ما هي الأسباب الحقيقية للنزاع؟ هل هي ما تبدو على السطح؛ خلاف على موارد المياه؟ أم أن الصراع له جذوره العقيدية والاستراتيجية والتاريخية؟ وما احتمالات أن تتطور هذه الاشتباكات المحدودة إلى حرب شاملة بين الطرفين؟
«حركة
طالبان... البلاء الذي حلَّ بإيران»؛
هكذا وصف الناشط السياسي الإيراني، أحمد زيد آبادي حركة طالبان، ونقلته عنه صحيفة
«مردم
سالاري»
الإيرانية، ولكنه أضاف:
«إن
أفضل طريقة للتعامل مع هذا البلاء هو تجنُّبه، والابتعاد عنه قَدْر المستطاع، وإن
التعامل معه ينبغي أن يكون مقصورًا على الضرورة فقط».
كلام هذا الناشط يُعبِّر عن المأزق الذي تجد فيه إيران نفسها في تعاملها مع حركة
طالبان، والتي تُحْكِم قبضتها على الحكم في أفغانستان.
فمنذ عدة أسابيع تبادلت قوات طالبان وإيران إطلاق نار عنيف على الحدود بين البلدين،
مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من الجنود من الطرفين، مع تصاعد التوترات المتزايدة
بشكل حاد بسبب نزاع حول مياه نهر هلمند؛ حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتد برس
الأمريكية.
وينبع نهر هلمند في سلسلة جبال هندو كوش الأفغانية، ويتدفق عبر أفغانستان قبل أن
يتفرع بالقرب من الحدود مع إيران، ينقسم إلى نهر شيل تشاراك، الذي يُشكِّل الحدود
بين البلدين، ونهر سيستان الذي يتدفق غربًا إلى إيران.
يُعدّ النهر أحد شرايين الحياة الطبيعية في أفغانستان؛ إذ إنه الأطول في البلاد،
ويمتد إلى بحيرة هامون؛ التي تقع على الحدود بين الجارتين.
بدأ الوضع يتوتر حول نهر هلمند منذ عام 2021م مع افتتاح سد كمال خان في منطقة شاهار
برجاك الأفغانية. في حين تقول إيران التي تعاني من الجفاف:
«إن
السد سيزيد من هذا الجفاف»،
بينما وجهة النظر الأفغانية تقول بأن
«السدود
ستُؤَمِّن المياه لها بما يتماشى مع معاهدة عام 1973م المُبْرَمَة بين البلدين».
وتختلف رواية كل دولة منهما حول مَن بدأ بإطلاق النار؛ فوكالة أنباء
«إيرنا»
الإيرانية الحكومية تنقل عن نائب رئيس الشرطة في البلاد، الجنرال قاسم رضائي،
اتهامه لطالبان بفتح النار على الحدود بين مقاطعة سيستان وبلوشستان الإيرانية
ومقاطعة نمروز الأفغانية، وأضافت
«إيرنا»:
«إن
إيران ألحقت إصابات فادحة وأضرارًا جسيمة بطالبان».
وقالت
«إيرنا»،
نقلًا عن الشرطة الإيرانية:
«إن
اثنين من حرس الحدود الإيراني قُتِلَا».
ومع ذلك، قد يكون رقم القتلى أعلى من ذلك؛ حيث قالت صحيفة
«طهران
تايمز»
شبه الرسمية، التي تصدر باللغة الإنجليزية:
«إن
القتال أسفر عن مقتل 3 من حرس الحدود الإيرانيين».
وذكرت أن معبر ميلاك الحدودي مع أفغانستان -وهو طريق تجاري مُهِمّ- تم إغلاقه حتى
إشعار آخر بسبب تبادل إطلاق النار.
وقد جاء الاشتباك بعد أن حذَّر الرئيس الإيراني؛ إبراهيم رئيسي، في وقت سابقٍ،
طالبان من انتهاك حقوق إيران المائية في نهر هلمند.
في المقابل، اتهم المتحدث باسم وزارة الداخلية الأفغانية التابعة لطالبان عبد نافع
تاكور إيران بإطلاق النار أولًا. وقال تاكور:
«إن
تبادل إطلاق النار قتل شخصين؛ واحدًا من كل بلد، وأُصيب آخرون».
ووصف الوضع بأنه تحت السيطرة الآن.
بينما قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية، عناية الله خوارزمين في بيان:
«إن
إمارة أفغانستان الإسلامية تعتبر الحوار طريقة معقولة لحلّ أيّ مشكلة، وتقديم
الأعذار للحرب، والأفعال السلبية ليست في مصلحة أيٍّ من الأطراف».
ولكنَّ منظمة شبه حيادية تطلق على نفسها مجموعة
«هالفاش
الدعائية»،
-وهي تُقدّم تقارير عن القضايا التي تؤثر على شعب البلوش في مقاطعة سيستان
وبلوشستان ذات الأغلبية السنية- تنقل عن سكان المنطقة قولهم:
«إن
القتال وقع بالقرب من منطقة كانغ في نمروز».
وأضافت أن بعض الناس في المنطقة فرّوا من العنف.
وتضمَّنت مقاطع الفيديو التي نشرتها تلك المنظمة على الإنترنت، أصوات نيران مدفع
رشاش من بعيد. ونشرت
«هالفاش»
-في وقت لاحق- صورة لما بدا أنه بقايا قذيفة هاون، قائلة:
«إنه
يتم استخدام أسلحة ثقيلة وقذائف هاون».
وفي مقطع فيديو آخر نشرته تلك المنظمة، يُظهر القوات الإيرانية وهي تطلق قذيفة
هاون، وكذلك قوات طالبان تطلق نيران مدافع رشاشة أمريكية الصنع على نقطة حدودية
إيرانية.
وهنا يبرز السؤال: ما هي الأسباب الحقيقية للنزاع؟ هل هي ما تبدو على السطح؛ خلاف
على موارد المياه؟ أم أن الصراع له جذوره العقيدية والاستراتيجية والتاريخية؟ وما
احتمالات أن تتطور هذه الاشتباكات المحدودة إلى حرب شاملة بين الطرفين؟
للإجابة عن هذه الأسئلة؛ ينبغي البحث في العوامل التي تُشْعل الصراع بين البلدين،
بتتبع بنية النظام السياسي في كل من الدولتين، ومِن ثَم استنباط أهدافه
واستراتيجياته، ثم نعرج إلى تاريخ العلاقات بينهما وخصائصها، وعلى ضوء هذه العناصر
نحاول تتبع مسار الصراع الحالي واتجاهاته المستقبلية.
طالبان.. نظام على صفيح ساخن
طالبان عبارة عن مجموعة من طلبة العلم الشرعي الأفغان، نشأوا وتجمعوا سويًّا في
تسعينيات القرن الماضي في محافظة قندهار في جنوب أفغانستان، وأخذوا على عاتقهم
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصةً أن المجتمع الأفغاني في ذلك الوقت
كان يعاني من تفكك وتشرذم ناتج عن حرب أهلية مريرة اندلعت بين الجماعات العِرْقية
المختلفة، عقب الانسحاب السوفييتي؛ حيث كانت كل جماعة تطمح في الانفراد بالسلطة،
ويُغذِّي ذلك التناحر قوى خارجية تريد بقاء تلك الدولة في حالة تفكُّك.
تمكنت حركة طالبان -باستخدام القوة المسلحة- من إنهاء حالة النهب والسلب التي كان
يمارسها قُطَّاع الطرق والجماعات المسلحة تدريجيًّا، واتخذت من أحد علمائها، وهو
الملا محمد عمر، قائدًا لها، وذاع صيت الطلبة في الجنوب الأفغاني، وهو مركز ثِقَل
قبائل البشتون، وهو العِرْق الغالب في أفغانستان، واكتسبوا شعبية كبيرة بعد
استعادتهم الأمن في ربوع المناطق التي سيطروا عليها.
وهنا رأت المخابرات الباكستانية ضالتها المنشودة في مجموعات طالبان، وهي التي كانت
تطمح في مد نفوذها إلى أفغانستان كحديقة خلفية استراتيجية لها في صراعها المصيري مع
الهند.
وزوَّدت المخابرات والجيش الباكستاني طالبان بالسلاح والعتاد، بعد مساعدة الحركة في
تنظيم نفسها، لتصبح أقوى تنظيم عسكري في أفغانستان، وبدأت تكتسح المدن ومقاطعات
أفغانستان، وفي خلال سنتين تمكنت من حكم ما يقرب من 90% من أراضي أفغانستان، وسط
قبول شعبي وترحيب واسع من السكان والأهالي؛ حيث رأوا فيها طوق إنقاذ لهم من الفوضى
وانتشار أعمال السلب والنهب.
وبدخولها العاصمة الأفغانية كابول عام 1996م، أعلنت الحركة قيام الإمارة الإسلامية
في أفغانستان، ونقلت العاصمة إلى قندهار، وفي كلمته التي ألقاها أمام العلماء في
قندهار حينها؛ أعلنت حركة طالبان -على لسان مؤسسها الملا محمد عمر- أن هدفها الرئيس
هو إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة.
ولم تعترف بحكومة إمارة أفغانستان الإسلامية دبلوماسيًّا إلا ثلاث دول فقط؛ هي:
باكستان، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
واستمرت طالبان بالحكم حتى أُطيح بها بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في
ديسمبر 2001م في أعقاب هجمات 11 سبتمبر.
أعادت حركة طالبان تنظيم صفوفها بعد ذلك، واتخذت من منطقة القبائل الباكستانية
المجاورة قاعدة لها، وانطلقت بدعم باكستاني، في حرب عصابات ناجحة ضد القوات
الأمريكية وحلف الناتو والمتعاونين معهم من الأفغان استمرت زهاء عشرين عامًا، وبعد
مفاوضات طويلة مع الولايات المتحدة، تم توقيع اتفاقية سلام، وعلى إثرها دخلت الحركة
كابول، واستعادت السيطرة الفعَّالة على حكم أفغانستان مرة أخرى.
تنتمي طالبان فكريًّا إلى المدرسة الديبوندية، وهذه المدرسة ليست مذهبًا فكريًّا أو
عقيديًّا مستقلاً، بل هي أشبه ما تكون بجامعة الأزهر؛ حيث يقال: فلان أزهري، وهذا
لا يدل على انتمائه الفكري أو المذهبي، فقد يكون هذا الأزهري صوفيًّا أو أشعريًّا،
وقد يكون سلفيًّا، وكذلك الحال في الانتماء إلى المدرسة الديبوندية؛ فهي تنقسم إلى
اتجاهات عديدة، منها ما هو أقرب إلى مذهب أهل السنة والجماعة، كما عرفه علماء
السلف، ومنها ما يتصل بفرق أخرى كالماتريدية والأشاعرة، حتى إن العلامة شمس الدين
الأفغاني، وهو أحد أشهر ناقدي الديبوندية، يعود ويصنّفهم إلى ضروب وألوان؛ فمنهم من
هو أقرب شيء إلى أهل السنة والتوحيد كالجماعة الفنجفيرية ومن على شاكلتهم، فلهم
-كما يقول- مساعٍ جميلة في محاربة كثير من البدع والشركيات، لولا ما عندهم من عقيدة
ماتريدية، والتعصب المذهبي المقيت، وتحريف الأحاديث الصحيحة الصريحة نضالاً عن
مذهبهم الحنفي كالكوثرية كما يقول العلامة.
ولكنْ تواجه الحركة في نسختها الأخيرة؛ أي عندما عادت إلى الحكم منذ ما يقرب من
سنتين، ثلاثة تحديات كبرى لها دور مؤثر فيما يحدث مع إيران: تحدّي التنمية
الاقتصادية والاجتماعية، وفك طوق عزلتها الدولية، وأخيرًا تحدي الانقسام والتشتت.
بالنسبة لتحدي التنمية، فقد كانت المساعدات الأجنبية تمثل نحو 40 بالمئة من الناتج
القومي الإجمالي قبل دخول طالبان كابول، ولذلك فإن العقوبات التي تلقتها أفغانستان
بعد عودة الحركة جعل اقتصادها يعاني بشكل كبير.
ولكن بعد مرور عام من الحكم، صرح نائب وزير الاقتصاد في حكومة طالبان، عبد اللطيف
نظري، في تسجيل مصور له نُشِرَ على صفحة الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد في
تويتر، حيث قال:
«أحرزنا
تقدمًا لا مثيل له في أفغانستان في قطاع التجارة والاقتصاد، وقضينا على الفساد بشكل
كامل».
وأكد المسؤول أنّ
«صادرات
أفغانستان في عام 2022م وصلت إلى 1,8 مليار دولار، معظمها إلى دول الجوار، خاصةً
باكستان والهند، وهذا رغم المشكلات الكثيرة التي كنّا نواجهها في سبيل تصدير
البضائع من بلادنا».
وأضاف أنّ
«حكومة
طالبان تمكَّنت من جمع الضرائب بشكل كبير، وبصورة نزيهة وشفافة، ما جعل أفغانستان
توفّر ميزانيتها من مصادرها الداخلية»،
موضحًا أنّ السبب الأساس وراء ذلك هو أنّ الحكومة تمكّنت من القضاء على الفساد بشكل
كبير.
وحول قيمة العملة الأفغانية، قال نظري:
«إنّ
الحكومة تمكّنت من الحفاظ على قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية، بعد تمكّنها من
القضاء على الفساد، ووقف تهريب العملة».
ولفت نائب وزير الاقتصاد إلى أنّ جهود حكومة طالبان أدَّت إلى خفض معدل التضخم إلى
9,1% في 2022م مقابل 18,3% في 2021م، واصفًا إياه بالإنجاز الكبير، مشيرًا إلى أنّ
التجميد الأمريكي للأصول الأفغانية أعاق الحكومة عن تحقيق إنجازات أكبر في قطاعات
الاقتصاد المختلفة.
أما تحدي الحصار الدولي المفروض على أفغانستان؛ فقد تعاملت معه الحركة ببطء، ولكن
الحصار الدولي لطالبان ليس مثل المرة الأولى عندما كانت في الحكم في التسعينيات،
فقد كانت هناك هيمنة أمريكية منفردة، ولم تخضع الحركة لشروط تلك الهيمنة، فكان
الجزاء الحصار الذي طبّقته غالبية الدول حينها مستسلمة للتفوق الأمريكي، أما الآن
فهناك العديد من الدول التي تتحدَّى الهيمنة الأمريكية كالصين وروسيا، والتي لها
حساباتها الخاصة غير المرتبطة بالحسابات الأمريكية، بل تتحدى هيمنتها.
ولكن هذه الدول تضع شروطها الخاصة بها في استئناف علاقتها بطالبان؛ فالصين على سبيل
المثال، وطبقًا لما أوردته صحيفة جلوبال تايمز التابعة للحزب الشيوعي الصيني فإنها
تضع أربعة شروط للتعاون مع طالبان، منها اتخاذ موقف صارم ضد مقاتلي الأويغور،
وتشكيل حكومة شاملة، والابتعاد عن الولايات المتحدة، وتعديل سياساتها الداخلية،
ولكنَّ الصين أبقت على سفارتها في كابول مفتوحة، وتتفاوض معها الحركة في هذه
الشروط.
ويبقى التحدي الثالث الذي يواجه الحركة هو تماسكها؛ فهناك اتجاه أكثر تشددًا سواء
في التعامل مع القضايا الفقهية الخلافية، أو مع دمج غير البشتون في الحكومة؛ سواء
من أعراق أو مذاهب أخرى، وهذا الاتجاه يقوده الملا يعقوب ابن الملا عمر، والاتجاه
الثاني هم أعضاء شبكة حقاني ويمثلهم سراج الدين حقاني يبدو أكثر انفتاحًا مع دمج
مزيد من الأعراق والمذاهب الأفغانية، وقد نشب بين الفريقين خلاف وصل إلى رفع السلاح
بينهما وَفْق ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز بعد أسابيع من دخولهم كابول، وأدى إلى
مصرع ما يقرب من عشرين مقاتلاً من الجانبين، وادعت طالبان بعدها أنهم سقطوا نتيجة
إطلاق نار فرحًا بدخول وادي بنجشير. ووصل بعدها رئيس المخابرات الباكستانية إلى
كابول وحاول التوفيق بين المجموعتين، فتم تعيين رأس الفريق الأول وهو الملا يعقوب
نجل الملا عمر وزيرًا للدفاع، بينما تولى سراج حقاني وزارة الداخلية.
ولكن تبقى مشكلة التعاطي مع باكستان، من أكثر القضايا حساسية، والتي تُكرِّس مزيدًا
من الفُرْقة بين الطرفين، بينما يميل جناح الملا يعقوب إلى الحدّ من نفوذ باكستان
وفتح خطوط اتصالات مع كل من الهند وطالبان باكستان، ولكنَّ جناح حقاني، وهو الذي
درَّبته وموَّلته المخابرات الباكستانية، يعمل في اتجاه تدعيم النفوذ الباكستاني في
أفغانستان.
ويبدو أن طالبان طوال عشرين عامًا من الجهاد ضد الأمريكان كانت تعمل بطريقة
لامركزية كقوة مقاتلة، مما أتاح للقادة المحليين نوعًا من الاستقلالية لصياغة
السياسة حسب تقديرهم، وحتى الآن فإن هناك شكوكًا عديدة حول صياغة استراتيجية يعمل
في ظلها الجميع، ويتفقون على خيارات واحدة، تقف أمام التحديات الخطيرة التي
تواجههم، وتريد القضاء على مشروع طالبان برُمّته وبفصائله.
إيران.. ووهم الإمبراطورية
يمكن تلخيص خصائص الاستراتيجية الإيرانية، والتي تؤثر على صراعها مع طالبان بأنها
طائفية وبراجماتية وهجومية؛ فالطائفية تتمثل في تصدير النموذج الإيراني، يقول
الخميني:
«إن
ثورتنا يجب أن تُصدّر إلى كل أنحاء العالم، ولا يفهم من ذلك على نحو خاطئ -كما يقول
الخميني-، أننا نريد فتح البلدان، فمعنى تصدير الثورة هو أن تستيقظ كل الشعوب
والحكومات».
كما تتمثل في إقامة منظمات طائفية دون الدول، أو نسج علاقات مع كيانات طائفية لتكون
رأس حربة في التمدد والهيمنة، وبالفعل ومن خلال هؤلاء الوكلاء غير الدوليين استطاعت
إيران تمديد نفوذها الإقليمي على نحو واسع، خاصةً في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
وفي تقرير مُطوّل يرصد مركز كارنيجي الأمريكي الطائفية في السياسة الإيرانية؛ حيث
يُلاحَظ أن السلوك الإقليمي الإيراني منذ الربيع العربي قد نحا منحًى أكثر طائفية،
ويلحظ التقرير أن الحرس الثوري بات ينظر إلى نفسه وإلى ساحة المعركة السياسية
الإقليمية ككل من منظور طائفي، وبيانات مسؤولي الحرس الثوري وسلوكهم يشهدان على مثل
هذا التحول، وأن أجندة الحرس في الشرق الأوسط باتت تحت سطوة النوازع الطائفية.
وأما البراجماتية الإيرانية فتقتضي توظيف القوة الناعمة في علاقات إيران الخارجية،
وتأتي الدبلوماسية على رأس هذه القوة، وأقوى صورها ظهرت في تقديم تنازلات لصالح
الوكالة الدولية للطاقة الذرية كلما زادت وتوسعت دائرة الضغط الأمريكي الأوروبي
والصهيوني.
وتتضح البراجماتية أيضًا في الخطاب الثوري المعادي لأمريكا والغرب، وتناولها للقضية
الفلسطينية وعلاقتها مع حماس؛ حيث يتباهى علي شمخاني رئيس جهاز الأمن القومي
الإيراني مدعيًا أنه فيما تلتزم الدول السنية جانب الصمت في ما يتعلق بالجرائم
اللاإنسانية التي يرتكبها العدو الصهيوني؛ يأتي
«الشطر
الأعظم»
من الدعم للشعب الفلسطيني المظلوم من شيعة إيران.
وأخيرًا فإن من سمات الاستراتيجية الإيرانية: تطوير الاستراتيجية الهجومية عن طريق
استغلال الجغرافيا السياسية لإيران (الموقع، الجوار، الحجم وعدد السكان)، والثروات
الطبيعية، وعلى رأسها النفط والغاز والإنتاج العلمي والثروة البشرية، وتطوير
القدرات العسكرية المختلفة، ومنها البرنامج النووي، والطائرات المسيرة، والصواريخ
بعيدة المدى، والقدرات العسكرية خارج الجيش، وأهمها الحرس الثوري وأذرعه.
علاقات إيران وطالبان.. والبراجماتية
تمتد الحدود بين إيران وأفغانستان إلى ما يقرب من 900 كيلو متر، وهي حدود جغرافية
طويلة، ونظرًا لأن أفغانستان تعاني من حروب لفترات طويلة، تبدو هذه الحدود وكأنها
خاصرة إيران الضعيفة.
في عام 1998م، وخلال فترة حكم طالبان الأولى كادت تقع حرب بين الجانبين بعد قيام
مجموعة من طالبان باغتيال دبلوماسيين إيرانيين في هجوم على القنصلية الإيرانية في
مدينة مزار شريف الأفغانية، ولقد كان هؤلاء الدبلوماسيون حلقة الوصل بين الدعم
الإيراني العسكري لأحمد شاه مسعود عدو طالبان الأكبر في ذلك التوقيت.
وتعاونت إيران مع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، والذي أنهى حكم طالبان، وقامت
بتزويد القوات المعارضة للحركة -بما فيها الأمريكية وفق مراقبين- بخرائط تظهر مواقع
القوات والقواعد التابعة للحركة، حتى إن نائب الرئيس الإيراني بعدها تباهَى
بتصريحات علنية وقال:
«لولا
الدعم الإيراني ما سقطت بغداد ولا كابول».
ولكن طيلة عشرين عامًا من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، ومقاومة طالبان له؛ جرت في
النهر مياه كثيرة، وتغيرت المصالح والاستراتيجيات، وبالتالي تغيرت نظرة الولايات
المتحدة إلى إيران خاصة بعد تمدُّدها بأذرعها في المنطقة، وكونها باتت تتحكَّم في
القرار السياسي في عواصم مهمة وكبرى، في بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، بل قطعت شوطًا
مُهمًّا في برنامجها النووي، وصارت قريبة من إنتاج السلاح النووي، وتحوَّلت إيران
من دولة تَبتزّ بها أمريكا دول المنطقة، إلى دولة إقليمية كبرى لها طموحاتها
الإقليمية وربما العالمية، وتهدِّد تفوق الحليف الاستراتيجي والديني للولايات
المتحدة وهو الكيان الصهيوني، ومِن ثَم يجب لَجْم هذه الدولة وإرجاع دورها إلى
الحَيِّز المطلوب منها.
ولذلك تشعر إيران بتخوُّف حقيقي من أن المقصود بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان،
تحويل أفغانستان من مستنقع واستنزاف للولايات المتحدة إلى مستنقع للقوى الأخرى
المنافسة لها؛ مثل روسيا والصين وإيران، ويظهر ذلك في تصريح قائد القوات الجوية في
الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زاده أواخر الشهر الماضي:
«البعض
يرغب في اندلاع حرب ضد طالبان. لكنَّ أعداءنا يقفون وراء هذه الاستفزازات؛ لأنهم
يريدون اندلاع حرب بسبب الاشتباكات الحدودية، لكن هذا لن يحدث تحت أي ظرف».
كما أن إيران تخشى أيضًا من قيام تحالف عربي أفغاني، يكون بمثابة كماشة على
تمدُّدها الإقليمي.
كل هذه الحسابات يأخذها صانع القرار الإيراني، وهو يرى النزاع حول المياه؛ خوفًا من
اتخاذ هذا الموضوع ورقة في يد قوى تريد تحجيم الطموحات الإيرانية.
أما طالبان فيتنازع في داخلها موقفان: موقف براجماتي سياسي يرى أنه يجب التعامل مع
الدول أو جماعات المعارضة بمنطق التفاوض والاستيعاب، وموقف معاكس يرى أن التغاضي
عمَّا بدا أنه تهديدات إيرانية، يضرّ بمستقبل الحركة، ويشجّع الآخرين على خلخلة
قبضة طالبان على السلطة، ويُضعفها أمام أعدائها في الداخل والخارج.
لذلك يبدو الطرفان، سواء إيران أو طالبان، غير راغبين في إيصال النزاع بينهما إلى
مرحلة الحرب، والتي ستضر بكلٍّ منهما سواء داخليًّا أو خارجيًّا، في ظرف دولي
وإقليمي غير ملائم.