديدة من الأسباب ما يزيل بها سبحانه هذه الموانع حتى يتحقق نصر الله الموعود، وقد تكون هذه التغيرات والأحداث برزخاً بين عهدين؛ عهد الظلم البائد وما كان فيه من إقصاء للإسلام ومحاربة الدين وأهله، وعهد التمكين المنشود للإسلام. وإن أَحْسَنَ الدعاةُ إلى الله اغتنامَ هذه الأحداث واستعلوا على حظوظ النفس والدنيا وجمعوا كلمتهم ووحدوا صفوفهم، فإن نصر الله عز وجل لآت بإذنه سبحانه، وعندها تكون هذه الأحداث إرهاصاً للعودة الحقة إلى الإسلام والحكم بشريعته، أما إن تخلفت أسباب وشروط النصر وتفرق الدعاة واختلفوا بينهم وضعف الإخلاص وقلَّت المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن نصر الله عز وجل لا يأتي والحالة هذه، فسنة الله عز وجل لا تحابي أحداً، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ومن معه من أصحابه الكرام قاسوا من آلام الهزيمة الشيء العظيم وليس في الأرض من يعبد الله سواهم، لكن لما تخلف شرط من شروط النصر تخلف النصر، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]. وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من أسباب الفشل فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. نسأل الله عز وجل أن يوحِّد صفوف المؤمنين وأن يؤلف بين قلوبهم وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف.

الوقفة الثالثة:

وفي هذه الوقفة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين بأن نضع مصلحة هذا الدين ومصلحة المسلمين عامة فوق كل مصلحة فردية أو خاصة، وألا نغفل عن القواعد والموازنات الشرعية المستنبطة من أدلة الأحكام الشرعية، والتي قعَّدها لنا سلفنا الصالح بفهمهم الثاقب ومقاصدهم الحسنة، لا سيما في خضم هذه الأحداث المتسارعة والنوازل الكبيرة، حيث الحاجة كبيرة وماسَّة إلى فقه الموازنات، وذلك عند تعارض المفاسد والمصالح مع بعضها، أو عند تعارض المصالح والمفاسد، لأن في الغفلة عن هذه القواعد والموازنات خطراً كبيراً يؤدي إلى اختلاف الأمة وتفرقها وشماتة أعدائها بها واغتنامهم هذا التفرّق في إشعال الفتن بين المسلمين، وتنفيذ مخططاتهم في بلدان المسلمين، والاستيلاء عليها، وما أحسن تلك العبارة التي قالها من قالها من أهل العلم (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، لكن العاقل من يعرف خير الخيرين فيأتيه وشر الشرين فيتركه)، وكي تتضح هذه المسألة المهمة ننزلها على ما يدور في الأوقات من الأحداث والثورات في بعض بلدان المسلمين، فقد يرى بعض الدعاة المجاهدين كثيراً من الملاحظات على الثورات والقائمين عليها فيقفون عندها دون النظر إلى ما فتح الله عز وجل بسببها من أبواب الخير وأغلق بها من أسباب الشر، وبناءً على هذه النظرة عندهم يقفون منها موقف العداء والخصومة، ولو طبقوا قاعدة الموازنات التي منها ارتكاب أخف الضرر عند التعارض والأخذ بأكبر المصلحتين عند التعارض والمحافظة على الأصل الذي هو الاجتماع والائتلاف وإن فات بسببه شيء من الفروع؛ فلو أنهم تنبهوا لهذه الموازنات وفكروا فيها بعمق؛ لما كانت هذه المواقف العدائية من هذه الثورات، ولا يعني هذا الكلام المجاملة في الحق وإقرار الباطل، بل يجب بيان الحق من الباطل ومناصحة المخالفين للحق، لكن دون المنابذة والافتراق ما داموا في الجملة من أهل السنة الساعين إلى نصرة هذا الدين. وتتأكد هذه المواقف في مثل أحوال الأمة التي تمر بتغيرات كبيرة وهي لا تزال في ضعفها وتفرُّقِها وبُعدها عن دينها، ففي مثل هذه الأحوال تحتاج الأمة - لا سيما دعاتها - إلى توحيد صفوفهم وإن اختلفوا في بعض المسائل؛ تغليباً لمصلحة الاجتماع واتقاءً لمفاسد الفرقة، لا سيما في مواجهة الكفر والطغيان والزندقة، فلقد روى الذهبي في السير أن بعض علماء السنة اتفقوا مع الخوارج على مواجهة الدولة العبيدية، فقال: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي، فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني. وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد الخارجي وقال: (هم أهل قبلة وأولئك ليسوا أهل قبلة وهم بنو عدو الله فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد لأنه خارجي)[2]. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لما واجهت الأمة في بلاد الشام غزو التتار اجتمع مع أهل العلم في ذلك الزمان، وكان فيهم الأشعري والصوفي من غير الغلاة، وذهبوا إلى ملك التتار، ثم جيَّش الأمة لقتالهم على اختلاف مشاربهم، وهذا من فقهه - رحمه الله، إذ لو وقف مع الخلاف بين أهل المذاهب في وقته وانشغل بمخاصمتهم لاجتاح العدو بلدان المسلمين وأباد الجميع دون تفريق بين مذهب ومذهب.. وهذا لا يعني تساهل ابن تيمية فيما عند الطوائف المبتدعة من باطل، بل كان هذا الموقف في ظرف معين، وإلا فلا تخفى مقارعته لأهل البدع والتشنيع عليهم وبيان باطلهم في رسائله وكتبه ومناظراته لهم. ونظراً لأهمية هذه المسألة وخطورتها أسوق كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - يتحدث في صميم المسألة، ويبيِّن فيه أهمية فقه الموازنات وقواعد الترجيح عند التعارض، فيقول (فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

فالأول: كالواجب المستحب؛ وكفرض العين وفرض الكفاية؛ مثل: تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع، وكتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)، وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع.

والثاني: كتقديم المرأة المهاجِرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْـمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر؛ لدفع ما هو أعظم ضرراً منها وهي جرائمها، إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير.

وأما الثالث: فمثل أكل الميتة عند المخمصة؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء؛ فتبيَّن أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها. والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية، أما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض؛ فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع بخلاف الباب الأول، فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه

مرضان مختلفان داوى الأخطرا

وهذا ثابت في سائر الأمور... ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء (ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان). ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثر باحتمال أيسره؛ كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً.

وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن؛ كان محسناً، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً، وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح.

ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد تكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة واستحباباً أخرى، فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركاً واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعلاً محرماً باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء، هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك). وهذا باب التعارض باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبينَّ لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبيَّن لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات كون الأهواء قارنت الآراء، ولهذا جاء في الحديث «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات»)[3].

من هذا الكلام النفيس والفقه العميق يتبيَّن لنا أهمية العلم بفقه الموازنات وخطورة الجهل به أو إغفاله، وبالنظر في ضوء هذا الفقه إلى ما يحدث اليوم من النوازل والفتن في بلدان المسلمين، يتبيَّن لنا خطأ من يجعل نفسه – من بعض الدعاة والمجاهدين – خصماً ومناوئاً لمن يقود هذه الأحداث والثورات وفيها كثير من الإسلاميين، وذلك لما صدر عنهم من بعض المواقف والتصريحات الخاطئة، فيحدث من جراء ذلك فرقة وفتنة بين الساعين لنصرة هذا الدين، ما ينشأ عنها الفشل والهزيمة لهم، وما يهيئ لأنصار الباطل والظلمة وأهل الزندقة والكفر والعلمنة المناخَ الملائم لقطف ثمرة هذه الأحداث وخطف النصر والتمكين لصالحهم، فالوصية لأنصار هذا الدين أن يجتمعوا أمام أهل الزندقة والكفر وأن يُعْمِلوا فقه الموازنات وقواعد الترجيح الشرعية فيما يحقق الخير والصلاح للأمة، ولو كان في هذا الخير شيء من الدخن والمفاسد. والعبرة بارتكاب أخف الضررين وتحقيق أعلى المصلحتين عند التعارض، ولا شك أن تولي المنتسبين لهذا الدين والحكم بشريعته أصلح وأعظم خيراً وأقل فساداً من تولي أعداء هذا الدين الكارهين لشريعته، ولقد أفتى بعض أهل العلم بأنه لو كان في بلد من بلدان الكفر رجلان كافران يطلب التصويت على أحدهما ليكون رئيساً لتلك الدولة وكان أحدهما أخف ضرراً على المسلمين في تلك البلاد، وحرية المسلمين تكون في عهده أكثر من الأخر؛ لكان على المسلمين التصويت له والسعي إلى إسقاط الآخر، وهذا من الفقه الدقيق والعلم الراسخ.

الوقفة الرابعة: وهذه الوقفة فرع من الوقفة السابقة وفيها تطبيق لفقه الموازنات وقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، فلو قدر الله عز وجل أن يمكِّن لطائفة من المسلمين في بقعة من الأرض وبلد من البلدان ليحكموها بشرع الله عز وجل ويأمرون فيها بالمعروف وينهون عن المنكر، فهل يجب على هؤلاء الممكَّنين المبادرة إلى تطبيق أحكام الإسلام كلها على الناس وإقامة الحدود والعقوبات عليهم دفعة واحدة؟ الجواب على ذلك يحكمه فقه الموازنات والنظر إلى المصالح الكبرى للإسلام والمسلمين وتطبيق قواعد الترجيح الشرعية بارتكاب أعلى المصلحتين ولو ذهبت أدناهما، وارتكاب أهون المفسدتين لتفويت أعظمهما؛ فإذا كان في إقامة الحدود من أول يوم ومعاقبة المخالف لأحكام الإسلام مفسدة عامة ينفر بسببها الناس من الإسلام أو ينحازون إلى أعدائه بسبب جهلهم أو عدم قدرتهم على أخذ أحكام الإسلام كلها وهلة واحدة؛ فإنه قد يكون من الحكمة والمصلحة الراجحة الرفق بالناس والتدرج معهم في تطبيق أحكام الشريعة حتى تذل نفوسهم لذلك وتنقاد، وعندما يقال التدرج في تطبيق بعض الأحكام لا يعني هذا التدرج في بيانها، فبيان دين الله عز وجل وحدود شريعته وأحكامها ينبغي أن يكون من أول يوم يتمكن فيه أنصار الله عز وجل، وإنما المقصود تأجيل مؤاخذة الناس وعقوباتهم على التفريط فيها، أي أن التدرج يكون في تطبيق بعض الأحكام لا في بيانها.

وعن هذه المسألة المهمة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: (فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها – كما بيَّنته فيما تقدم: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط؛ مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنباً إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً من ذنبه. ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوف أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يربح الراجح – كما تقدم - بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخَّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكُّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيانها. تبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، الحجة على العباد إنما تقوم بشيئين بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به؛ فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل؛ فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً وهذه أوقات الفترات. فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به. ولم تأتِ الشريعة جملة. كما يقال: (إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع). فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد؛ لا يمكن أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذا الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان؛ كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل والله أعلم)[4].

أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يولي على المسلمين خيارهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] الصواعق المرسلة: (4/1564).

[2] سير أعلام النبلاء، 15/154 - 155.

[3]مجموع الفتاوى، 22/52 - 58، باختصار.

[4] مجموع الفتاوى، 22/ 58 - 60.

أعلى