الطرفان يفهمان بعضهما البعض جيدًا. والمثال الأشهر تاريخيًّا على ذلك، هو ما وُصِفَ في الولايات المتحدة بفضيحة «إيران كونترا» أو «إيران جيت».
إذا كنت متطرفًا -أيًّا كان اتجاه هذا التطرف فكريًّا كان أم سياسيًّا أو
مجتمعيًّا- فأنت محظوظ، حين يكون الطرف الآخر في الصراع معك متطرفًا أو أشد تطرفًا
منك. وإن لم يكن لك مثل هذا الخصم، فابحث عن الأشد تطرفًا في مجتمع عدوك أو منافسك،
وادعم وصوله للسلطة؛ لكي تطيل عمر بقائك أنت في السلطة في بلادك، ولكي تحقق أهداف
سياستك الخارجية.
تلك قاعدة أساسية في نشاط المتطرفين في كل زمان ومكان، خلال إدارة العلاقات
الخارجية. ويصل الأمر حد
«فتح
الطريق»
للمتطرّف والدعاية المكثّفة له، وجعله عنوانًا
«للمجتمع
الآخر»؛
لتشويهه وشنّ الحرب عليه سياسيًّا وعسكريًّا، تحت عنوان مواجهة التطرف أو الإرهاب.
وهي أيضًا، إحدى قواعد إدارة الحكم داخليًّا لدى بعض الساسة. قال أحدهم للقادة
العاملين معه:
«إنه
يقلق بشدة إذا لم يجد تطرفًا على يمينه وعلى يساره، وأنه يسعى دومًا لكي يظهر طرف
متطرف على يساره أو يمينه، ليكون لديه أوراق يلعبها في مناوراته الداخلية والخارجية».
وقال لهم:
«إن
لم تجده فاصنعه بنفسك، وضَخِّم من قوّته إعلاميًّا؛ لتظهر أنت بمظهر المعتدل الواقع
تحت ضغط المتطرف. وحين تشتد الضغوط عليك لَوِّح للضاغطين بالمتطرف».
وحين سئل: أليس واردًا أن يأخذ الحكم منا، هذا المتطرف؟ قال لهم:
«المتطرف
يسهل عزله ولا يستطيع تحقيق نسبة إجماع عليه في المجتمع. والمتطرف لا يملك برنامجًا
قابلاً للتطبيق، وهو بفعل وجوده نفسه يصنع خصومًا له. ودورنا أن نُخوِّف به ومنه،
وأن نجعله يدور في دائرة مفرغة».
وهكذا للأسف في زمن السياسة البرجماتية، وفي زمن السياسة المنزوعة الأخلاق، وحُكم
النُّخَب المتآمرة والحكومات المعلقة في الهواء والعاملة لخدمة أيديولوجيات خارج
إطار أهداف المجتمع أو نُخَب متآمرة، تجري إدارة السياسات الداخلية والخارجية وفق
تلك المفاهيم، وتكون تلك هي أدوات تسييرها.
والمناسبة فإن العلاقات الصراعية الجارية بين نتنياهو وخامنئي، بُنِيَت خططها
واستراتيجيتها على تلك الأفكار، واعتمدت تلك السياسات على الجانبين، وإلى درجة يمكن
القول معها: إن بين الطرفين مصيرًا مشتركًا، وان بقاء كليهما في السلطة يتطلب بقاء
الآخر وإن سقوط أحدهما يطرح سقوط الآخر.
وتاريخ تخادم المصالح في العلاقات بين إيران والكيان الصهيوني، كحكام متطرفين لم
يبدأ الآن، بل يعود إلى بداية وصول الخميني للسلطة.
والجديد الآن هو تسارع تكتيكات تخادم المصالح بينهما إلى درجة قد تؤدّي لحدوث صدام.
تاريخ العلاقات الصهيونية الإيرانية راسخ في اعتماد تلك المعايير، وفي تخادم
المصالح بينهما وفق تقديرات مدققة. الطرفان يفهمان بعضهما البعض جيدًا. والمثال
الأشهر تاريخيًّا على ذلك، هو ما وُصِفَ في الولايات المتحدة بفضيحة
«إيران
كونترا»
أو
«إيران
جيت».
ففي تلك الفضيحة، ورغم رفع شعارات الشيطان الأكبر في إيران، ورغم سَنّ الكونجرس
قرارًا بمنع إمداد إيران بالسلاح وقِطَع الغيار؛ وجد الطرفان نفسيهما أمام ضرورة
تخادم المصالح المنسَّق والمتَّفق عليه. توافق الطرفان الحاكمان في إيران والولايات
المتحدة على اختراق الشعارات (إيرانيًّا) وقوانين الكونجرس (أمريكيًّا). وكان
اللاعب الأساسي في إدارة هذا التخادم هو الكيان الصهيوني.
كان متطرفو إيران بحاجة للسلاح الأمريكي في أوج الحرب الإيرانية على العراق؛ إذ كان
كل تسليحهم في زمن الشاه، أمريكيًّا. وكان الصهاينة بحاجة لتقوية إيران لتحطيم
العراق الذي كان يناصبهم العداء، فدخلوا على خطّ الإدارة الأمريكية؛ إذ كان ريجان
على بُعْد خطوات من الانتخابات، وكان بحاجة لإطلاق سراح 5 أمريكيين محتجزين في
لبنان...
ما كان لافتًا وذا دلالة بالغة، إن كان الموساد الصهيوني هو من لعب دور الوساطة في
الصفقة، وهو مَن كان المُحرّض عليها والمنفّذ لخطواتها... لعب الشيطان الأصغر دور
الوساطة بين الشيطان الأكبر ومن رفع شعارات مناصبة العداء معه. وجرى نقل السلاح
الأمريكي لمتطرفي إيران مِن قِبَل متطرفي الكيان الصهيوني مباشرةً.
لكنَّ الأمر لا يتوقف على التخادم المباشر؛ فالأخطر هو تخادم المصالح دون تواصل
مباشر. وهو يجري وفق تقدير دقيق من الطرفين الصهيوني والإيراني لطبيعة النظام الآخر
وأهدافه ومصالحه ولسياساته، وللّحظة السياسية التي يمر بها.
وتلك هي الحالة الدائمة بين إيران تحت حكم خامنئي ورئيسي من جهة، ونتنياهو ومجموعات
المتطرفين وقطعان المستوطنين من جهة أخرى.
لقد رأينا نتنياهو يحاول الخروج من أزمته الداخلية المستعرة عبر قصف إيران. وفي ذلك
أدركت إيران مدى استفادة نتنياهو في محاولة تغيير جدول أعمال المجتمع الصهيوني،
وجاء الرد الإيراني بالمقدار الذي يسمح للنظام الإيراني بالاستفادة من هذا القصف.
جرى تسكين عملية القصف تحت بند تعرُّض النظام الإيراني لعدوان خارجي. استفاد
النظام؛ إذ ذهب في دعايته لإبراز نفسه في دور المُعتدَى عليه بسبب موقفه المدافع عن
مصالح واستقلال البلاد، ليُضْعِف الضغوط الداخلية ومظاهرات الشارع. وجرى تحريك نصر
الله ليُعلن أن صواريخه موجَّهة لتل أبيب، ليفهم العامَّة في إيران أهمية الإنفاق
على الأذرع الخارجية، ويشيد بحكمة القيادة في الدفاع عن البلاد المعرَّضة للهجوم،
من خلال الأذرع الخارجية.
وهكذا فتخادم المصالح غير المباشر يصعب اكتشافه، ولا تنتج عنه فضائح تنشر على الرأي
العام، وهو يزيد ويفاقم حالة خداع الرأي العام... إلخ.
غير أن تكتيكات التخادم غير المباشر، قد ينتج عنها اصطدام واقتتال، حال وقوع خطأ في
تقديرات اللحظة السياسية التي يمر بها طرفا اللعبة الاستراتيجية.
التخادم الإعلامي والسياسي
لقد ارتبط بقاء الطرفين في السلطة بدور الآخر. استخدم كلاهما الآخر، كفزّاعة لتخويف
الجمهور العام، لكي يقبل به أو أن بعود للسلطة إذا فقدها؛ باعتباره القادر على
مواجهة الآخر المتطرف.
استخدم الحكم في إيران الادعاء بمواجهة الخطر الصهيوني والأمريكي على إيران، لتبرير
فشله الاقتصادي وقمعه الداخلي ورفضه السماح بتشكيل أحزاب مُعارضة في داخل إيران،
واتهام كل مَن يعارض النظام بالخيانة والعمل لمصلحة الكيان الصهيوني والغرب. وتحت
ذات العنوان جرى تعزيز دور الحرس الثوري والميلشيات -أو شركات المرتزقة الإيرانية
في المنطقة العربية- في تعزيز الدور الاستعماري لإيران في المنطقة العربية.
وما كان لنتنياهو بالمقابل، أن يعود للسلطة في الكيان الصهيوني -وهو المتهم في
قضايا فساد- إلا بفضل التطرف الذي يظهر عليه خامنئي ورئيسي وإدارته، ونصر الله
وجماعته، والميلشيات الإيرانية في سوريا بل حتى في العراق. نتنياهو يتّهم الصهاينة
الآخرين بأنهم ضعفاء، وأنه وحده من يستطيع مواجهة الإرهاب الإيراني، ومن يستطيع
اتخاذ قرار بإنهاء البرنامج النووي العسكري الإيراني. وهو يَستخدم تصريحات متطرفي
إيران كفزّاعة للقبول الآن بما تصفه المعارضة بانقلاب نتنياهو.
وهكذا يدين خامنئي ورئيسي بالفضل لنتنياهو بالاستمرار في السلطة، ويدين نتنياهو
لخامنئي ورئيسي بالعودة للسلطة، فلم يبق خامنئي في السلطة رغم الفشل والقمع إلا
بفضل وجود نتنياهو وتصريحاته الزاعقة دون ترجمة فِعْل ضد السلطة في إيران. ولم
يَعُد نتنياهو للحكم إلا بفضل تصريحات خامنئي ونظامه عن تدمير الكيان الصهيوني
ومَحْوه من الوجود، بما يجعل نتنياهو يقدم نفسه كحامي حِمَى أمن التجمُّع الصهيوني
من التدمير والفناء والمحو من الوجود التي يطلقها خامنئي وأعوانه طوال الوقت بلا
فِعْل.
ومن الأصل؛ فإن كل ما حققته إيران في الإقليم من نفوذ تدخلي، جرى تحت ستار التخويف
من الكيان الصهيوني وتحت عنوان الممانعة والمواجهة. هؤلاء لم يشوّهوا معاني تلك
المسميات فقط، بل استخدموها وهم لا يعملون بها -بل ضدها- لتقديم أنفسهم للرأي العام
العربي سواء بإظهار أنفسهم كبديل للضعف العربي، أو كأبطال يصنعون المستقبل، وهم
ألدّ أعدائه.
وفي المقابل، فقد استفاد نتنياهو من الدور الإيراني في الإقليم العربي لطرح نفسه
ودولته في موقع الحامي من التطرف والإرهاب الإيراني.
التقاء بين استراتيجيتين
ما كان لنتنياهو أن يطرح خططًا تتعلق بإنشاء نظام أمني إسرائيلي عربي مشترك، إلا
بفضل الدور والخطة الإيرانية للتغلغل والتدمير في الإقليم. وإذا كان ما قامت به
إيران من حروب أهلية وتفكيك للمجتمعات وإضعاف للدُّول ومؤسساتها قد صبّ في النهاية
في صالح الكيان الصهيوني، فيمكن القول أيضًا: بأن نتنياهو قد شيَّد استراتيجيته
وسَعْيه لكسر إرادة الرفض العربي للوجود والدور الصهيوني ولأعمال التطبيع على أساس
التخويف من إيران ودورها.
لقد كان لدور إيران الخميني، ومن جاء بعده تأثير خطير على توازنات الصراع؛ إذ شكل
هؤلاء تهديدات استراتيجيَّة للدول والمجتمعات العربية في الجناح الشرقي للأمن
القومي العربي، بما فتَّت جُهْد مواجهة الكيان الصهيوني. فكلّ ضَغْط إيراني استفاد
منه الكيان الصهيوني، والعكس بالعكس.
وكان لما حققته إيران من أعمال تدمير في العراق وسوريا واليمن وغيرها، أبلغ الأثر
في تحوُّل الكيان الصهيوني لاعتماد خطط استفادة مباشرة ودائمة من هذا التدمير.
ويمكن القول بأن نتنياهو هو مَن طوَّر الاستراتيجية الصهيونية من حالة الاستفادة
العامَّة من الاستراتيجية الإيرانية، إلى حالة خططية ومشروع محدد بُنِيَ على ما
ألحقته إيران بدول المنطقة من تدمير، بعدما انتقل دورها من حالة الضغط وتشتيت القوة
العربية بين عدوَّيْن، إلى تدمير الدول من الداخل.
لقد كان نتنياهو سعيدًا دومًا بالتغلغل والتفكيك الإيراني لسوريا والعراق، ولتهديد
إيران لدول عربية أخرى بإسقاط الحكومات. وكان أشد سعادة بالدور الإرهابي الذي تلعبه
الشركات الأمنية الإيرانية أو شركات المرتزقة الإيرانية في المنطقة العربية
-الميلشيات-؛ إذ هي مَن تقوم بدور التدمير للقوة والمجتمعات العربية.
لقد طرح نتنياهو استراتيجية بناء تحالف أمني عربي صهيوني انطلاقًا من الدور
التخريبي والتفكيكي الإيراني في الدول العربية.
تصاعد حالة التخادم
تشهد حالة تخادم المصالح تسارع تكتيكات الطرفين؛ لمرور كلٍّ منهما بأزمات خانقة في
المرحلة الحالية. ولذا فإن عيني الطرفين لا تغيب عن بعضهما البعض، ويزيد اعتماد كلّ
منهما على الآخر في تقرير سياساته وتحركاته.
إيران تمثل أولوية أولى لنتنياهو في دعايته لدَوْره في حماية كيانه بعد تفجُّر
الصراع الداخلي إلى آفاق تهدِّد بقاء الكيان الصهيوني، وقد وصل الأمر خلال الأيام
الماضية إلى حالة تمرُّد بين العسكريين في أكثر من اتجاه. لقد دخلت المؤسسة
العسكرية على خط الاحتجاجات بإعلان جنود الاحتياط عدم امتثالهم للتدريب، ورفض
الخدمة؛ حال إقرار التعديلات القضائية. وهو ما جاء بعد احتجاج مماثل للطيارين، وهو
ما يُوصَف بالتهديد الوجودي للكيان.
وهو ما سيدفع نتنياهو إلى تسريع تكتيكاته وتنويعها باتجاه إيران، وربما ينتج عنها
مخاطر شديدة بسبب شدة الضغوط.
وسيكون الكيان الصهيوني أولوية لدى خامنئي ورئيسي لحماية وبقاء السلطة الحاكمة
بعدما فشلت جهود مؤسساته في إنهاء جذوة الانتفاضة الجارية في إيران منذ شهور،
ولإدراك النظام أن الخمود الظاهري في فعاليات التفجر، هو عنوان لتفجر خطير قادم.
كما أنه لا مجال أمام إيران للتصعيد الخارجي أو لإثارة فزاعة للداخل سوى الكيان
الصهيوني بعد خمود الصراع، ولو مؤقتًا، مع بعض الدول العربية.
ولذلك فالأغلب أن كلا الطرفين ذاهبان إلى تصعيدٍ فيما بينهما، يساهم فيه دخول إيران
والكيان الصهيوني بقدر من الانحياز إلى طرفي الصراع في أوكرانيا، وتخلخل معادلات
الصراع حول سوريا واضطرابها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا من جهة، وزلزال وانتخابات
تركيا من جهة أخرى. كما أن حالة تخادم المصالح المخطّط قد تشهد ارتباكًا وإضرابًا
في حساباتها بعد ما أعلن عن اتفاق عسكري بين الكيان الصهيوني وأذربيجان.